ألقِ نظرة على الاستقطاب السياسي المضطرب في أميركا اليوم، وسيرتسم في مخيلتك سيناريو محبوكاً لاضمحلال إمبراطورية كبرى. لن تشطح بعيداً، ادخل على مواقع التواصل الاجتماعي لتتبين الشقاق الحامي. أمَّا الخيال فيسْلك سبيلاً متعرجاً من الاضمحلال حين يتهاوى كيان أقوى دولة في القرن الثاني والعشرين، على يد أبنائها أنفسهم. هذا على الأقل ما ترسمه الرواية الأولى للصحافي المصري عمر العقاد «حرب أميركية» المكتوبة باللغة الإنجليزية والصادرة عن دار نشر «راندوم هاوس» عام 2017. وكان العقاد قد ارتحل في أرجاء الأرض ليغطي أخبار الحرب في أفغانستان والمحاكمات العسكرية في خليج غوانتانامو والربيع العربي في القاهرة وحركة «الحيوات السوداء مهمة» في ولاية ميزوري الأميركية.
في الماضي أدارت أميركا كوارثها في الشرق الأوسط من على بعد مريح إلا أن فاجعة القرن الثاني والعشرين في رواية العقاد تقع في عقر دارها. ماذا لو انقلب السحر على الساحر وسددت أميركا أعتى أسلحتها وأشد سياساتها فتكاً ضد نفسها؟ ماذا لو أقبلت حربا أفغانستان والعراق إلى أرض الحرية؟ حينها يغتال انشقاقيٌّ رئيساً أميركياً في بداية الرواية وآخَر في نهايتها، وتقع المجازر المروعة لتتنبأ بربرية السحق والإبادة برؤية مستقبلية عالمة بالغيب، وتقُوم الميليشيات بالعمليات التفجيرية شمالاً وجنوباً، ثم تعجّ السماء بطائرات أطلقها محتلون عسكريون، وتبتلع المياه مدينة نيو أورلينز لنشهد «شعائر المعمودية لأميركا الجديدة».
يأمر الرئيس الأميركي «مجتمعَه الذكي» بالكف عن استخدام الوقود الحجري، ولكنْ لولايات الجنوب رأي آخر في قراره السيادي. مصلحة صناعة التعدين فوق كل اعتبار، ومعاول الحفر لا تمسك لديهم عن التنقيب والحرق. تذكِّرنا ثنائية الشمال والجنوب بالحرب الأهلية الأولى وصراعهما حول تحرير العبيد. هنا أيضاً يستاء الشمال من الانتهاك السافر لأوامره، فيسدد أسلحته البيولوجية جنوباً حيث يتأمل العقاد «أنانية الحرب وبلاهتها»، وانشغال الطرفين بنزاعات كونية ومحلية، تُعمل فأسها في التربة الأميركية. والخيط الواصل بينهما يتقصى أثر ضريبة الحرب المسعورة وتبعاتها على الاستقرار القومي.
يحتمي المواطنون البسطاء بحاويات من الصلب المموَّج عثروا عليها في فناء للسفن، وفي داخلها يهدد حياتهم الصدأ والعفونة. يربّون دجاجاً مهزولاً «كان على شفا التمرد أو الموت، ذبحوه قبل الأوان بأعناق مقحَمة بين مخالب جذع شجرة قريب». وإليهم تفد المؤن من المحْسِنين من القوتين العظميين الجديدتين، وهما الصين وإمبراطورية بوازيزي المتخيَّلة بشمال أفريقيا.
يحكي الراوي العجوز أن فيروساً عضالاً سجن الأميركيين في حَجْرٍ صحي إلى الأبد. مَن يحاول منهم الهرب لا ينال إلا رصاصة. ومَن لا يموت جوعاً يلبث في منزله الموصود بينما يفد إليه المشردون أفواجاً، عرايا حفاة يتسولون اللقمة: «هاجمت الكرة الأرضية البلدَ، ثم هاجمت البلدُ نفسَها. ثمة بطاقات بريدية عليها صور الجنوب الغربي قبل أن يتحول إلى جمر؛ صور لسهول الغرب الأوسط، لا نهائية، فارغة أسفل سماء بديعة الزرقة قبل أن تعج بنازحي الساحل. تذكِرة بصرية لما كانت عليه أميركا في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين: محلِّقة في السماء، هادرة الصوت، غافلة الذهن».
ومع تلويحها باحتمالية تفتيت الولايات إلى أمم مصغرة وفقاً للعرق والعقيدة والآيديولوجيا، تقترب هذه الرواية من الروايات النبوئية كروايات الكندية مارجريت أتوود، وروايات الإنجليزي جورج أورويل.
في بلورة زجاجية، يرمق العقاد «بسارات تيشتنات»، فتاة تتمرد على المجهول ولا تهاب النكبات، نستدعي معها شخصية كاتنيس في سلسلة أفلام «ألعاب الجوع». كانت في السادسة ربيعاً عند اندلاع الحرب الأهلية الثانية وتفشِّي وباء رسَمَ الندوب على صفحة أسرتها في عام 2074، وعلى خلفية من صراعات الأحزاب المتناحرة، يقُوم أمثالها من المنبوذين بدور أبواق البروباغندا. عندما يتواصل معها أحد المسؤولين في أثناء إقامتها في معسكر «الصبْر» للنازحين، يعلِّمها أن تبغض عدواً لا تفقه عنه شيئاً لتقع ضحية لآيديولوجيا العنف المجاني والعنف المضاد.
يخبرها أنه يفتش في الجنوب، حيث تُفَتِّت الهيراركية الاجتماعية المجتمع وفقاً للجغرافيا والطبقة، عن «أناس متفردين، أناس لو لديهم الفرصة والأدوات اللازمة، سيصمدون ويواجهون العدو نيابة عن الضعفاء». وحين يغريها بتحويلها إلى درع إرهاب بشري، تنثال على ذاكرتنا رواية فيليب روث «المؤامرة على أميركا» (2004) عندما تُقطِّع الأحداث القومية روابط الأسرة الأميركية إرباً إرباً.
إن ما بين أيدينا في «حرب أميركية» دراسة نبوئية عن سيكولوجية الحرب والعنف. ولا يصح تصنيفها في فئة الخيال العلمي، إذ يسود شعور بأنها مستقاة من واقعنا بما يضمه من إرهاب وعنصرية وصراعات وحشية على السلطة. الحقيقة أن معطياتها جديرة تماماً بالتصديق. فالعمل مقْنع بلا كلمة واحدة تُناقض العلم، لا أشباح ولا عفاريت ولا غيبيات. ليست تلك هي مصدر الخوف في هذه الأيام، وإنما الجهل بالعلم وتقلبات البيئة، والاثنان يستخدمهما المؤلف لوضع تأريخ لنهاية العالم كما نعهده.
لا محل للتفاؤل في هذه الرواية. السلام هش تنتهكه الفِرَق بين الأسبوع والتالي، ونفير الحرب الضروس ينطلق ليمزق حياة مشوَّهة في الأصل صنعها الناجون. حتى في لحظات الأمل لمَّا تضع الحرب أوزارها، يطلق إرهابي سلاحاً بيولوجياً يتسبب في فيروس يُهلك 100 مليون نسمة. ومثلها مثل رواية «الطريق» للكاتب الأميركي كورماك مكارثي، سوف يتردد صدى هذه الرواية المخيفة لأجيال مقْبلة، وذلك لمزاوجتها بين ثنائية القمع والمقاومة من جانب، وتدمير البيئة على يد البشر من جانب آخر. والقضيتان تتلقفهما تكنولوجيا القرن الثاني والعشرين لتحصد أرواح مئات الملايين.
لا شك أن عالم أميركا الميلودرامي المتفجر من الداخل سوف يلبث طويلاً في أذهاننا. يروي العقاد في النهاية كيف تنضج الفتاة البريئة لتتفجر قنبلة في وجه القوة العظمى، وكيف تؤرخ قوى الشر المطمورة حيواتنا ومعاشنا. لا يوجد حد فاصل بين الأخيار والأشرار في هذا العمل، الكل ينتهي النهاية نفسها. والأمة «المتقدمة» تُمزقها آيديولوجياتها المتضاربة بعد أن أضمرت في طياتها بذوراً تقوضها.
هل تنفجر أميركا من الداخل في القرن الثاني والعشرين؟
المصري الأميركي عمر العقاد على خطى مكارثي
هل تنفجر أميركا من الداخل في القرن الثاني والعشرين؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة