«موبي ديك» على المسرح الأميركي

تقديمها على الخشبة كان يعتبر نوعاً من الجنون

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

«موبي ديك» على المسرح الأميركي

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

يكاد مجرد التفكير بتقديم رواية هرمن ملفيل الشهيرة «موبي ديك» على خشبة المسرح يعتبر ضرباً من الجنون، ذلك لأن معظم أحداث تلك الرواية الضخمة يدور على متن سفينة صيد حيتان يقودها الكابتن إيهاب، صاحب الساق الخشبية بعد أن قضم ساقه حوت أبيض عملاق، فأصابه هوس مطاردة واقتناص ذلك الحوت المسمى «موبي ديك» انتقاماً منه لما فعل. بالتأكيد، يبدو المسرح، على الرغم من تطور إمكانياته التكنولوجية في العصر الحديث، مجالاً فنياً مستحيلاً أمام عمل كهذا، بحيث اقتصرت مقاربات هذا العمل الروائي الفريد على السينما والتلفزيون. هكذا، سبق أن قاربت السينما رواية هرمن ملفيل (1819 – 1891) «موبي ديك» كثيراً من المرات، لكن مقاربة هذه الرواية الملحمية ظلت في المسرح أمراً نادر الحدوث، بل لم يسبق لي أن سمعت شخصياً بأحد أقدم عليه على الإطلاق، إذ هل يمكن أن يتجرأ خيال مخرج على أن يوزع دور الحوت الأبيض إلى ممثل؟ وكيف يمكن أن يجسد المخرج الصراع بين صيادي الحيتان والبحر الهائج وحيتانه الضخمة على خشبة مسرح؟ بل هل يجرؤ مؤلف مسرحي أصلاً على مقاربة تلك الرواية المعتبرة بين أعظم الروايات الأميركية الرائدة قاطبة وإعدادها كنص مسرحي حافل بالحوار؟ أسئلة كثيرة ستحوم بلا شك في ذهن أي متفرج قبل أن يحضر إنتاج فرقة «لوكينغ غلاس» لهذه الرواية مسرحياً، وذلك بعد أن جال عرض «موبي ديك» كثيراً من المدن الأميركية خلال عامين قبل أن يعود ليستقر به المقام في عقر دار المسرح الذي انطلق المشروع منه في وسط شيكاغو.
بدأت قصة العرض في عام 2014، من خلال عرض مسرحي تجريبي قدمه قسم المسرح في جامعة «نورث وسترن» من اقتباس وإخراج ديفيد كاتلين، الذي ما لبث أن انتقل بمشروعه من طاقم التمثيل الطلابي إلى طاقم محترف لفرقة «لوكينغ غلاس» Lookingglass الطليعية المحترفة في قلب شيكاغو. قام العرض بجولة واسعة في أرجاء الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى مسرحه في شيكاغو ليحظى بإقبال كثيف وإعجاب فائق من الجمهور، الذي كثيراً ما وقف أفراده مصفقين بحرارة، سواء للإخراج أم لأداء الممثلين المدهش، ولمهارة الأكروباتيين منهم في القيام بألعاب بهلوانية لا تخلو من المخاطر.
لا يمكن أن ينسى أي طالب أميركي الجملة الشهيرة التي يفتتح بها ملفيل روايته على لسان راوي أحداثها: «اسمي هو إسماعيل» انطلاقاً من هذه الجملة البسيطة الواضحة، يروي البحار الشاب إسماعيل أحداث مغامرات صيد الحيتان بالتفصيل الشديد، كيف تعرف إلى زميله الملون، الذي يحمل تابوته معه أينما رحل، وكيف تفاعل مع ضباط سفينة صيد الحيتان وطاقمها من البحارة، وما هي المغامرات التي خاضوها إلى أن وصلوا إلى المواجهة الأخيرة مع الحوت الأبيض العملاق موبي ديك.
يعتبر هرمن ملفيل أحد أبرز من أرسوا ملامح فن الرواية الحديثة في العالم، سواء في رواياته الاجتماعية مثل «مول فلاندرز»، أم في رواياته عن البحر مثل «بيلي باد» (التي سبق ومسرحت كثيراً من قبل)، أم في أعماله الأدبية الأخرى عن الجزر النائية والقبائل غريبة الأطوار والمعتقدات التي تقطنها، مثل روايتيه «أومو» و«تايبي». لكن رواية «موبي ديك» تبقى إنجازه الأهم والأعظم، والعمل الأدبي الذي ألهم مخرجي السينما والتلفزيون كثيراً من الأعمال الفنية على مرِّ السنين. جدير بالذكر، أن أول المقاربات السينمائية كان فيلم «موبي ديك» (1930) من إخراج لويد بيكون وبطولة جون باريمور. ثم جاء الفيلم الأكثر تميزاً عن رواية «موبي ديك» (1956)، وهو من إخراج جون هيوستون وبطولة غريغوري بك. ثم قاربت الدراما التلفزيونية رواية «موبي ديك» (1998) في عمل متوسط النجاح لعب بطولته باتريك ستيوارت، ثم في عمل تلفزيوني آخر أقل نجاحاً (2011) لعب بطولته ويليام هارت وإيثان هوك. ما لبثت الرواية أن اقتبست بعدها في فيلم حديث في عام 2010 استبدلت فيه سفينة الصيد الشراعية بغواصة متقدمة تقنياً، لكن ذلك الفيلم باء بفشل ذريع. ثم أنتج فيلم «في قلب البحر» (2015) من إخراج رون هوارد وبطولة كريس همسورث وسيليان مورفي وبن ويشو. اعتمد الفيلم على كتاب مؤلف يدعى ناثنيال فيلبريك، سعى فيه إلى نبش أصل الحكاية التي ألهمت ملفيل كتابة روايته الشهيرة، ونال نجاحاً معقولاً.
لا شك أن المسرح المعاصر يحتاج إلى لغة تعبير خاصة. لست أعني هنا لغة الكلام، بالطبع، بل لغة التعبير البصري لفن مسرحي خالص، مستقل الملامح، ومختلفٍ اختلافاً بيناً عن لغة الأدب من جهة، وعن لغة السينما والتلفزيون من جهة أخرى. فما بالنا إذا شاء المسرحي مقاربة عمل أدبي ضخم عن مطاردة قبطان مهووس بالانتقام على متن سفينة صيد لحوت أبيض عملاق قضم ساقه قبل زمن بعيد؟ يتميز المسرح الحديث بالتقشف، وهي سمة جعلت الجمهور يقبل على مشاهدة عروضه باستمتاع مغاير عن الاستمتاع بمشاهدة الأفلام ذات الإقناع المشهدي الضخم. بالتالي، لا بد أن يقارب المسرح الأعمال الأدبية الكبرى بصورة مبتكرة، خلاقة وغير مألوفة. في الواقع، ينطلق المسرحي الناجح دائماً من «تصور» معين Concept، ولولاه لخالط عرضه ربما بعض الاضطراب والخلل. لذلك، تلجأ الفرق المسرحية الكبرى في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا إلى مهنة «الدراماتورغ»، وهو شخص ضليع في الأدب الدرامي وإعداد النصوص، إن لم يكن تأليفها. لا يملك الدراماتورغ بالضرورة خيال المخرج وخبراته، فهو غالباً شخص لم يمارس مهنة تدريب الممثل، وقد يكون إلمامه متواضعاً بالإضاءة والديكور وباقي التقنيات، لكنه يملك بصيرة وحكمة يحميان العرض من الوقوع تحت إغراء الجموح الفني، بحيث يستطيع أن يميز أي إسراف أو نقص في أي جانب فكري أو أدبي أو جمالي من العمل المسرحي، وبالتالي ينصح المخرج لتجنب الخلل في تلك الجوانب. بكلمات أخرى، يمكن أن نطلق على الدراماتورغ اسم «صمام الأمان» في الفرقة المسرحية. تسمية «دراماتورغ» ألمانية الأصل، انطلقت من حيث انطلق فن الإخراج في العصر الحديث على يدي الأخوين ميننغن، ونضجت بالخبرة والمران. كان أشهر دراماتورغ في إنجلترا هو الناقد اللامع كينيث تينان، الذي عمل إلى جانب المسرحي الشهير لورنس أوليفييه في مسرح «أولدفيغ»، وكانت تلك الفرقة نواة مشروعه لتأسيس فرقة «المسرح القومي البريطاني» في لندن، واشتهر دوره حين أقنع أوليفييه بأداء دور عطيل بدلاً من ياغو، (الذي كان أوليفييه يرغب في أدائه، لأنه محرك الفعل الدرامي في مسرحية شكسبير الشهيرة)، وذلك تحت إدارة المخرج جون دكستر الإخراجية. أما في الولايات المتحدة، فسمي الدراماتورغ «مديراً أدبياً» في معظم الفرق المسرحية الريبرتوارية، وإن لم يختلف دوره كثيراً عن ألمانيا وبريطانيا سوى في تركيزه الأشد على الإعداد الأدبي، في حين يمتد دوره في أوروبا ليشمل نواحي أخرى. في ألمانيا تحديداً، يبقى الدراماتورغ صاحب سلطة موازية إلى حد ما لسلطة المخرج، ويمكن تشبيه عمله بالحرص على أن تحيد عربة العرض عن السكة المتفق عليه في التصور الأساسي للمخرج خلال البروفات، وألا تفقد مسارها بناء على أية نزوة طارئة ومستجدة، اللهم إلا ما يتفق على ضرورته وحسن تأثيره على المتفرج.
أدرك المخرج والممثل ديفيد كاتلين أصول هذه اللعبة المسرحية تماماً، وهضمها جيداً، فقام هو نفسه بمهمتين في آنٍ معاَ. أعد النص بصبر ودقة وأناة، ثم أخرجه بتصور مبدع، محولاً رواية هرمن ملفيل إلى عرض مسرحي مبهر وأخاذ، سمته البساطة في التقنيات، والحرص على لغة مسرحية بعيدة عن كلٍ من لغة الأدب ولغة السينما. بنى مصمم الديكور كورتني أونيل ديكوراً متقشفاً يشبه هيكلاً عظمياً لحوت نافق، تلاعب فريق أكروباتي من المؤدين/ الرياضيين صعوداً ونزولاً على هيكله العظمي لتجسيد مشاهد الإبحار على متن سفينة صيد الحيتان المبحرة في خضم المجهول في مطاردة مجنونة لحوت أبيض عملاق، لطالما فسره النقاد رمزياً على مرِّ العصور بمعانٍ وتفسيرات متعددة.
جسدت الحيتان في العرض المسرحي ثلاث ممثلات يغنين كأنهن حوريات بحر، فأضفين طقساً مسرحياً ساحراً على العرض. جسَّد دور الكابتن إيهاب بحضور لافت للنظر الممثل ناثان هوسنر، وهو ممثل مخضرم بالأعمال الشكسبيرية منذ دراسته للتمثيل في «الأكاديمية الملكية» في لندن. لا شك أن المخرج/ المعد ديفيد كاتلين تجنب الإغراق في تصوير الكابتن إيهاب كشخصية غريبة الأطوار، ونحا نحو جعله بطلاً تراجيدياً زلته الكبرى هي هوسه المبالغ بالانتقام، مما يؤدي في النهاية إلى مصرعه التراجيدي. لعل من أروع لمسات الإخراج هي النهاية، حين تمرر فجأة ستارة بيضاء فوق رؤوسنا، نحن المتفرجين، لتغمرنا بالذعر والدهشة، وتبث في أجسادنا القشعريرة، وتضعنا في خضم حدث المواجهة بين الكابتن إيهاب والحوت الأبيض موبي ديك. إنها نهاية منسجمة مع رؤيا المخرج الحافلة بالحلول البصرية الخلاقة لمشاهد طقسية الطابع، بحيث يخالها المرء مستحيلة التحقيق على المسرح، فإذا بالمخرج المبدع مع طاقم ممثليه الرياضي القدير، ورائع الحضور التمثيلي، يجسدها بقدر كبير من التأثير والإمتاع. في الواقع، جاء عرض فرقة «لوكينغ غلاس» لرواية «موبي ديك» في عام 2017 عرضاً مسرحياً استثنائياً وأخاذاً على المسرح الأميركي، تميز بتصوره التجريبي الخلاق ومشهديته البصرية المدهشة.
- كاتب ومخرج مسرحي يعيش في الولايات المتحدة


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.