كتاب جديد يوثق قصص الحب بين المشاهير في مصر

المؤلف لـ«الشرق الأوسط»: أصبت بالحزن الشديد بسبب النهايات المأساوية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

كتاب جديد يوثق قصص الحب بين المشاهير في مصر

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

قصص حب درامية حقيقية، جديرة بالبحث والتحري، وليست سينمائية من تأليف أديب أو سيناريست شهير. وعلى الرّغم من أنّ وقائعها جرت بعيداً عن كواليس التصوير، فإنّها شبيهة بالقصص الخيالية التي ساقتها السينما المصرية على مدار عقود طويلة، منذ زمن أفلام الأبيض والأسود.
كانت تلك القصص تشغل بال الجماهير والصحافة، وكانت محل نقاشات واهتمام كبير على المستوى الشعبي، لا سيما أن أطرافها من نجوم السينما والفن والغناء والموسيقى. وأخيرا صدر في مصر كتاب «أقاصيص العشق... أجمل قصص الحب بين المشاهير»، للكاتب الصحافي محمد رفعت، عن دار «الدار للنشر والتوزيع»، الذي يضم بين دفتيه مجموعة من أجمل قصص الحب بين مشاهير الفن والأدب والسياسة.
في البداية يقول محمد رفعت، مؤلف الكتاب، لـ«الشرق الأوسط»: «بينما كنت أبحث عن أجمل قصص الحب والعلاقات الرومانسية بين المشاهير المصريين القدامى، فُوجئت بإحساس غريب جداً لم أكن أتوقعه حينما نبتت في رأسي فكرة الكتاب، وكان خليطاً بين الحسرة والحزن الشديد على قصص الحب العظيمة التي انتهى معظمها بمأساوية وأحياناً كارثية».
رفعت أجاب عن السؤال الصعب: لماذا يفشل الحب ويموت؟ بقوله: «تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة»، موضحاً: «نستطيع أن نعرفها بأنفسنا من بين ثنايا تلك القصص... ونعرف أيضاً لماذا كانت قصة حب الشاعر الراحل كامل الشناوي للمطربة الرائعة نجاة، سببا مباشرا في وفاته، ولماذا طلب المفكر والأديب الراحل محمود عباس العقاد، من صديقه الرسام صلاح طاهر، أن يرسم لوحة تعبر عن تورتة جميلة يلتف حولها الذباب، ومن كان يقصد بتلك الصورة... أو كيف كان يغازل الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي، معظم نجمات الوسط الفني اللاتي كنّ يعالجن عنده، ولماذا كتب رائعة الأطلال التي يعدها البعض أجمل ما غنّت كوكب الشرق أم كلثوم، في وصف الفنانة زوزو حمدي الحكيم التي لعبت دور (رَيَّا) في الفيلم الشهير (ريا وسكينة)».
ومن أطرف قصص الحب التي ساقها الكتاب، قصة حب توفيق الحكيم، حيث روى الكاتب الصحافي الكبير الراحل مصطفى أمين، قصة حب وزواج توفيق الحكيم وشريكة عمره، فيقول: «كانت تناقش كل مقالاته... ولم يلبث أن أحسّ توفيق أنّها تراه الرجل الوحيد في العالم... وكانت ترى فيه كل الأساطير التي كتبها... فأدمن توفيق زيارة صديقه ضابط الجيش... وأحسّ أنّ شيئاً خطيراً يتحرك في أعماقه كالوحش الكاسر... حاول أن يمنع نفسه... يسترد كبرياءه كعدو النساء... وكان يفشل في كل مرّة، ويكاد يبكي على عرشه الذي اهتزّ بشدّة أمام الآنسة (سيادات)».
طلبها للزواج ليرضي قلبه، ووضع 15 شرطا قاسيا لتوافق عليها العروس قبل زفافهما... قال لها الحكيم: «لي شروط للزواج... ألا يعرف أحد أنّنا تزوجنا لأنّني أريد أن يبقى هذا الزواج سراً لا تعرفه إلا أسرتك، وألا ينشر هذا الزواج في الصُّحف لا تلميحاً ولا تصريحاً، وأن أسافر وحدي إلى الخارج من دون أن يكون لك الحق في السفر معي، ولا نستقبل ضيوفا في بيتنا سواء من الرجال أو النساء، وألا أصحبك في نزهة أو رحلة، وأن يكون مصروف البيت (200) جنيه لا تزيد مليما واحدا، وألا أكون مسؤولا عن مشاكل البيت والخدم، وأن تكون مشاكل كل الأولاد من اختصاصك، وألا تطلبي مني سيارة، وأن تعامليني كطفل صغير لأنّ الفنان طفل صغير يحتاج إلى الرعاية والاهتمام، وأن يكون بيتنا هادئا بلا ضجيج أو خناقات أو أصوات تزعجني لأتفرغ لكتابة ما أريد... وأن ينام كل منا في حجرة مستقلة ولا تتدخلي في عملي».
وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها الكاتب الكبير، أن وافقت الجارة الحسناء على كل شروطه. أعلنت استسلامها أمام كل طلباته، ورفعت الراية البيضاء لتوهمه أنّه انتصر ووصل إلى عاصمة الأعداء! وزُفّت إلى توفيق الحكيم الذي كان يكبرها بعشرين سنة. ومع الوقت، ألغت بنفسها كل الشروط التي وضعها الحكيم قبل الزواج، وكان الحكيم في غاية الرضا وهو يتنازل عن شروطه شرطاً بعد شرط.
- رضوى ومريد البرغوثي
في السياق نفسه، ألقى مؤلف الكتاب الضوء على قصة حب رضوى عاشور والشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، عندما قالت رضوى في إحدى كتاباتها: «كان أول لقاء لنا على سلم جامعة القاهرة، حيث كان يلقي على أصدقائه إحدى قصائده، فانتبهت له وشعرت بكلماته تختارني، وكنت أكتب الشعر أيامها، ولكن بعد أن سمعت قصائد مريد، تركت الشعر، لأنّه أحق بأهله وذويه».
وبدأت العقبات تواجههما منذ البداية عندما رفض أهل رضوى ارتباطها بالشاب الفلسطيني، لكن كل اعتراضات والدها المحافظ سقطت، حينما التقى بالشاب ووجد في داخله كل الحب والمسؤولية تجاه ابنته الصغيرة.
ومرّت علاقة رضوى ومريد بكثير من المحطات الصعبة، لعلّ أصعبها على كليهما حينما أُبعد البرغوثي عن مصر في فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، بسبب اعتراضه على زيارة السادات لإسرائيل، وظل ممنوعاً من الدخول لمدة 17 سنة، وهو ما أحدث تشتّتاً كبيراً لأسرتهما، ولم تملّ على الرغم من البعد والصعوبات؛ بل ظلت متماسكة من أجله.
ويتابع الكاتب: «ظلت رضوى عاشور، حتى مماتها، تشعر بالخجل في حالة إثارة ما يتعلق بقصة حبها لمريد، فتتورد وجنتاها وتعجز عن الكلام وتحاول أن تخفي خجلها الواضح بابتسامة رقيقة كأنّها ما زالت تلك الفتاة العشرينية التي وقعت في حب زميلها بالجامعة».
- حب الفرسان
وعن قصة حب يوسف السباعي وزوجته يقول المؤلف: «كان يوسف السباعي هادئاً بطبعه وحساساً ورقيقاً، أخد قوة دفع روحانية من تشجيع (دولت) له، بعدما قرأت أول قصة كتبها وهي باسم (تبَّتْ يدا أبي لهب وتبّ)، وكان لا يزال تلميذاً في الثانوية عندما قابلته وقالت له: (أعجبتني قصتك جداً... ليتك تتجه إلى الأدب لأنّ أسلوبك جميل، ومن الممكن أن تنجح وتصبح أديباً)، ولم يخيب ظنونها إلا (شيئا واحدا)، حينما اتجه إلى الكلية الحربية؛ إذ كان مصمما على الالتحاق بهذا السلك».
وكان فارس الرومانسية يوسف السباعي دوماً العون لحبيبته وابنة عمه، حتى قبل خطبتهما رسمياً، فقد كانت لا تجيد الرسم، وكان يساعدها في رسم الموضوعات المدرسية التي تُطلب منها.
التحق يوسف بسلاح الفرسان، وتمت خطبتهما لمدة عامين، وطوال تلك الفترة كان يأتي إلى حبيبته ممتطياً جواده ومرتدياً ملابسه العسكرية المملوءة بالنياشين، تماماً كفارس الأحلام على حصان أبيض، ولكنّها لم تكن مثل باقي الفتيات، فلم تنشغل مطلقا بتلك المظاهر الرقيقة قدر انشغالها وإيمانها به حبيبا وأديبا.
وتزوج العاشقان، وهنا تكشف لدى دولت جانب خفي من حبها ليوسف، فقد كانت تخاف عليه بشدة، وتهرع إليه إذا وجدته واقفاً في شرفة المنزل وتمسك بملابسه خوفاً من سقوطه، لذلك سمّاها، ضاحكاً، «مخضوضة هانم»، كما كانت ترفض تماماً سفره بالطائرة، وفي إحدى المرات سافر من دون أن يخبرها، وعلمت بذلك من الجرائد بعد عودته، فانفجرت بالبكاء متسائلة: «ماذا لو سقطت الطائرة؟!».
- نهاية حزينة
إلى ذلك سلط كتاب «أقاصيص العشق» الضوء أيضا، على نهاية حب حزينة، وهي قصة حب الملحن والمطرب منير مراد، والفنانة سهير البابلي. مراد الولد الشقي والملحن والمغني والممثل ومقلد الفنانين وصاحب أطرف المونولوجات الفنية، بدأ حياته الفنية مساعدا للإخراج مع توجو مزراحي وأنور وجدي، ثم تدرج في عالم التلحين والغناء، وكانت الموسيقى المميزة تجري في دمه، فأحدث تغييرات على الألحان التقليدية، واستعان به كبار الفنانين مثل عبد الحليم حافظ وشادية لتلحين أشهر أغنياتهما، وكان تركيزه الكبير على فنّه وألحانه الموسيقية، حتى تعرف على الفنانة سهير البابلي، وأحبها حباً شديداً جعله يقدم على تغيير ديانته من اليهودية إلى الإسلام للزواج بها.
وفقاً للكتاب الجديد، فإن المؤرخ الفني وجيه ندا برّر الزواج بقوله: «اقترنت سهير بمراد لعشقها التمثيل ورغبتها الجامحة في الوقوف أمام عبد الحليم حافظ، وهو ما فعله زوجها، ولكنّها كانت ترغب في البطولة لأنّها شعرت بنجوميتها على المسرح، ولترحيب حليم بها وتنبؤه بمستقبل فني كبير، وكادت تصل لدور مهم في فيلمه الجديد (البنات والصيف)، لولا تدخل المخرج فطين عبد الوهاب الذي كان له رأي آخر، وزجّ سهير بدور غير واضح، وقد رضخت لهذا التعسف، ولكنّها تشاجرت مع زوجها ولامته لأنّه لم يكن جدّياً بطلبه دور البطولة لها من صديقه، فكان الانفصال والطلاق لمدة عام، ثم عادت إليه وشاركت عبد الحليم في فيلم آخر هو (يوم من عمري)، بدور صغير. كما لحن منير (ضحك ولعب وجد وحب) و(بأمر الحب)، فتأكدت من سذاجتها التي صورت لها أنّ منير قادر بصداقته أن يصل بها إلى البطولة، فشعرت بأنّ زوجها لا يحبّها. وقد شكّل حب المعجبين بها غيرة منير مراد طيلة زواجهما الذي استمر أكثر من عشر سنوات، لم ينجبا خلالها، فكان الطلاق الثاني حتمياً».


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)