استخدام التكنولوجيا الحديثة لخدمة البيئة

تطبيقات لتقليل التأثيرات الضارة بها

تطبيق «غود غايد» يتفحّص المنتجات الموجودة في المتاجر وفق تأثيراتها على الصحة والبيئة
تطبيق «غود غايد» يتفحّص المنتجات الموجودة في المتاجر وفق تأثيراتها على الصحة والبيئة
TT

استخدام التكنولوجيا الحديثة لخدمة البيئة

تطبيق «غود غايد» يتفحّص المنتجات الموجودة في المتاجر وفق تأثيراتها على الصحة والبيئة
تطبيق «غود غايد» يتفحّص المنتجات الموجودة في المتاجر وفق تأثيراتها على الصحة والبيئة

كيف يستخدم صحافيو «نيويورك تايمز» التكنولوجيا في عملهم وفي حياتهم الشخصية؟ فيما يلي، تطلعنا هيروكو تابوتشي، المراسلة المختصة بشؤون البيئة والمناخ على كيفية استخدامها للوسائل التقنية.

وعي بيئي

> ما أهم الوسائل التقنية التي تستخدمينها في عملك؟
- يعتبر الوعي لبصمة الكربون، وما يحصل في البيئة من حولي، شرطاً أساسيا لتأدية عملي كما يجب، وهناك كثير من التطبيقات التي تخدم هذا الهدف.
يقدّم تطبيق «CO2» من منظمة للطيران المدني الدولي تقديراً جيداً لانبعاثات الغازات الدافئة التي أسببها أثناء أسفاري. فعندما أسافر إلى ولاية أريزونا في مهمة صحافية مثلاً، يعلمني التطبيق بأن رحلة تجارية صغيرة، ذهاباً وإياباً، من نيويورك إلى مدينة فينيكس في الولاية، تحرق نحو 13150 كلغم من الوقود، لتبلغ بصمة ثاني أكسيد الكربون 500 كلغم للراكب الواحد، أي أكثر من متوسط الانبعاث من سيارة واحدة خلال شهر.
كما يوجد تطبيق «هيز توداي Haze Today»، الذي يراقب مؤشر نوعية الهواء في شكل آني. يغطي المؤشر نسب الأوزون على مستوى الأرض، والتلوث بالجسيمات الدقيقة، ومستوى أول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكبريت، وثاني أكسيد النيتروجين، التي تؤثر جميعها على صحة الإنسان. يعطي المؤشر أيام الشتاء في نيويورك تصنيف «صحي»، ولكنه يتغيّر خلال الصيف إلى «متوسط» أو «غير صحي»، ويوضح للمستخدم أيضاً أن التلوّث يزداد سوءا كلّ يوم في كاليفورنيا. وفي أوائل هذا العام، كتبت تقريراً حول الأسباب التي قادت ولاية كاليفورنيا إلى وضع السياسة البيئية في أولوياتها، وأن هذه الأولوية ضرورة قصوى للولاية. يغطي تطبيق «هيز توداي» جميع المناطق حول العالم، إذ من البديهي أن يتابع مستويات التلوث الهوائي في دول كالصين والهند، حيث ينتشر استخدام الفحم لتوليد الطاقة، حيث لا يحيد تصنيف مؤشر نوعية الهواء عن موشر «غير صحي» ومؤشر «غير صحي جداً».

أدوات تقنية

أما بالنسبة للأدوات التقنية، فمنذ أن غطيت أزمة فوكوشيما النووية عام 2011، شكّل عداد «ميني غايغر» mini - Geiger counter، الذي يقيس التعرّض للإشعاعات، جزءا أساسيا من عدّة التغطية الصحافية الخاصة بي (لحسن الحظّ لم أضطر إلى استخدامه هناك). ساهمت هذه الأزمة في انتشار تقنية عداد (غايغر) بشكل لا يصدّق. في الأيام الأولى من الأزمة التي حصلت في مفاعل فوكوشيما، وقد دفعنا مئات الدولارات لشراء عدادات روسية الصنع، ولكن شركات التكنولوجيا اليابانية تصنع اليوم عدادات زهيدة جداً تبدو كميزان الحرارة.
> تتمتع شركات التكنولوجيا الكبرى بتأثير كبير على البيئة. كيف ترين أداءها في هذا الشأن، وما مدى مساهمتنا نحن بصفتنا أفرادا؟
- تصدر أكبر البصمات البيئية لشركات التكنولوجيا عن المراكز الضخمة التي تخزّن وتعالج البيانات التي تشغّل عملياتها. ورجحت إحدى الدراسات أن شركات التكنولوجيا العملاقة تستخفّ غالباً بكمية الطاقة التي تستهلكها. تستخدم مراكز البيانات أيضاً كثيرا من المياه لتبريد خوادم الكومبيوترات الكبيرة. أنا شخصياً أظنّ أن الشركات حققت تقدماً كبيراً في معالجة هذه المشكلات، في الوقت الذي التزمت فيه كثير من الشركات باستخدام موارد متجددة في توريد قسم كبير من حاجاتها للطاقة.
لا شكّ في أنه يمكن للأفراد أن يقلّصوا بصمة ثاني أكسيد الكربون الخاصة بهم من خلال خطوات بسيطة جداً، كإطفاء جهاز الكومبيوتر الذي يعملون عليه في نهاية كلّ يوم. إذ إنني ما زلت مذهولة حتى اليوم بعدد أجهزة الكومبيوتر وشاشات التلفاز التي تبقى مضاءة خلال الليل والعطلات الأسبوعية في مبنى صحيفة «التايمز».
> ما الأجهزة التقنية التي تستخدمينها كثيراً في حياتك اليومية؟
- أنا مهووسة بالمواصلات العامة واستخدام التطبيقات المرتبطة بالسفر كثيراً. تطبيقي المفضّل هو «إكزيت استراتيجي»، الذي يبلغ المستخدم أي مركبة من قطار الأنفاق يجب أن يستقلّ ليصل إلى المخرج الذي يريده. ستتفاجأون من قدر الوقت الذي سيوفّره عليكم هذا التطبيق إضافة إلى تقليل التوتر. نستخدم الباصات كثيراً في حياتنا اليومية هنا في بروكلين، لهذا السبب استخدم تطبيق «إم تي آي باص»، الذي يتميّز بدقة أكبر من خرائط «غوغل».
كما أنني من هواة المدونات الصوتية؛ إذ مع مدونات صوتية جيّدة كـ«ذا دايلي» لميشال باربارو و«إس - تاون» من «ذا أميركان لايف»، يسهل على الإنسان أن يبقى على اطلاع بكلّ شيء.

مسؤوليات بيئية

> ما الأشياء التي يمكن تحسينها في تطبيقات التنقل المفضلة لديك؟
- يصيبني تطبيق خرائط «غوغل» بكثير من التوتر، لأنه ببساطة لا يندمج كثيراً مع وسائل النقل في مدينة نيويورك. إذ إنه قد يقترح علي التوجه إلى قطار مقفل لدواعي الصيانة مثلا. فلو كانت خرائط «غوغل» أفضل من جهة تحديد النقاط التي تخضع للصيانة أيضاً، ستسهّل على المستخدم أن يتنقّل في قطارات الأنفاق ومحطات الباص. أكتب كثيرا من التغريدات التي تركز على مشكلات النقل فقط لأنني أؤمن بأهمية النقل العام، الذي يمثّل حاجة ضرورية في كلّ مدينة نشيطة.
> ما الحيل البسيطة التي يمكن للناس أن يقوموا بها في حياتهم التقنية ليصبحوا أكثر مسؤولية على الصعيد البيئي؟
- توجد بعض التطبيقات والخدمات التي من شأنها أن تساعد الناس على تحمّل مسؤوليتهم البيئية والحفاظ على صحتهم في آن معاً. إذ يتيح لكم تطبيق «غود غايد» GoodGuide مثلاً تفحّص المنتجات الموجودة في المتاجر والاطلاع على تصنيفاتها العامة بناء على تأثيراتها على الصحة والبيئة. كما تسمح لكم تطبيقات كـ«أوريكو» Oroeco بمتابعة بصمة الكربون بشكل يومي، الذي يتحوّل أيضاً إلى لعبة تقدم بعض الاقتراحات التي تحسّن أداءكم البيئي.
بهدف حماية البيئة أيضاً، يجدر بالناس أن يأخذوا التجارة الإلكترونية بعين الاعتبار، ولعلّ غالبية المتبضعين عبر الإنترنت يتساءلون عن تأثير جميع هذه التوصيلات وعلب الكرتون.
أنا شخصياً أعترف بأنني لا أستطيع الاستغناء عن التجارة الإلكترونية، ولكن توجد بعض الأمور البسيطة التي يمكن أن تساعد في تخفيف التأثير البيئي. هل أنتم فعلاً مضطرون للحصول على السماعات الجديدة والبطاريات الإضافية بين ليلة وضحاها؟ تساهم خدمات التوصيل المستعجلة برفع يصمة الكربون بشكل ملحوظ، لأنه يتم إرسال الشحنات في حزم متعددة من مواقع كثيرة لتلبية الطلبات المستعجلة.
ولكن من منظور كربوني، يعتبر استخدام السيارة من وإلى المتاجر أسوأ تأثيراً، ولعلّهُ الأشدّ وطأة من جهة الانبعاثات من أي مسيرة أخرى قد تسلكها المشتريات. من جهتها، تبادر خدمات توصيل البضائع إلى توصيل كميات كبيرة من المنتجات في وقت واحد وإلى العثور على وسائل أكثر فاعلية لإبقاء تكاليف الوقود وانبعاثاته في مستويات منخفضة.
وأخيرا فعند عرض إعلان على «يوتيوب» يروّج لرجل يستقلّ سيارة فاخرة لشراء الصلصة من المتجر، تمنيت لو أنني أصرخ على جهاز اللابتوب قائلة: «هذا أسوأ ما يمكن أن تفعلوه بحقّ الكوكب».
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

تكنولوجيا تيم كوك في صورة جماعية مع طالبات أكاديمية «أبل» في العاصمة السعودية الرياض (الشرق الأوسط)

رئيس «أبل» للمطورين الشباب في المنطقة: احتضنوا العملية... وابحثوا عن المتعة في الرحلة

نصح تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة «أبل»، مطوري التطبيقات في المنطقة باحتضان العملية بدلاً من التركيز على النتائج.

مساعد الزياني (دبي)
تكنولوجيا خوارزمية «تيك توك» تُحدث ثورة في تجربة المستخدم مقدمة محتوى مخصصاً بدقة عالية بفضل الذكاء الاصطناعي (أ.ف.ب)

خوارزمية «تيك توك» سر نجاح التطبيق وتحدياته المستقبلية

بينما تواجه «تيك توك» (TikTok) معركة قانونية مع الحكومة الأميركية، يظل العنصر الأبرز الذي ساهم في نجاح التطبيق عالمياً هو خوارزميته العبقرية. هذه الخوارزمية…

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
خاص تم تحسين هذه النماذج لمحاكاة سيناريوهات المناخ مثل توقع مسارات الأعاصير مما يسهم في تعزيز الاستعداد للكوارث (شاترستوك)

خاص «آي بي إم» و«ناسا» تسخّران نماذج الذكاء الاصطناعي لمواجهة التحديات المناخية

«الشرق الأوسط» تزور مختبرات أبحاث «IBM» في زيوريخ وتطلع على أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي لفهم ديناميكيات المناخ والتنبؤ به.

نسيم رمضان (زيوريخ)
خاص يمثل تحول الترميز الطبي في السعودية خطوة حاسمة نحو تحسين كفاءة النظام الصحي ودقته (شاترستوك)

خاص ما دور «الترميز الطبي» في تحقيق «رؤية 2030» لنظام صحي مستدام؟

من معالجة اللغة الطبيعية إلى التطبيب عن بُعد، يشكل «الترميز الطبي» عامل تغيير مهماً نحو قطاع طبي متطور ومستدام في السعودية.

نسيم رمضان (لندن)
خاص من خلال الاستثمارات الاستراتيجية والشراكات وتطوير البنية التحتية ترسم السعودية مساراً نحو أن تصبح قائداً عالمياً في التكنولوجيا (شاترستوك)

خاص كيف يحقق «الاستقلال في الذكاء الاصطناعي» رؤية السعودية للمستقبل؟

يُعد «استقلال الذكاء الاصطناعي» ركيزة أساسية في استراتيجية المملكة مستفيدة من قوتها الاقتصادية والمبادرات المستقبلية لتوطين إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي.

نسيم رمضان (لندن)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)