ديفيد لينش: السينما عندي صوت وصورة يتحركان عبر الزمن

المخرج الأميركي أعلن لـ«الشرق الأوسط» أنّه يعود إلى غرائبياته

من فيلم «توين بيكس»
من فيلم «توين بيكس»
TT

ديفيد لينش: السينما عندي صوت وصورة يتحركان عبر الزمن

من فيلم «توين بيكس»
من فيلم «توين بيكس»

إن لم تكن من هواة أفلام المخرج ديفيد لينش فإن ذلك لا يعود، غالباً، إلى عدم تقدير لما يقدمه على الشاشة من أعمال فنية، بل لصعوبة فهمها وبالتالي هضمها ضمن سياق معين. حتى المشاهدون الذين تعوّدوا على أفلام مخرجين يمكن تصنيفهم بالخاصين والصعبين، قد يعتبرون أنّ لينش هو الأكثر صعوبة، وأعماله هي الأقل جذباً من بين كل المخرجين غير المتنازلين عن أساليبهم وشروطها.
في مايو (أيار) من العام المنصرم، خصّ مهرجان «كان» بفيلمه الأخير «توين بيكس» الذي كتبه وأخرجه وأنتجه وقام بتصميماته الفنية. ما عرضه هو جزء منتقى من مسلسل تلفزيوني بُث في صيف العام الماضي صاغ منه نحو ساعة ونصف ليؤكد، كما يقول هنا، على أنّ اهتماماته السينمائية لم تخب وأن عدم ظهور العدد الكافي منها في السنوات الأخيرة لا يعني أنّه لم يعد نشطاً أو مهتماً.
ولد لينش قبل 71 سنة في بلدة صغيرة اسمها ميسولا في ولاية مونتانا. والده كان محاضراً وباحثاً علمياً، ومعه انتقلت عائلته من بلدة إلى أخرى طوال السنوات الـ15 الأولى من حياة ديفيد. لاحقاً ما استقر مقامه لعدة سنوات في بوسطن حيث أخفق في الدراسة الأكاديمية، لكنّه التقط بنجاح دراسته الفنية حيث بدأ اهتمامه بالمدرسة التعبيرية ولاحقاً أمضى ثلاث سنوات في باريس ولندن وفيينا يدرس فن الرسم ومناهجه.
-- غرائبيات
بعد عودته إلى أميركا سنة 1966، التقط عملاً في فيلادلفيا حيث تزوّج وتابع دراسته الفنية في الوقت ذاته. في عام 1967، أنجز فيلمه القصير الأول «ستة رجال مرضى». ذلك الفيلم، لمن تتاح له مشاهدته اليوم، فيه كل بذور وجذور الأسلوب الفني للمخرج لينش. تبع ذلك بعدد كبير من الأفلام التجريبية والسوريالية القصيرة وصولاً لسنة 1977 إلى أول فيلم طويل له وهو Eraserhead.
لم ينجز الفيلم الداكن والغريب والمليء بأصوات مصانع وأدوات من مصادر مجهولة المصوّر بالأبيض والأسود حاوياً حكاية عاطفية بلا حب وبطفل عجيب الشكل دائم البكاء، أي نجاح نقدي. رفضه مهرجان نيويورك وآل إلى عروض أفلام الرعب، حيث أسس لنفسه جمهوراً صغيراً. كل هذا قبل أن يُعاد اكتشافه ويُشيد به المخرج الراحل ستانلي كوبريك. من هذا الفيلم انتقل لينش إلى فيلمه التالي «الرجل الفيل» سنة 1980: دراما مستوحاة من حادثة حقيقية في العصر الفكتوري في بريطانيا عن رجل مشوّه استخدم سابقاً في العروض والألعاب العامة قبل أن ينقذه رجل محاولا إعادة الثقة والقيمة الإنسانية إليه. هو فيلم مستقل الإنتاج لكن نجاحه دفع باراماونت لتبنيه. بعده أمضى المخرج ثلاث سنوات بحثاً عن موضوع يريد تحقيقه في الوقت الذي عرضت عليه شركة «دينو ديلارونتيس»، مشروعاً تموّله شركة يونيفرسال بعنوان «كثب» (Dune) الذي كان يوماً في جعبة المخرج المتغرب أليخاندرو يودوروفسكي منذ مطلع السبعينات، كما غازله المخرج الأميركي ريدلي سكوت، لكنّ المشروع ذهب إلى لينش الذي صنع منه فيلماً جيداً وإن لم يكن هذا هو رأي الكثير ممن أعجبوا بفيلمه السابق.
بعد ذلك، عاد المخرج إلى تغريباته الخاصة (هذه المرّة بالألوان)، داعماً اسمه الذي بدأ النقاد والهواة كما رؤساء المهرجانات بتبنيه بفيلم «مخمل أزرق» (1986)، ثم «متوحش القلب» (1990)، وصولاً إلى «توين بيكس» الذي حققه كفيلم سينمائي سنة 1992، أي قبل أن يتجه به في العام الماضي إلى التلفزيون ويستخلص منه فيلماً عرضه «كان»، من دون أن يصيب النجاح النقدي الكافي.
حالياً وبينما تتواصل عروض «توين بيكس» تلفزيونياً في إعادات سريعة، ينجز المخرج أفلاماً قصيرة واحداً تلو الآخر، من دون معرفة متى سيحقق المخرج فيلماً روائياً جديداً. والسؤال الأول بيننا خلال هذا اللقاء كان في هذا الموضوع.
-- بساطة وتعقيد
> لا أحد يعلم أين ستذهب من بعد «توين بيكس». ما هو مشروعك المقبل.
- ولا أنا.
> هل هناك مشروع أقرب إليك شخصياً تود تنفيذه قبل سواه؟
- لا، لدي مشروع واحد وكل ما أفكر به أكثر من مرّة يصبح شخصياً. لكنّني أتمهل كثيراً في الإقدام عليه. ما يحدث هو أنّني أبحث عن موضوع يختلف، شرط أن يلائم شروطي كفنان. هذا يقرّبني من أفكار ويبعدني عن أخرى.
> حيرة؟
- أسميها فترة اختيار ضرورية.
> برهنت خلال مهنتك الطويلة على أنّك تستطيع تحقيق فيلم عميق وبسيط الملامح وطريقة السرد في الوقت نفسه. كان ذلك عندما أخرجت «قصة سترايت» Straight Story. العنوان نفسه مزدوج المعنى «سترايت» هو اسم الشخصية الأولى وتعني أيضاً المباشرة والبساطة.
- صحيح. لكن في الوقت الذي وصفه الكثير بأنّه فيلم بسيط يحكي قصّة المزارع العجوز الذي سيستقلّ عربة حقله ليجتاز بها مسافات شاسعة للوصول إلى أخيه، كان العمل عليه أعقد عندي من أي عمل آخر تقريباً. السبب هو أنّني تعودت على أسلوب معقد يعتمد على التجريب وتشابك الحكاية وغربة الشخصيات لا للمشاهد فقط بل عن بعضها البعض. إنه عالم معقد عاطفيا ونفسياً في تلك الأفلام الأخرى، والتحدي في «قصة سترايت» كان في، كيف أترك كل ذلك ورائي لأقدم فيلماً لا عقد شخصية أو نفسية فيه. مجرد حكاية رحلة طريق تنطلق في مطلع الفيلم وتصل إلى حيث تريد في نهايته.
> لماذا عدت إلى حكايات «توين بيكس»؟
- منذ إنجاز الفيلم نفسه («توين بيكس: يا نار أمشي معي»، سنة 1992) وأنا عادة ما أفكر في شخصياته. أفكر بما قد يكون حدث لها وكيف انتهت أو ماذا حصل لها أو يحصل لها الآن. أعتقد أن ذلك له علاقة بحبي لها. عندما قرّرت أن أصنع فيلمي التلفزيوني عنها كان ذلك لكي أحاول تقديم إجابات لتلك الأسئلة. لكنّني لم أكن عقدت العزم على العودة إلى هذه الشخصيات أو إلى «توين بيكس» كمشروع إلى أن حثني المنتج مارك فروست على ذلك.
> في الفيلم نجد التحري كايل ماكلاكلن ما يزال يبحث عن الجوانب ذاتها التي تذكرها، عما آلت إليه لذلك يعود إلى المكان ليجد أنّه ما يزال غامضاً عليه الآن كما كان في السابق. هل يمثلك كايل؟
- وضعت السؤال على نحو محدد وعليه يجب أن أقول نعم، يمثلني في هذا البحث، لكنّه لا يمثلني أكثر من ذلك لأنّ عليه أن يتحوّل إلى جزء من الحكاية التي تقع، بينما أبقى أنا بعيداً عن أن أكون إحدى شخصياتها. أنا من يحققها فقط. لكنّ كايل يمثل عندي شخصية الرجل غير الملطّـخ بالفساد. أميركي بريء، لكنّه ذكي في الوقت ذاته.
-- الصوت والصورة
> من بدايتك إلى اليوم، تستخدم شريط صوت ومؤثرات صوتية فريدة في كيانها. لا أستطيع أن أتذكر «إيرازرهَـد» من دون أن أتذكّر كل تلك المؤثرات المصاحبة. ماذا يعني لك الصوت في أفلامك؟
- السينما عندي هي صورة وصوت يتحركان عبر الزمن. الصورة قد تتحرك بسرعة وقد تتحرك ببطء كذلك الصوت. السينما هي مثل الموسيقى نتيجة حركات وعناصر مختلفة عليها أن تعلو أو تنخفض حسب المرحلة التي تمر بها.
> لكنك لا تستطيع ضمان التميّـز عندما يصل الأمر إلى العروض المنزلية. سيتوقف التأثير الموسيقي على عناصر تقنية غير سينمائية. أليس هذا صحيحاً؟
- كنت أتحدث عن أفلامي قبل العصر التقني الذي نعيشه الآن وبمنأى عنه. حتى بين صالات السينما يبرز اختلاف في جدارة الصوت حسب كل صالة وتجهيزاتها. ليس اختلافاً واضحاً لأنّه ليس كبيراً. أمّا عندما يصل الأمر إلى عرض الفيلم على الكومبيوتر أو الآي باد، فإن لا شيء يذكر يبقى ماثلاً كما كان القصد منه. الصوت على الأخص، يعاني كثيراً. مستخدمو هذه المنجزات العصرية يعتقدون أنّهم شاهدوا الفيلم على شاشاتهم، لكنّهم شاهدوا فيلماً آخر غير الذي حققته.
> هذا ينسحب على كل الأفلام في الواقع.
- طبعاً.
> أحياناً يزعج المشاهد صرير باب أو خطوات. هل يزعجك ذلك؟
- الصمت مهم جداً. أهم مما يعتقده الناس عموماً. لدي استديو للصوت، وكما تعلم فإنّ استديو الصوت معزول بنظام يمنع وصول الأصوات إليه من الخارج. الباب معزول والجدران والسقف. كل شيء. إنه في داخل هذا الاستديو عندما لا يكون هناك عمل ينتشر الصمت تماماً. يقولون إنه في الحياة عموماً، هناك صوت الصمت وصوت الأصوات يتماشيان معاً وأحدهما يغلب الآخر حسب موقع الشخص. في منطقة معزولة من الأصوات، أو حتى في بيت بعيد عن الشارع أو في الصحراء مثلاً، يعيش الصمت كقوّة أعلى من الصوت. في الاستديو المغلق أقف في ذلك المعزل فأشعر كما أنّني في عالم آخر. عندما يأتي الصوت لاحقاً يمكن قياسه حسب ارتفاعه واللحظة التي انطلق فيها. إذا كان من بين قرائك من يسأل عن كيفية استخدامي للصوت فهو نابع مما ذكرت هنا.
> العالم يتغير دوماً للأفضل أو للأسوأ وغالباً للأسوأ، لكن هل تتغير أنت؟
- أنا ما زلت ما كنت عليه. أنت ما زلت ما كنت عليه. عندما نتكلم مع أنفسنا نكتشف أنّنا ما زلنا في موقعنا. ما زلنا كما كنّا. كنت أحبّ السّينما والموسيقي والرّسم والخشب... الآن وبعد كل هذه السنوات ما زلت أحب السينما والموسيقى والرّسم والخشب. لا يمكن لي أن أتغيّر وما زلت أحبّ ما بدأت بحبه سابقاً.
> هل تأثر «توين بيكس» كونه عملا تلفزيونيا وليس سينمائياً؟
- الوسيط تلفزيوني لكنّني حققته تماماً كعمل سينمائي. يقصّ الحكاية تماماً بالصوت والصورة السينمائيين.
> هل تفكر في الجمهور وكيف سيستقبل فيلماً لك؟ هل تفكر بالنجاح الجماهيري أو بالنجاح النقدي وتفضل أحدهما على الآخر؟
- الشق الثاني من السؤال هو أنّني لا أفعل ذلك. لكن هناك بالطبع رغبة في أن أفكّر فيمن سيتلقّى هذا العمل وكيف سيراه. هذا التفكير يبقى نظرياً. حين تكتب سيرتك الذاتية تفكّر بلا شك في وقع هذا الحادث أو ذلك الموقف على القارئ، وهذا صحيح بالنسبة لي، وأعتقد أنّه صحيح بالنسبة لأي مخرج بصرف النظر عن نوع الأفلام التي يحققها. لكنّه تفكير سليم لأنّ الجمهور هو الطرف الآخر من المعادلة. ما لا تريد فعله هو أن تتخلى عن فنِّك لأجل الوصول إلى هذا الجمهور سواء أكان المشاهد العام أو المتخصص.
> هل هناك مستقبل للسينما في رأيك؟
- السينما ليست واحدة، وإذا كنت تقصد السينما التي أصنعها ويصنعها مخرجون يقدّمون الفن على سواه، فاعتقادي أنّ المحاولات ستستمر. الأفلام الفنية ستستمر. لكنّ العروض السينمائية التجارية هي اليوم أصعب منالاً لتلك الأفلام مما كانت عليه في الستينات. هذا مؤسف.


مقالات ذات صلة

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».