«العود» يصدح في وسط الرياض منذ نصف قرن

فنانون عمالقة تخرجوا في «سوق الطرب».. وسكان القرى والبادية الأكثر تعلما

سوق «الطرب» في الرياض يعتبر الملتقى الوحيد للموسيقيين السعوديين (تصوير: عبد العزيز النومان)
سوق «الطرب» في الرياض يعتبر الملتقى الوحيد للموسيقيين السعوديين (تصوير: عبد العزيز النومان)
TT

«العود» يصدح في وسط الرياض منذ نصف قرن

سوق «الطرب» في الرياض يعتبر الملتقى الوحيد للموسيقيين السعوديين (تصوير: عبد العزيز النومان)
سوق «الطرب» في الرياض يعتبر الملتقى الوحيد للموسيقيين السعوديين (تصوير: عبد العزيز النومان)

على موال أغنية «الليل ما يحلى»؛ رائعة صوت الأرض الراحل طلال مداح، وجدنا العم أحمد ناصر يعزف بعوده الذي لم يفارقه منذ 30 سنة، على أنغامها في إحدى زوايا سوق «الطرب»، الذي يتوسط العاصمة السعودية الرياض، إذ يعتبر الملتقى الوحيد للموسيقيين السعوديين الذين يجتمعون هناك بشكل يومي، لتبادل الأحاديث الفنية وتعليم الطلاب الجدد العزف على آلة العود، إضافة إلى بيع الآلات الموسيقية المختلفة وصيانتها.
أعاد الفنان أحمد ناصر كما يحلو له أن يلقب، شريط ذكرياته مع الفن والطرب وجلسات السمر وتحولاتها عبر الأجيال، وقال: «احتضنت هذه السوق، الكثير من الفنانين الشعبيين العظماء بمختلف أجيالهم منذ ما يقارب النصف قرن، منهم الفنان الراحل فهد بن سعيد، والفنان حمد الطيار، والفنان طاهر الأحسائي، والفنان فهد بن عبد المحسن، وجمعيهم تربطني بهم علاقات قوية منذ سنوات طويلة، خصوصا في العصر الذهبي أوائل الثمانينات ومنتصفها».
وأضاف: «كانت الحركة الفنية على أشدها والسوق تزخر بكثير من زملاء المهنة وعشاقها، وكانت السمرات الليلية تستمر حتى ساعات الفجر الأولى، والسوق تعج بالزوار والمهتمين بالطرب الأصيل الذي كان العود متسيدا عليه».
وحول عمر السوق وأثرها على الخارطة الفنية السعودية، كشف أحمد أن السوق يمتد عمرها الزمني لأكثر من 50 سنة، ومرت بمنعطفات تاريخية كبيرة، إلا أنه تخرج منها كثير من الفنانين الكبار الذين كانت بداياتهم في هذه السوق. بل إن بعض الفنانين المعروفين في الوقت الحالي كانوا يقدمون الطرب في باحات وأزقة السوق، الذي يدينون له بالفضل كثيرا، نظير دعمه لهم في بداية مشوارهم، ووجود المتذوقين للطرب في أرجاء المكان، خصوصا أنها السوق الوحيدة التي تهتم بالموسيقى والطرب على مستوى منطقة الرياض.
وأوضح: «اختلفت الحال الآن عما كانت عليه، فالإقبال على تعلم آلة العود انخفض إلى مستوى ملحوظ، مع دخول كثير من الآلات الموسيقية الحديثة، إلا أنه لم يفقد رونقه وعشاقه، خصوصا من سكان البادية والهجر والمحافظات الذين لا يزالون حتى الآن زبائن دائمين للسوق، وهم الأكثر إقبالا وتمسكا بالعزف على آلة العود عن غيرهم من سكان المدينة».
ولفت إلى أن العزف في السعودية يدخل في باب التسلية فقط، بعكس الدول العربية الأخرى التي يعمل الفنانون فيها على العود ويتكسبون من وراء العزف، وهو الأمر الذي يطفئ وقد الإقبال عليه محليا.
وفي الركن الرئيس في السوق التقينا حمد الدوسري الذي يمتلك محلا لبيع الآلات الموسيقية، يتفاوض مع أحد الزبائن عن مدى جودة آله عود يريد بيعها، وعندما بادرناه بالسؤال عن الحال، قال إن السوق تعيش انتعاشا كبيرا في حركتها، خصوصا أنهم مقبلون على إجازة الصيف التي تعتبر فرصة كبيرة لتحقيق الأرباح، معرجا بذلك على أسعار وأنواع آلات العود، حيث أكد أن المصري هو الأرخص على الإطلاق، إذ يبدأ سعره من 150 ريالا، يليه البحريني والكويتي.
وبين أن العود العراقي الذي تبدأ أسعاره من 2500 ريال، ويصل إلى 40 ألف ريال لأجود الأنواع، يتسيد أنواع العود؛ إذ إنه يحتوي على مواصفات خاصة كالعود الذي يستخدمه كبار الفنانين في الوطن العربي، وعلى رأسهم عبادي الجوهر الذي يعد الأب الروحي لعازفي العود ومثلهم الأعلى.
لافتا إلى أن العود المصري وعلى الرغم من رخص سعره، إلا أن هناك أنواعا منه تصل إلى عشرة آلاف ريال، مبينا أن بلد المصنع لا علاقة له تماما بجودة العود، بل إن اسم الصانع هو الذي يحدد جودته، مبينا أن العود من الداخل يحتوي على بصمة الصانع وسنة الصنع.
وأضاف: «يتسيد الأنواع ما ينتجه الصانعان محمد فاضل ومنصور المنصور وهما عراقيان، إلا أن هناك الكثير من الصناع المهرة من دول مختلفة يبيعون آلاتهم التي يصنعونها بحرفية عالية بآلاف الريالات، خصوصا أن العود الواحد يحتاج إلى عمل شاق، يمتد إلى أسبوع».
وبين الدوسري أن الأسعار تختلف باختلاف جودة الخشب المصنوع ونوع الوتر، وهو العلامة الفارقة في تحديد الأسعار ومدى الجودة، خصوصا أن صناعة العود تحتاج إلى دقة عالية لأن الخطأ غير المقصود قد يغير من صوت العود، وبالتالي قد يؤثر على اسم الصانع وزبائنه، كاشفا أن الأزمات السياسية العربية في مصر والعراق أثرت كثيرا على إنتاج الأعواد وبالتالي ارتفاع أسعارها.
وعن الطريقة المثلى لتعلم العزف بالعود، أكد زاهد عباد الذي يعمل في أحد محلات «سوق الطرب» أن الرغبة والهواية هما الأساس لتعلم العزف، حيث إن العود يبادل صاحبه الشعور، فكلما أحب العزف كلما أبدع معه العود ومكنه من التعلم في وقت أسرع.
وأوضح أن تعلم أسماء الأوتار والحساسات هي الخطوة الأولى عمليا في التعليم، مبينا أن دروس التعليم في السعودية غالية وتكون في الخفاء، وتبدأ دروس العزف بسعر 150 ريالا للحصة الواحدة، ويحتاج الطالب إلى خمس حصص من أجل الإلمام بالأساسيات، مثل وزن العود ومعرفة الأصوات والتركيز على الأوتار ونقل اللحن من العقل إلى الوتر، مبينا أن عدم وجود معاهد متخصصة لتعليم الآلات الموسيقية فتح المجال للمتاجرين والنصابين الذين يستغلون الراغبين في تعلم الدروس الموسيقية.
وتطرق عباد إلى الأنواع الأفضل للتعلم، حيث يتربع النوع المصري على الأنواع الأخرى، خصوصا أنه رخيص السعر ويعطي أصواتا جيدة نوعا ما، مشيرا إلى أن من يشتري الأنواع الغالية هم المحترفون الذين يبحثون عن النادر منها، خصوصا أن العود يعيش لمدة تصل إلى 30 عاما، بحسب اهتمام صاحبه به واستخدامه.
وبين أن هناك أنواعا قديمة في السوق صنعت قبل عقود، وتباع بأسعار مرتفعة، وتمتاز بزبائنها المحددين الذين لا يتجرأ غيرهم على الدخول معهم في اقتنائها، نظرا لارتفاع أسعارها، مبينا أن النوع اليدوي القديم هو الأفضل، أما العود الكهربائي فيفضله بعض العازفين المهرة الذين يحيون به الحفلات، مثل الفنان الكبير رابح صقر الذي يعزف كثيرا على النوع الكهربائي، وذلك لجودته العالية في التسجيل.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».