«خاتون بغداد»... تطويع السيرة الذاتية إلى عمل روائي

نص مفتوح تخلص من سطوة التقارير والوثائق والمخططات السرية

مس بيل
مس بيل
TT

«خاتون بغداد»... تطويع السيرة الذاتية إلى عمل روائي

مس بيل
مس بيل

صدرت عن دار كُتّاب الإماراتية رواية «خاتون بغداد» لشاكر نوري، وهي الرواية التاسعة في رصيده الإبداعي، وقد فازت مؤخراً بجائزة «كتارا» إلى جانب أربع روايات أخرى من الأردن وسوريا والجزائر والمغرب، وسوف تُترجم الروايات الفائزة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
لنعترف سلفاً أن معظم الثيمات التي عالجها شاكر نوري في رواياته هي ثيمات جريئة وإشكالية بامتياز كما هو الحال في «نزوة الموتى» و«شامان» و«جحيم الراهب» وربما تكون «خاتون بغداد» هي الأكثر إثارة للجدل لأنها تستنطق السيرة الذاتية للمِس بيل التي حظيت بألقاب عدة من بينها «الخاتون» و«صانعة الملوك» و«ملكة العراق غير المُتوَّجة». لعل السؤال الأبرز الذي يمكن أن يخطر في ذهن أي قارئ لهذا النص الروائي هو: كيف استطاع الكاتب شاكر نوري أن يحوِّل السيرة الذاتية للمس غيرترود بيل إلى عمل روائي نابض بالحياة؟ وكيف تمكن من تطويع الأحداث والوقائع التاريخية إلى ثيمات سردية سلسة خرجت إلى حدٍ ما من إطار التوثيق البيوغرافي لتشتبك بآراء ووجهات نظر ست شخصيات آخر اُفتتِنت بالمس بيل وبحثت عنها على مدار النص الروائي، تماماً كما بحثت شخصيات بيرانديللو الست عن مؤلف يمنحها الحياة من خلال تجسيدها في عمل فني خلاق.
لا يخفى على القارئ تعاطف الكاتب مع الشخصية المُهيمنة في هذه الرواية مع أنها تمثل الاحتلال البريطاني الذي لا يختلف كثيراً عن الاحتلال الأميركي للعراق، فكلاهما دمّر العراق، وقتل مواطنيه، ونهب ثرواته مع فارق ضئيل في النسبة والتناسب.
لا أحد يشكِّك في صلاحية المس بيل كشخصية روائية نموذجية فهي كاتبة، ورحّالة، وعالمة آثار، ومستشارة المندوب السامي بيرسي كوكْس في العراق، وقد أحبّت مرتين وكانت على وشك أن تخوض قصة حب ثالثة مع كنيهان كُرنواليس، مستشار الملك فيصل، لكن جميع هذه القصص العاطفية لم تُفضِ إلى الزواج ولم تحقق لها هاجس الأمومة الذي كان يراودها كما يراود أي امرأة أخرى في هذا العالم.
وبما أنّ هاتين القصتين العاطفيتين محوريتان في حياة المس بيل فقد ركّز عليهما شاكر نوري في نصه الروائي ومنحهما مساحة كبيرة أكثر مما تستحقان مُشتغلاً على أبعادهما الرومانسية بلغة رشيقة، متوهجة لا تخلو من بعض الأخطاء العابرة. لا تقتصر الهفوات على الوعي اللغوي وإنما تمتد إلى الالتباس في الحقائق التاريخية فمقتل الإمام الحسين قد وقع قبل 1337 سنة وليس «قبل ألف ومائتي عام» (ص205) كما يذكر المؤلف. وقد يكون السير بيرسي كوكْس الطفل المدلل لكن ليس «لملكة بريطانيا العُظمى» (ص36) التي لا تزال موجودة في سُدة الحكم حتى يومنا هذا، وإنما إلى الملك جورج الخامس الذي خرجت إمبراطوريته منتصرة في الحرب العالمية الأولى.
وحتى على صعيد الشخصيات الرئيسية ثمة أخطاء لا تُغتفر لأنها تشي بتشوّش ذهنية الكاتب، فالكولونيل ريتشاد داوتي ويلي الذي فارق الحياة بعد أن «أصابتْهُ رصاصة في رأسه أثناء لحظة الانتصار» (ص140) لكن الراوي العليم سوف يخبرنا بعد صفحتين لا غير بأن ريتشارد قد مات لأنه «أُصيب برصاصة في قلبه في معركة غاليبولي» (ص142). فأي الواقعتين نُصدِّق مع أن الموت واحد!
مثلما اجتهد نوري وتعاطف مع شخصية مس بيل، وبالغَ في وصف معالمها الخارجية رغم أنها ليست جميلة ولا تمتلك قسطاً ملحوظاً من الجاذبية إلاّ أن الكاتب أوصلها إلى مستوى الأسطورة في الرِقة والأنوثة والجمال، ومع ذلك فإنها تمتلك خصالاً أخرى كثيرة كان بإمكان الكاتب أن يراهن عليها مثل الذكاء الشديد، وقوة الملاحظة، والقدرة على الكتابة اليومية التي سوف تتطور لاحقاً إلى «تقارير استخباراتية» تفيد منها القطعات العسكرية والدوائر الأمنية البريطانية التي وافقت على أن تكون مستشارة للمندوب السامي بيرسي كوكس قبل أن تنتقل للعمل تحت إمرة هنري دوبس الذي كان فظاً، متعالياً، ولا يحبذ الاستماع إلى نصائح امرأة حتى وإن كانت خبيرة أو مستشارة في الإمبراطورية المترامية الأطراف.
نجح شاكر نوري في بناء ثيمة روائية توازن بين الجانبين الذاتي والموضوعي، فالمس بيل لم تكن شراً كلها، إذ يكفي أنها كتبت 16 كتاباً عن العراق والشرق الأوسط، وأنها أسست المُتحف العراقي، ووضعت فيه قرابة 3000 تحفة أثرية، وساهمت في بناء المكتبة الوطنية، ناهيك عن دورها البارز في تشكيل الدولة العراقية الحديثة، ورهانها على تنصيب الأمير فيصل بين الحسين ملكاً على عرش العراق بالضد من رغبة المستر جون فيليبي ومؤازريه الذين كانوا يحلمون بالحكم الجمهوري وما إلى ذلك، لكن الأهم من ذلك كله أن الروائي شاكر نوري قد نجح في الإفلات من أُسار النص البيوغرافي والنزعة التوثيقية إلى فضاء الرواية بأنساقها السردية المحلية منها والعالمية فأردفها بست شخصيات أخرى منحت النص نكهة مغايرة تداخلت فيها السيرة الذاتية للخاتون، مع السينما، والرواية، والنص المفتوح الذي تخلّص من سطوة التقارير والوثائق والمخططات السرية إلى البوح العلني الذي أجّجهُ الكاتب بفحص خصال الشخصية العراقية المزدوجة ودراسة طبيعة المجتمع العراقي الذي يشبه كثيراً جغرافية البلد وطبيعة نهريه اللذين يجمعان بين ثنائية الهدوء والهيجان في آنٍ معاً. وعلى الرغم من أن هذه الثنائية ليست جديدة وقد تناولها عالم الاجتماع علي الوردي غير مرة إلا أن توسيع هذه الفكرة وتعميق دلالتها تُحسب لمصلحة الروائي الذي تَمثّل هذه الأفكار الاجتماعية، وطوّع الخصائص النفسية التي تميّز سلوكية الشخصية العراقية عن سواها من الشخصيات العربية أو العالمية.
لا بد من الإشارة إلى أن الشخصيات الست قد غيّرت إيقاع الرواية رغم أنها تدور في فلك الشخصية المحورية التي تُعزز موقعها بهذه الشخصيات التي انبثقت من قلب المجتمع العراقي الذي كان يعاني حتى وقت قريب من وحشية الاحتلال الأميركي. فيونس هو كاتب سيناريو، ونعمان مخرج سينمائي، وهاشم مشغِّل لآلة العرض في سينما غرناطة، ومنصور حارس لقبر المس بيل، وأبو سقراط الملقب بـ«فيلسوف بغداد»، وفرناندو، خبير المكتبات الفنزويلي الذي جاء إلى بغداد لتقييم المكتبة الوطنية التي أحرقتها أيادٍ ليست مجهولة تماماً. ولعل فصل الشخصيات الست التي تبحث عن امرأة هو من أجمل الفصول الهذيانية التي تنتاب الكائن العراقي الذي يلوذ بالحانات الليلية والنهارية ليبوح بكل ما في جعبته من أسرار حتى وإن كانت خطيرة تضع حبل المشنقة حول رقبته. ولعل السيناريو الذي كتبه يونس ونسيه مرات عديدة في «حانة الرافدين» يكشف الجانب السريالي الذين تعيشه هذه الشخصيات في ظل دوامة الحياة المنفتحة على الخواء، واليأس، والموت المجاني الذي قد يفاجئ هذه المجموعة أو غيرها في أي لحظة.
يتألق شاكر نوري كعادته في انتقاء الثيمات لمجمل رواياته ولعل نجاح هذه الرواية يعود في جانب كبير منه إلى سلسلة من الثيمات المتتالية التي رصدت شخصية المس بيل حيث تقول بمرارة رداً على الذين يتهمونها بالعمل كجاسوسة: «إنني أعمل لحسابي وليس لحساب أحد. قليلون يعرفون ذلك» (ص374). وحينما تنكسر كلياً ويهملها الجميع، تصور ضعفها البشري حينما تخاطب ماريا، مدبرة منزلها قائلة: «إنني قصبة مكسورة لا أصلح لشيء حتى لنفخ الريح، فكيف أعزف الألحان؟» (ص310).



ملتقى مصري لحماية الأراجوز وخيال الظل من الاندثار

عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
TT

ملتقى مصري لحماية الأراجوز وخيال الظل من الاندثار

عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)
عروض الأراجوز تشهد إقبالاً كبيراً من تلاميذ المدارس (إدارة الملتقى)

في مساعٍ لحماية الأراجوز وخيال الظل والعرائس التقليدية من الاندثار بوصفها من فنون الفرجة الشعبية بمصر، استقبل ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية ضيوفه، الخميس، في الحديقة الثقافية بحي السيدة زينب (وسط القاهرة) بممر يتكون من عرائس الأراجوز والتنورة، ثم افتتاح معرض «فرحة العرائسيين»، الذي تضمن كثيراً من أنواع العرائس.

وبدأت فكرة ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية عام 2019، عقب إدراج فن الأراجوز على قائمة الصون العاجل في «اليونسكو» عام 2018، بهدف الحفاظ عليه بوصفه فناً غير مادي قابل للاندثار، وذلك من خلال تدريب لاعبين جدد على استخدام «الأمانة»، وهي أداة الأراجوز في التحدث، ومن خلال تأصيل علمي لفن الأراجوز، وكذلك كتابة مجموعة من النمر الأراجوزية لتواكب الأجيال الجديدة من الأطفال.

ملتقى الأراجوز والعرائس التقليدية (إدارة الملتقى)

وقال الباحث أحمد عبد العليم، مدير المركز القومي لثقافة الطفل، أمين عام الملتقى، إن «فن الأراجوز المصري نشأ بوصفه حاجة أنتجتها خلاصة وعي الذاكرة الجمعية للشعب المصري على مدى آلاف السنين ليعبّر من خلالها عن ضميره ووجدانه النابض، إذ حافظ فن الأراجوز المصري على ثوابت موروثه الثقافي الشعبي، وهذا يجعل منه أيقونة جمالية تاريخية تستحق أن تُدرج ضمن قائمة اليونسكو»، وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «لو عدنا إلى أصل تسمية (الأراجوز) سنجدها مشتقة من كلمة قبطية قديمة (أرجويوس) والتي تعني صانع الحكايات».

وتضمَّن الافتتاح عدداً من العروض الفنية من بينها العروض فريق كورال «سلام» بقيادة المايسترو وائل عوض الذي قدم أغنية جديدة أُنتجت خصيصاً للدورة السادسة من ملتقى الأراجوز، وهي أغنية «تع تع» وهي كلمة شعبية بمعنى «تعالَ»، من كلمات الشاعر أحمد زيدان، وألحان وتوزيع وائل عوض، ثم عرض استعراضي لفرقة «بنات وبس» على أنغام أغنية «أراجوز المدارس» بقيادة الفنان عبد الرحمن أوسكار، ثم عرض لخريجي ورشة الأراجوز.

وأشار عبد العليم إلى أن «الأراجوز المصري هي العروسة القفازية الفاعلة رغم بساطتها لما قدمته من عروض في الموالد والمقاهي والأعياد على مدى عقود عدة، وقد شهدت بتعاقب الأزمان تحديثات على بعض عناصرها أو مقوماتها شكلاً ومضموناً، وهي تحديثات أفرزتها متغيرات العصر كي تضمن مقبوليتها لدى المتفرجين».

أحد عروض الأراجوز (منسق الملتقى المخرج ناصر عبد التواب)

وحرص الملتقى على توثيق وتطوير فن الأراجوز عبر عدد من الإصدارات، من بينها «الأراجوز المصري والعرائس»، من إعداد أحمد عبد العليم وناصر عبد التواب، و«مسرح العرائس في مصر»، من تأليف الدكتور سيد علي إسماعيل، و«حواديت أراجوزية» من تأليف مجموعة من الكتاب، منهم أحمد زيدان وأحمد جابر.

ومن بين أهداف الملتقى الذي يستمر حتى يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني)، الاحتفاء بلاعبي الأراجوز الشعبيين الذين حافظوا علي هذا الفن وإقناعهم بنقل خبراتهم وتدريب وتخريج جيل جديد يحمل راية هذا الفن ويمرره للأجيال التالية حتى لا يتعرض للاندثار، والأمر نفسه ينطبق على فنون الفرجة التي تعتمد على العرائس التقليدية.