عودة رسمية للسينما إلى السعودية

عرفتها قبل عقود... من ماكينات العرض إلى أشرطة الفيديو

صورة من أرشيف «أرامكو» لتلفزيون الشركة حينما كان  يقدم السينما للجمهور في ستينات القرن الماضي شرق السعودية
صورة من أرشيف «أرامكو» لتلفزيون الشركة حينما كان يقدم السينما للجمهور في ستينات القرن الماضي شرق السعودية
TT

عودة رسمية للسينما إلى السعودية

صورة من أرشيف «أرامكو» لتلفزيون الشركة حينما كان  يقدم السينما للجمهور في ستينات القرن الماضي شرق السعودية
صورة من أرشيف «أرامكو» لتلفزيون الشركة حينما كان يقدم السينما للجمهور في ستينات القرن الماضي شرق السعودية

أقرت السعودية بشكل رسمي ومنظم، افتتاح دور للسينما في البلاد، وخلق تجربة سينمائية متكاملة تحقق أهدافاً ثقافية وترفيهية واقتصادية، معيدة بذلك التجربة ذاتها التي عرفتها البلاد منذ عقود، عندما كانت العروض السينمائية حاضرة في الأندية الرياضية والفنادق وبعض المنازل أو في المناسبات المختلفة، أو عبر أشرطة الفيديو التي انتشرت في البلاد قبل أكثر من 4 عقود من خلال محلات مخصصة لبيع وتأجير هذه الأشرطة، وحصلت على تراخيص تخولها ممارسة هذا النشاط، وقبلها عبر محلات تأجير الأفلام السينمائية، وأجهزة تشغيلها، وكانت تمارس نشاطها علناً في المدن الكبرى بالبلاد.
وأعلنت السعودية أمس، السماح بفتح دور للعرض السينمائي والموافقة على إصدار التراخيص للراغبين في دخول هذا النشاط، حيث وافق مجلس إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع برئاسة الدكتور عواد العواد، وزير الثقافة والإعلام، في جلسته، على إصدار تراخيص للراغبين في فتح دور للعرض السينمائي في السعودية.
ومن المقرر البدء بمنح التراخيص بعد الانتهاء من إعداد اللوائح الخاصة بتنظيم العروض المرئية والمسموعة في الأماكن العامة خلال مدة لا تتجاوز 90 يوماً.
وقالت وزارة الثقافة والإعلام في بيان صحافي إن «الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع ستبدأ في إعداد خطوات الإجراءات التنفيذية اللازمة لافتتاح دور السينما في المملكة بصفتها الجهة المنظمة للقطاع». وأضافت: «سيخضع محتوى العروض للرقابة وفق معايير السياسة الإعلامية للسعودية»، كما أكدت أنّ «العروض ستتوافق مع القيم والثوابت المرعية، بما يتضمن تقديم محتوى مثرٍ وهادف لا يتعارض مع الأحكام الشرعية ولا يخل بالاعتبارات الأخلاقية في السعودية».
وتسعى الوزارة للارتقاء بالعمل الثقافي والإعلامي، في إطار دعمها الأنشطة والفعاليات، وتأمل أن تسهم هذه الخطوة في تحفيز النمو والتنوّع الاقتصادي عبر تطوير اقتصاد القطاع الثقافي والإعلامي ككل، وتوفير فرص وظيفية في مجالات جديدة للسعوديين وإمكانية تعليمهم وتدريبهم من أجل اكتساب مهارات جديدة.
يذكر أنّ هيئة المرئي والمسموع قطعت شوطاً كبيراً في دراسة القطاع السينمائي، وإعداد الأطر التنفيذية اللازمة لخلق تجربة سينمائية متكاملة بشكل لا يقتصر فقط على ما تعرضه الشاشات، بل تقديم تجربة ثقافية وترفيهية لكل أفراد العائلة.
يذكر أنّ العمل في القطاع السينمائي سيحدث أثراً اقتصادياً يؤدي إلى زيادة حجم السوق الإعلامية، وتحفيز النمو والتنوّع الاقتصادي من خلال المساهمة بنحو أكثر من 90 مليار ريال (24 مليار دولار) إلى إجمالي الناتج المحلي، واستحداث أكثر من 30 ألف وظيفة دائمة، إضافة إلى أكثر من 130 ألف وظيفة مؤقتة بحلول عام 2030.
وأعاد هذا الإجراء تاريخ دخول السينما إلى السعودية، حيث سجل التاريخ الشفوي أن البلاد عرفت هذا النوع من النشاط الثقافي منذ الثلاثينات، من خلال دور عرض أدخلها الموظفون الغربيون العاملون في شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي التي عرفت لاحقاً باسم (أرامكو)، حيث أتيحت لموظفي الشركة في المجمعات السكنية المخصصة لهم مشاهدة العروض سينمائياً، ثم أتيحت الفرصة ذاتها للسعوديين.
وسجل التاريخ أن شركة أرامكو أنتجت فيلماً وثائقياً عن تدشين أول بئر بترولية في السعودية، وعرضت ذلك في احتفالية كبيرة حضرها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن (رحمه الله).
وحدثت في السبعينات نقلة في هذا الجانب، بتقديم الأندية الرياضية الشهيرة في المدن السعودية عروضاً سينمائية مسائية برسوم تذاكر لا تتجاوز ريالين (أقل من دولار أميركي)، وخُصصت أماكن داخل هذه الأندية لمشاهدة العروض، كما أن كثيراً من الفنادق الشهيرة وبعض المنازل عرفت العروض السينمائية بداخلها وأتاحت للجمهور مشاهدتها، كما بادر بعض أصحاب الزيجات بعرض أفلام سينمائية داخل منازلهم أو في الصالات وقاعات الأفراح التي استضافت هذه الزيجات والمناسبات المختلفة.
وانتشرت في المدن الكبرى في السعودية محلات مرخصة لتأجير الأفلام السينمائية مع أجهزة ومكان تشغيلها، وعندما دخل جهاز العرض الفيديو إلى السوق السعودية، انتشرت الأفلام السينمائية عبر أشرطة الفيديو التي تُشغل عبر أجهزة التلفاز، وكانت العروض في كل هذه تتراوح بين عروض جادة وعشوائية تفتقد للتنظيم وغياب مقص الرقيب.
وبسبب أحداث داخلية وخارجية، وبروز ما يسمى المدى الصحوي في نهاية السبعينات، اختفت كل من المظاهر الفنية ومنها السينما، وتقلّصت محلات تأجير أشرطة الفيديو، بل إنّ كثيراً منها انسحب من السوق.
وبعد ساعات من صدور القرار، قالت شركتا ماجد الفطيم وڤوكس سينما في الإمارات، إنّ إعلان السعودية إعادة افتتاح دور السينما الذي يتماشى مع رؤية 2030 سيسهم في توفير عدد كبير من فرص العمل، بالإضافة إلى دعم نمو القطاعات الإبداعية المحلية في جميع أنحاء البلاد، كما تشكل هذه الخطوة الانتقالية مرحلة جديدة.
وأكدت الشركتان التزامهما بالعمل مع حكومة السعودية من أجل توسيع نطاق علامة «ڤوكس سينما» في المملكة خلال الأشهر المقبلة، حيث توجد شركة ماجد الفطيم بشكل كبير وواسع في السعودية، من خلال تجاوز حجم استثماراتها الحالية المعلنة 14 مليار ريال في مجال التجزئة والترفيه والأزياء، الأمر الذي سيسهم في توفير أكثر من 114 ألف فرصة عمل مباشرة أو غير مباشرة.
وقالت الشركتان في بيان حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه: «نحن نتطلع إلى تعزيز هذا التعاون من أجل دعم الأهداف الاقتصادية المحلية في المملكة العربية السعودية وتحقيق أسعد اللحظات لكل الناس كل يوم».


مقالات ذات صلة

مخرج مصري يوثّق تداعيات اعتقال والده في الثمانينات

يوميات الشرق صناع الفيلم بعد العرض الأول في المهرجان (القاهرة السينمائي)

مخرج مصري يوثّق تداعيات اعتقال والده في الثمانينات

يوثق المخرج المصري بسام مرتضى في تجربته السينمائية الجديدة «أبو زعبل 89» مرحلة مهمة في حياة عائلته.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق كشف عن نقاط اتفاق وخلاف مع أستاذه المخرج يوسف شاهين

يسري نصر الله: أفلامي إنسانية وليست سياسية

قال المخرج المصري يسري نصر الله، إنه لم يقدم أفلاماً سياسية في مسيرته سوى فيلم «الماء والخضرة والوجه الحسن» الذي تحدث عن العيش والحرية والكرامة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من الفيلم اللبناني «أرزة» (إدارة مهرجان القاهرة السينمائي)

«أرزة»... فيلم لبناني عن نساء أرهقتها ضغوط الحياة

عن معاناة لسيدة لبنانية تتحمّل مسؤولية تأمين لقمة العيش لابنها وشقيقتها، تدور أحداث الفيلم اللبناني «أرزة» الذي عُرض ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية».

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق دار الأوبرا المصرية حيث تُقام الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائي (أ.ب)

مهرجان القاهرة السينمائي انطلق بثبات وموقف

أن يحضر ممثلو شركات إنتاج عربية أو أجنبية ليس وضعاً خاصاً بالنسبة إلى مهرجان القاهرة، لكنه دلالة على اهتمام شركات عاملة في مجالي الإنتاج والتوزيع بهذا المهرجان.

محمد رُضا (القاهرة)
يوميات الشرق الملصق الترويجي لفيلم «الملحد» (الشركة المنتجة)

أزمة «الملحد» تعيد الملاحقات القضائية للسينما المصرية

أعادت أزمة إيقاف ترخيص فيلم «الملحد» وإلغاء طرحه في دور السينما والمنصات جدل «الملاحقات القضائية للسينما المصرية» للواجهة مجدداً.

داليا ماهر (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)