البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب في الأعوام الماضية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
TT

البابا في ميانمار... الطريق لمواجهة العنف والأصولية البوذية

بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)
بابا الفاتيكان يزور منزل الأم تيريزا خلال زيارته إلى بنغلاديش في محطته الثانية والأخيرة للقاء لاجئي الروهينغا الذبن فرّوا من ميانمار بداية الشهر الحالي (إ.ب.أ)

ذات يوم تندر الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين على البابا بيوس الثاني عشر، بابا الفاتيكان، بالتساؤل «كم فرقة عسكرية يمتلك البابا؟»، لم يكن أحد يدري بأن هذه السلطة الروحية سيكون لها بعد بضعة عقود من النفوذ ما يمكّنها من مواجهة النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية.
لنتذكر ما الذي يدعونا إلى هذه الأحداث؟ بلا شك الزيارة الأخيرة التي قام بها بابا الفاتيكان فرنسيس إلى دولة ميانمار بورما، وجعل هدفه مقاومة الشر القائم هناك، والمتمثل في الأصولية البوذية، تلك التي أذاقت مسلمي الروهينغا العذاب الكبير والكثير في الأعوام الماضية.
لم يكن للبابا أن يصطحب معه الجيوش ليغيّر من الأوضاع على الأرض، لكن إعلاء الحقيقة، كان رائده في رحلته، رغم القيود العريضة، والفخاخ التي نصبتها له قوى التطرف قبل الذهاب إلى هناك.
يعنّ لنا أن نذكّر القارئ بأوضاع المعذبين في الأرض من مسلمي الروهينغا، فقد سحبت السلطات الحكومية منهم الجنسية قبل أن تسعى إلى تهجيرهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم، حرقاً أو غرقاً، لا يهم، فجُلّ اهتمامات الحكومة هناك إخلاء إقليم «راخين» منهم، وفرض الحكم البوذي فيها، وهي في ذلك تستخدم كل ألوان الكذب والتضليل على الرأي العام العالي.
ولعل القارئ المحقق والمدقق للمشهد هناك موقن بأن ما يجري في بورما هو عملية إبادة جماعية دون أي تهويل، بل مجزرة وتطهير عرقي؛ فالقوات المسلحة هناك المدعومة من الميليشيات البوذية المغرقة في تطرفها ترتكب أبشع أنواع الظلم والاضطهاد ضد المسلمين الروهينغا؛ ولهذا لم يعد صادماً أو مثيراً قيام القوات البورمية، على تعدد أنواعها واختلاف أشكالها، بالقتل بشكل عمومي ومن ثم إحراق القرى واحدة تلو الأخرى، واغتصاب النساء وتهجير قسري لسكان المدن.
بحسب المراقبين، تتمثل الفكرة الوحيدة في تعزيز نفوذ الأصوليين البوذيين الذين يؤمنون بفكرة النقاء العرقي، وعليه فإنه لا هم لهم ولا هدف ينشدونه سوى تهجير مسلمي أراكان، وجعل المنطقة خالية من أتباع الإسلام، لتضحى فضاءً مباحاً ومتاحاً للبوذيين، وقد وصل عدد الضحايا، بحسب بعض التقارير، إلى 14 ألف قتيل وجريح، وربع مليون مهجّر، منذ بداية الأزمة.
موقف الفاتيكان
الشاهد، أن صوت البابا فرنسيس، الأرجنتيني الجنسية، ارتفع مرات كثيرة أمام التوحش البوذي هناك، وندد في فبراير (شباط) الماضي بما يجري هناك بالقول: «إنهم يتعرضون للقتل والتعذيب؛ لأنهم يريدون ممارسة ثقافتهم ومعتقداتهم الإسلامية».
وفي مواجهة الاضطهاد الممنهج والإبادة الجماعية التي يتعرض لها مسلمو الروهينغا، ارتفع صوت البابا فرنسيس مرة أخرى في 27 أغسطس (آب) الماضي، معلناً تضامنه معهم، ومطالباً باحترام حقوقهم، واصفاً إياهم بأنهم «إخوة لنا، يتعرضون لأذى والاضطهاد بسبب إيمانهم وعقدتهم».
هل كان فرنسيس مرحباً به هناك؟
الواقع أنه وفيما كان البابا في الطريق إلى بورما كانت رحى الأصولية البوذية تعمل بجد ونشاط على تعكير صفو رحلته، وإبداء استعدادهم لتهديد البابا شخصاً إذا تلفظ بـ«كلمة روهينغا».
القومية والشوفينية القاتلة هي آفة العصر؛ ولهذا رأينا رهبان بوذيين قوميين في ميانمار يستنكرون زيارة البابا للبلاد ودعوة الحكومة له، فقد أصدر «الاتحاد الوطني لرهبان ميانمار» بياناً وصف فيه الزيارة بأنها «قمع» لميانمار البوذية؛ كون البابا قد تحدث في السابق صراحة عن أزمة الروهينغا.
أما الراهب البوذي المتطرف يوثاو باركا، المتحدث باسم المنظمة البوذية «ما باثا»، فقد وجّه تهديداته إلى البابا قائلاً: «سيلقى البابا فرنسيس جميع مظاهر الترحيب المنوط بها لاستقباله، لكن حال إعرابه عن دعمه أقلية الروهينغا سيفتح على نفسه موجة من الانتقادات لن يقوى على التصدي لها».
ورغم أن البابا فرنسيس رفض طوال العام الماضي الإذعان لهذه الضغوط، واستخدم مراراً وتكراراً لفظة «روهينغا»، واصفاً أبناء هذه الطائفة التي تتعرض للاضطهاد بأنهم «إخوة وأخوات لنا»، فإنه امتنع بالفعل في زيارته الأيام الأخيرة عن الإشارة بالتصريح إلى تلك الجماعة المسلمة المضطهدة، وإن كانت أحاديثه قد امتلأت بالإشارات الضمنية وغير المباشرة لهم.
أحاديث خلف الكواليس
على أنه إذا لم يكن البابا قد تحدث علانية عن «الروهينغا» بالاسم، فهذا لا يعني أنه لم يتطرق إلى المسألة في الكواليس وبطريقة لا تثير مشاعر الأصوليين البوذيين.
نؤكد أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث وفي هدوء، ودون صخب أو ضجة، وتمثل في لقاء البابا بقائد جيش ميانمار الجنرال مين أونغ هلاينغ، المتهم بممارسة التطهير العرقي ضد الروهينغا.
اللقاء أدرج في اللحظات الأخيرة ضمن برنامج البابا، وبناء على طلب الكارينال تشارلس بو، رئيس أساقفة رانغون، لكن لماذا هذا اللقاء مع الجنرال مين أونغ هلاينغ؟
أحد المصادر الفاتيكانية المقربة أشارت إلى أنه كان لا بد من هذا اللقاء خلال الرحلة البابوية؛ لأن ذلك: «مهم لمستقبل ميانمار والمصالحة فيها»؛ ولأن «قسماً كبيراً من الاقتصاد والأمن لا يزال بين يديه»، وأضاف المصدر عينه: «الجيش هو الذي سبّب أزمة الروهينغا، وعليه لا بد من إشراكه في مجال تجديد البلاد الذي ترعاه أونغ سان سوتشي، وزيرة الخارجية».
وعلى هامش اللقاء، كان الكاردينال تشارلس بو يؤكد على أن هدف لقاء البابا مع قائد الجيش وصحبه ليس تعزيز ما فعله الجنرال، أي الاعتداء على مسلمي الروهينغا، بل تبادل الحوار معه، «لعل قلبه يلين فيما قد يكون الخطوة الأولى نحو السلام».
طريق لتجاوز الأصولية
بعد الجنرال الممسك بزمام الأمور في ميانمار عمد البابا إلى مخاطبة الحس الإنساني لدى القيادات الدينية في هذا البلد المعروف بأنه أمة كبيرة غنية بالألوان، ومكون من ثماني قبائل. طوال أربعين دقيقة التقى البابا بـ17 مسؤولاً دينياً في البلاد، بين بوذيين وهندوس ومسلمين ويهود ومسيحيين، وأمام هذا الحشد من رجالات الدين المختلفين عقائدياً، وأن جمعهم أصل إنساني واحد، استنكر البابا «الميل العالمي للانتظام» في قتل البشرية، في حديث لم يكن ينقصه سوى الإشارة بالاسم واللفظ لما يجري لمسلمي الروهينغا.
طالب البابا بالوحدة في الاختلاف، مُصرّاً على أننا جميعاً إخوة، حتى لو لم تعني الوحدة أن نكون متشابهين... لكل منا غناه ونقائصه، لكن يمكننا أن نعيش بسلام، والسلام يبني في قلب الاختلافات في حين الوحدة تظهر في تلك الاختلافات.
كلمات البابا عزفت لصالح مسلمي الروهينغا، دون أن يسميهم، وبخاصة عندما تناول قضية ميانمار، البلد الغني في اختلافاته؛ إذ شدد على أن «طبيعة ميانمار غنية جداً باختلافاتها؛ لذا دعونا لا نخاف من الاختلاف؛ إذ أبانا واحد ونحن أخوة، فلنبق كذلك، وإن لم نكن متفقين فيما بيننا، فلنكن كالإخوة الذين سرعان ما يتصالحون».
انغلاق أم تسامح؟
من المؤكد أن دوائر الفاتيكان كانت تدرك أن البوذية لها الباع الطويل في ميانمار «بورما»؛ ولهذا حرص البابا على لقاء القائد البوذي ستياغو سالياداو، في لقاء وصف بالضروري والحيوي، ضمن الجهود المبذولة لتحفيز السلام والتعايش الأخوي كطريق وحيدة لسلوكه.
أما اللقاء الأكبر مع البوذيين في ميانمار، فكان من خلال الاجتماع بمجلس «سانغان» الأعلى للرهبان البوذيين، الذي اعتبره البابا فرصة لتعزيز وتجديد وتمتين روابط الصداقة والاحترام بين البوذيين والكاثوليك.
مرة جديدة ودون مباشرة واضحة أو إشارة صريحة للمذابح التي تعرض لها مسلمو الروهينغا، أشار البابا إلى أن الإنسانية اختبرت على مدى العصور الظلم ومراحل من الصراعات وانعدام المساواة بين الأشخاص، مشيراً إلى الجراح التي ولّدها الفقر والاضطهاد والصراعات التي لا تزال قائمة على الرغم من الإنجازات التكنولوجية الكبيرة التي تحققت في مجتمعات اليوم.
في حين الأهم والأكثر حساسية وقرباً من الإشكالية الحقيقية في ميانمار، أنه اعتبر أن هذه القيم أساسية بالنسبة للنمو المتكامل للمجتمع بدءاً من العائلة وصولاً إلى الجماعات الوطنية والعرقية والعائلة البشرية برمتها.
تضميد الجراح
كانت ولا تزال وستظل كارثة الأصوليات حول العالم، أنها أبداً ودوماً تقف أمام فكر متحجر ومتكلس تؤمن من خلاله بمسار واحد، وعقلية وذهنية أحادية، لا تلوي عنها شيئاً.
لهذا السبب؛ كان حديث البابا للسلطات الحكومية والمجتمع المدني في القصر الرئاسي البورمي بـ«ناي بي تاو» في العمق والصميم، مؤكداً على أنه يود أن يعانق سكان ميانمار كافة، ويوجّه كلمة تشجيع إلى جميع الأشخاص الساعين إلى بناء نظام اجتماعي عادل ومتصالح، ولا يستثني أحداً. وإذ أشار البابا إلى أن ميانمار تنعم بطبيعة خلابة وبموارد مهمة، أكد أن الكنز الثمين الذي يتمتع به هذا البلد هو الشعب الذي عاني ولا يزال يعاني بسبب صراعات داخلية دامت لفترة طويلة، وولدت انقسامات عميقة.
لقاء بابا الفاتيكان بممثلي الحكومة كان مناسبة لدفع عملية بناء السلام والمصالحة الوطنية الصعبة قدماً، رأى البابا أن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال الالتزام لصالح العدالة واحترام حقوق الإنسان، مذكراً بأن الحكماء والأنبياء قد أثنوا على مبدأ العدالة أساساً لسلام حقيقي ومستدام.
لم ينس البابا في كلمته، التشديد على ما للطوائف الدينية من دور بالغ الأهمية في قيادة عملية المصالحة والاندماج الوطني في ميانمار؛ ولهذا شدد على أن الاختلافات الدينية لا يجب أن تكون مصدراً للانقسامات ولعدم الثقة، إنما دافع للوحدة والصفح والتسامح والبناء الحكيم للبلد، وكذلك باستطاعة الأديان أن تقوم بدور مهم في شفاء الجروح الوجدانية والروحية والنفسية، جروح أولئك الذين عانوا خلال سنوات الصراع. ويمكنها إذ تستقي من هذه القيم المتجذرة بعمق، أن تساعد على استئصال أسباب الصراع، وبناء جو للحوار، والبحث عن العدالة.
لقد راهن البابا على الشباب، على الأجيال الجديدة، التي رأى أن المستقبل لا يزال اليوم بين أياديهم، وقد وصفهم بأنهم عطية يجب أن نحبهم ونشجعهم، ورأى أنهم استثمار سوف ينتج مردوداً غنياً إن وضعوا أمام فرص عمل حقيقية وتربية جديدة، وهذا شرط ملح للعدالة بين الأجيال.
لقد أضحت ميانمار بؤرة سلطت عليها الأضواء، وأضحت كلمات البابا هناك عن التعددية والتنوع وقبول الآخر، مجالاً خصباً لمجابهة الأصوليات والراديكاليات الأحادية، وما تجره على البشرية من وبال وكوارث.


مقالات ذات صلة

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟