مشهدية الذات ولذة حضورها شعرياً

إبراهيم البجلاتي وديوانه «أنا في عزلته»

مشهدية الذات ولذة حضورها شعرياً
TT

مشهدية الذات ولذة حضورها شعرياً

مشهدية الذات ولذة حضورها شعرياً

علاقة مغوية بالذات والشعر والحياة يطرحها بمتعة أكثر إغواء الشاعر إبراهيم البجلاتي في ديوانه «أنا في عزلته» الصادر حديثا عن دار بدائل بالقاهرة. تحلق صور الأحلام والذكريات في نصوص الديوان وكأنها تحدث توا، خالقة متعة خاصة من التلذذ بروائحها وظلالها ومناخاتها حتى لو بدت قصية وشبحية كأحلام اليقظة محققة ما يمكن أن أسميه بـ«مشهدية الذات»؛ حجر الزاوية في هذا الديوان، ما يطرح سؤالا لافتا هنا: هل الشاعر صانع أحلام وذكريات، يسعى من خلالها إلى تحرير الذات من سطوة الزمن وتقلبات العناصر والأشياء؟
لكن، ما الذي يجعل الشاعر يتمنى أن يكتب الحزن بمحو ما يدل عليه لغويا، وينفق في ذلك نحو ثلاثين عاما من العزلة، أو الانقطاع عن الشعر؟! هل نحن إذن أمام وجود افتراضي للحزن ينعكس تلقائيا على الذات الشاعرة، وجود يتم رفضه والتمرد عليه، ولو تحت عباءة اللاوعي؛ لكنه مع ذلك يتجاوز ربكة التأمل وسلبيته، ويتحول إلى مقوم فني ساطع في النص، يمنح قارئه حالة من النشوة بالكتابة في منطقة شائكة، تستبطن نبرة التمني كحقيقة مؤلمة، وكما يقول النص:
«قبل ثلاثين عاما
حاولتُ أن أكتب شيئاً عن الحزن
دون ذكر الكلمة نفسها
وفشلت
لو نجحت في ذلك وقتها
لما احتجت إلى تنظيف رئتي
من الهواء الآن».
تبدو مساءلة الحزن وكأنها مساءلة للذات التي تشي بالتعدد والانقسام في الوقت نفسه، وضمنيا هي مساءلة للزمن، ويقف النص بإيقاعه الواخز المباغت، على حافة حكاية ما، لكنه لا يمعن في تفاصيلها، مكتفياً بأن يكون بمثابة مفتاح لأبواب متعددة لها، ستنكشف وتتكشف في النصوص تباعا، وفق جدلية «مشهدية الذات».
على ضوء ذلك... نعم الشاعر صانع أحلام وذكريات، فمن البديهي أن الحلم رافد جوهري في عملية الإيداع، لكن الذكريات لا تحضر هنا بوصفها استعادة له أو للحظات وأزمنة منقضية؛ إنما هي شكل من أشكال التواصل مع الذات ومحاولة الإمساك بعلائقها وفجواتها السرية في النص وخارجه أيضاً.
أيضاً، هل يضعنا ذلك إزاء وظيفة سيكولوجية أو تطهيرية للشعر؟ إن الديوان لا يقر بذلك على نحو بات، لكنه يوهمنا به أحيانا، خصوصا أننا أمام حالة مغوية من اللعب على سطح الأشياء وعمقها معاً، تبلغ ذروتها جمالياً وشعرياً بجعلهما يتبادلان الأدوار بحيوية فائقة في النص، وكأنهما صدى لانقسام الذات وتطوحاتها المثيرة للدهشة دائماً، وكأنها رنين لذبذبة داخلية متقدة في فضاء الجسد والروح.
بيد أن هذه الذبذبة، دائماً مسكونة بالقرب والبعد معاً، تقر بحقيقة الأشياء، لكن سرعان ما تنفيها أو تغادرها، تقف على الحافة، تتأمل لعبة السقوط، وكأنها شريط متقطع، لماض لا يزال له حضوره، وحاضر غير مطمئن سواء في مرآة نفسه، أو مرآة الماضي، يريد أن ينفلت من الاثنين معاً ولو بالقفز في المجهول.
بهذه المراوحة بين اليقين والظن، تتحول نثريات الحياة في أغلب نصوص الديوان إلى خلطة سحرية، تفجر طاقة الشعر، في الومضة، ودبة الصمت، في ألفة العادة ومصادفة السؤال، في الأبواب المفتوحة والمغلقة، الجامدة والهشة، خالقة اللغة والصور والكلمات، من منعطفات الذهن والروح معاً... نلمس هذا المشهد في أحد النصوص على هذا النحو حيث يقول الشاعر:
«أحب عصير البرتقال في الشرفة
ليس هذا أوان البرتقال
وليس لدي شرفة
لدي الكثير من الشاي والكسل
وأمل ضعيف أن تحبني امرأة كما أنا
أجيد الطهو
أجلو الصحون
وأمسح البلاط بالليل
ربما لأني لا أثق إلا في أصابعي
وأصابعي لا تثق إلا في المشرط
عين المشرط مبصرة
ويمكنها أن تقشر لي
تفاحة في الظلام.
في فضاء هذا المشهد، نحن إزاء وجهين من «مشهدية الذات»، الأول يتمثل في البحث عن الحقيقة الخالصة لنفسها، وأعني بها حقيقة الذات والشعر معاً، والثاني يتمثل في الحقيقة الواقعية، كما هي معاشة بالفعل، ومستجلبة من حياة الشاعر نفسه، الذي يعمل طبيباً جراحاً، لذلك يبدو المشرط كنقطة اتزان للحياة، كما يطالعنا في هذا النص، وفي نصوص أخرى. ومن ثم تبني الذات مشهديتها من خلال ثلاثة عناصر أراها أساسية وفاعلة في الديوان: المكان والرائحة والغريزة، يتشكل حضورها على خلفية استعارة بصرية لافتة، تستمد مداها الأوسع من تقنيات السينما، خاصة الإيهام بحركة الزمن وكسرها في النص، وبشكل أقل، يعلق فيها إيقاع المسرح حيث يقظة الدراما في فراغ الحوار وعقد الصراع وتشابكاته في فضاء النص والوجود.
في هذه الخلفية يحضر المكان بكل تداعياته على منحنى الطفولة، طفولة الذات والأشياء، وصورة العائلة والبيت ومفارقات الأصدقاء. ونلاحظ أنه لا سلطة هنا لمعرفة قارة ومحددة، لأنها لا تزال تحبو وتنضج على درج اللغة والحياة. بينما تبدو علاقة الرائحة عضوية بالغريزة كحاسة داخلية، تدل عليها وتقودها أحياناً، وتوحِّد ما بين إيقاعها العاطفي والشعري؛ في الإمساك باللون، وتدرجات الظل، ومفارقات النور والعتمة، وشطح الخيال بمسحته السريالية النزقة، كما تطل الرائحة من ثنايا غرفة العمليات، ورائحة البول وحصوات الكلى، واستثارة الأدريالنين... هنا تتوجه الذات إلى الأشياء في دفقها الحي الأول، وبوعي مباشر، يتم اختزال المسافة بين الأنا وموضوعها، فلا مسافة بين وجود الأشياء في النص ووجودها في الخارج... تصرح الذات الشاعرة بذلك في أحد النصوص قائلة:
«لا أحب الكلام عن البعد
ولا عن المسافة بين العين والقلب
ربما أفضل كلاماً غامضاً عن الغريزة
الغريزة التي تقود الأيائل
إلى عشب مجهول
أو تعود بالطيور إلى موطنها الأصلي
دون أن تخلع أحذيتها في المطار.
هذه اللحظة المحفوفة بالشيء ونقيضه، بالحب واللا حب، قد تشي بنثار من العزلة، لكنها تظل شعوراً عابراً، مجرد محطة، أو تكأة لبناء مشهدية الذات الأعمق والأوسع، المفتوحة بحيوية على براح المكان والزمان. هذه الشساعة، تعد برأيي، خصيصة فارقة وعلامة تميز لفعل الكينونة الشعرية نفسه، حتى ولو كان محض تصور نيئ في الخيال. فالذات تمتلك إمكانيات هائلة على التحقق، كما أن لديها قدرة الذهاب والإياب، الدخول والخروج في كل تفاصيل الحياة، وخلق الشعر من تعثراتها وشقوقها، تارة بضمير المتكلم الواضح، مؤكدة من خلاله حضورها بكل عوالمها ونثرياتها المتنوعة؛ وتارة بضمير الغائب، حيت تتقمص صوت الآخر، وتستدعيه في غلالة مشربة بروح سردية، فيتراءى كغبار لحكاية قديمة، أو حكمة، أو مفارقة إنسانية عابرة، تبدو وكأنها وجها من أوجه الذات، أو زمنها الهارب خلف قناع الآخر نفسه... لا تخلو نصوص الديوان من هذه اللطشة، ولو بشكل خاطف ومغوٍ، لكننا نجد تكثيفا لهذا الحضور في هذا النص، حيث يقول الشاعر:
«قبل ستة أعوام
ظهر بركان أزرق تحت مكتبه
تلك معجزة وحيلة
معجزة تسري مع الحروف أو الزمن
وحيلة تسلل بها الكبريت
إلى ساقه اليسرى
ليست مشلولة بعد
وما زال يمشي برشاقة إنسان آلي
عشر خطوات ويقف
مثل قطار قديم اعتاد الوقوف بين القرى
القطار لم يعد موجوداً الآن
لكن الوقوف الرومانسي هكذا
يستدعي الذكريات
ويستدعي معجزة أخرى
كأن تمر فتاة جميلة كما في قصص الحب
الفتيات في قصص الحب جميلات
وكل قصص الحب تنتهي بالفشل
ورغم ذلك يقف
ورغم ذلك ينتظر
أن تمر فتاة جميلة
كضربة برق
أو كصاعقة كهربائية تعيد الاتصال
مع الطبيعة
أو على الأقل تعيد شحن «العصب النسائي»
فيمشي عشرَ خطوات أخر.
وهكذا، تطالعنا في هذا الديوان لغة شعرية سلسلة، مفعمة بالاختزال والتكثيف، قادرة على أن تنسج نفسها بأناقة مخيلة، وقبل أن تفيض في إناء وعيها الخاص، تحرص على أن تفيض في وعي قارئها، بمحبة الشعر والحياة معاً.



طريقة بسيطة لإبعاد الأطفال عن الشاشات

المساحات الخضراء توفر للأطفال فرصة للعب والنشاط البدني بعيداً عن الشاشات (معاهد الصحة الوطنية الأميركية)
المساحات الخضراء توفر للأطفال فرصة للعب والنشاط البدني بعيداً عن الشاشات (معاهد الصحة الوطنية الأميركية)
TT

طريقة بسيطة لإبعاد الأطفال عن الشاشات

المساحات الخضراء توفر للأطفال فرصة للعب والنشاط البدني بعيداً عن الشاشات (معاهد الصحة الوطنية الأميركية)
المساحات الخضراء توفر للأطفال فرصة للعب والنشاط البدني بعيداً عن الشاشات (معاهد الصحة الوطنية الأميركية)

توصلت دراسة أميركية إلى أن توفر المساحات الخضراء في الأحياء طريقة بسيطة يمكن أن تسهم بشكل كبير في تقليل وقت الشاشة لدى الأطفال.

وأوضح الباحثون من جامعة ميتشغان أن البرامج الهادفة لإبعاد الأطفال عن الشاشات تكون أكثر فاعلية في الأحياء التي تحتوي على مساحات خضراء مثل الغابات، والحدائق العامة، والمناطق المفتوحة، ونشرت النتائج، الاثنين، في دورية (Health and Place).

وأصبحت زيادة وقت الشاشة لدى الأطفال مشكلة شائعة تؤثر سلباً على صحتهم البدنية والعقلية. ويقضي العديد من الأطفال ساعات طويلة يومياً في مشاهدة التلفاز أو استخدام الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية؛ ما يؤدي إلى تقليل نشاطهم البدني وزيادة فرص الإصابة بالسمنة. كما أن هذه العادة تؤثر على نوعية النوم، حيث يعاني الأطفال الذين يفرطون في استخدام الشاشات من صعوبة في النوم أو نوم غير مستقر.

وعلاوة على ذلك، تشير الدراسات إلى أن زيادة وقت الشاشة يمكن أن تؤدي إلى تأخر في النمو الاجتماعي والمعرفي للأطفال، بالإضافة إلى تأثيرات سلبية على الصحة النفسية مثل القلق والاكتئاب.

واعتمدت الدراسة على بيانات من «دراسة المجتمعات الصحية» في الولايات المتحدة التي تركز على سلوكيات الأطفال المتعلقة بالسمنة، حيث قام الباحثون بتحليل معلومات عن الأحياء المجتمعية للأطفال ودرسوا الوصول إلى المساحات الخضراء في تلك المناطق.

وتمت مقارنة فاعلية البرامج التي تهدف إلى تقليل وقت الشاشة بين الأحياء التي تحتوي على مساحات خضراء والأحياء التي تفتقر إليها. كما تم قياس تأثير هذه البرامج على سلوكيات الأطفال فيما يتعلق بوقت الشاشة والنشاط البدني.

وفقاً للدراسة، فإن نحو ثلثي الأطفال بين 6 و17 عاماً يتجاوزون الحد الموصى به أقل من ساعتين يومياً لوقت الشاشة. وتهدف بعض البرامج لتقليل وقت الشاشة من خلال توفير برامج تعليمية قائمة على المجتمع وتطوير المهارات للآباء، أو فرص النشاط البدني المجانية للأطفال.

الأطفال الذين يفرطون في استخدام الشاشات يعانون من صعوبة النوم (تصوير: عبد الفتاح فرج)

وحسب النتائج، يعد الوصول إلى هذه المساحات عاملاً مهماً في نجاح برامج تقليل وقت الشاشة، حيث توفر هذه الأماكن للأطفال فرصة للعب والنشاط البدني بعيداً عن الشاشات.

وقالت الباحثة الرئيسة للدراسة من جامعة ميتشغان، الدكتورة إيان مارشال لانغ، إن عدم توفر المساحات الخضراء قد يؤدي إلى بيئة غير مشجعة تقلل من فاعلية البرامج الهادفة للحد من وقت الشاشة.

وأضافت عبر موقع الجامعة أن هذه النتائج تبرز أهمية اتخاذ خطوات لمعالجة الفجوات في الوصول إلى المساحات الخضراء بين المناطق المختلفة، مع ضرورة العمل على توفير بيئات أكثر عدلاً وصحة للأطفال من خلال الاستثمار في المساحات الخضراء في جميع الأحياء.

وأشارت إلى أن تحسين البيئة المحيطة بالأطفال عبر توفير المساحات الخضراء يمكن أن يكون حلاً فعالاً لتقليل وقت الشاشة وتعزيز الأنشطة البدنية؛ ما يعود بالفائدة على صحة الأطفال.