أسواق القاهرة القديمة تصارع من أجل البقاء

بعضها يعود للنصف الأول من القرن الماضي

تحف وأنتيكات من زمن فات
تحف وأنتيكات من زمن فات
TT

أسواق القاهرة القديمة تصارع من أجل البقاء

تحف وأنتيكات من زمن فات
تحف وأنتيكات من زمن فات

القاهرة مدينة أثرية من طراز فريد لا شك. وتتجلى عظمة تاريخها في الكثير من أحيائها القديمة وشوارعها وآثارها وأسواقها التي ما زالت تحتفظ بأسرار لم تفصح عنها بعد. ولعل كل من زار أحياء وأسواق المدينة القديمة مثل الحسين وخان الخليلي والغورية وغيرها لمس هذه العظمة وعاشها بكل تفاصيلها وتنفس عبق التاريخ القديم بامتياز. وهذه المرة نتجول داخل حي الجمالية الشهير.. الحي الذي شهد ميلاد عظماء الفن والأدب وأخيرا السياسة، والذي يبدو أن حكاياته لا تنتهي وذاكرته لا تنضب.. فمثلما يحوي هذا الحي الكثير من التجار وبائعي المنتجات المختلفة، يحوي أيضا الكثير من أصحاب الحرف والأسواق التي يبيع تجارها سلعا قد تبدو للبعض «قديمة» ولن تجد من يشتريها، ولكن يبدو أن محبي اقتناء التحف والأنتيكات والسلع النادرة ما زالوا يبحثون عن ضالتهم حتى يومنا هذا ضاربين بكل التكهنات السلبية عرض الحائط ومعلنين عن ميلاد سوق جديدة سيستحوذ على حركة البيع والشراء بقوة خلال الأيام المقبلة.
«تحف وأنتيكات من زمن فات».. هكذا كتب على اللافتة التي علقها صاحب أحد دكاكين التحف على الواجهة. ويبدو أن كل ما يتعلق بالدكان الصغير نوعا ما، هو من زمن فات، بدءا من السلع والأنتيكات التي عرضت داخل المحل وانتهاء بالأغاني القديمة التي كانت تنبعث من مكان ما.
وبينما يسود الهدوء المكان إلا من وقع أقدام المارة والأغاني القديمة التي يصعب تحديد منشدها، جلس ميلاد محب البالغ من العمر، 55 عاما، على مقعده الخشبي القديم ممسكا بنرجيلته التي كان يدخنها في استمتاع، قبل أن يبدأ كلامه قائلا: «هذه السوق التي تبدو أمامك، يعود عمرها إلى أكثر من قرن من الزمان.. بل يمكنك عده أحد الشواهد الحقيقية على التاريخ القديم والحديث مثلما يعده الكثير من الزوار والسياح العرب والأجانب متحفا مفتوحا يضم سلعا ومنتجات تحتفظ بخبايا الزمن، فهنا ستجد كل ما يتعلق بأيام الزمن الجميل، بكل رموزه وحقبه المختلفة».
وفي جانب المحل يوجد مشغل الأسطوانات الذي كان يستخدمه عميد المسرح الراحل يوسف وهبي، كما توجد إحدى الأسطوانات القديمة التي كانت تشغل على جهاز الراديو القديم لكوكب الشرق أم كلثوم.. هذا بالإضافة إلى الكثير من التحف النادرة الأخرى والعملات وأجهزة الهواتف القديمة.
وكأنك رجعت بآلة الزمن مائة عام إلى الوراء.. كانت المعروضات تشبه إلى حد كبير المكان. نحن في مكان أثري بامتياز.. كل ما يوجد حولك شاهد علي التاريخ إن كان مسجدا أو متحفا أو منزلا أو حتى متجرا.. وزاد الإحساس بشكل لافت المعروضات التي اصطفت داخل الدكان. يقول ميلاد: «السياح العرب والأجانب يقدرون قيمة هذه التحف والأنتيكات أكثر بكثير من أصحابها أنفسهم.. ويقبلون على شراء أقدم الأنتيكات التي تنتمي لحقب مختلفة مثل المشغولات النحاسية التي يعود بعضها إلى حقبة الدولة العباسية والعثمانية والبابلية وغيرها بالإضافة إلى أجهزة المذياع القديمة والتليفونات التي يعود بعضها إلى خمسينات القرن الماضي».
يضيف ميلاد: «أسعار التحف تختلف حسب طبيعة التحفة وصاحبها ومدى قدمها، فكلما كانت التحفة أقدم زاد سعرها، والعكس صحيح. أيضا لو كانت تنتمي إلى بيوت أحد المشاهير أو الرموز الفنية أو السياسية القديمة يكون سعرها أعلى، ولكن في المجمل تبدأ أسعار التحف من 500 جنيه (نحو مائة دولار) وتنتهي إلى خمسة وستة آلاف جنيه، والإقبال الأكثر يكون من قبل السياح الأجانب الذين كثيرا ما يطلبون التحف القديمة جدا والأنتيكات أيا كان نوعها».
وعانت السوق المصرية للتحف والأنتيكات من ركود شديد في حركة البيع والشراء، استمر قرابة ثلاث سنوات بسبب الأوضاع الأمنية والاقتصادية وتراجع السياحة بشكل كبير، بجانب غزو المنتجات الصينية المقلدة للسوق بشكل ملحوظ، مما دفع معظم أصحاب المهنة إلى تغيير نشاطهم نهائيا، أو الاضطرار لبيع المنتجات بنصف ثمنها الأصلي، وهو ما هدد السوق التاريخية وتجارها.. يؤكد ميلاد قائلا: «بالطبع عانينا خلال الثلاثة أعوام الماضية بسبب ضعف الإقبال وقلة أعداد السياح، ولكن سوق الأنتيكات وتجارها لا يستطيعون تغيير نشاطهم مثل باقي تجار الحي الذين لجأ البعض منهم إلى تغيير نشاطه بالفعل، وذلك لأننا نبيع سلعا ومنتجات لا يمكن بيعها لأي تاجر آخر أيا كان السعر، حيث نقوم نحن التجار بشرائها من خلال مزادات تعقد من العام للعام، ونعتمد اعتمادا أساسيا في بيعها على السياح العرب والأجانب وبعض المصريين المولعين باقتناء التحف القديمة، وأحيانا بعض منتجي أفلام السينما الذين يحتاجونها من وقت لآخر».
ومثله مثل جميع التجار الذين يأملون في استمرار حالة الاستقرار الأمني التي سادت البلاد أخيرا وأدت إلى انتعاش حركة البيع والشراء بشكل ملحوظ قال ميلاد: «يا رب البلد تعود إلى أمنها وسابق عهدها، ونتمنى أن يستمر انتعاش قطاع السياحة الذي بدأ في التعافي خلال الأشهر القليلة الماضية».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».