ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

رحب بتدخل {الناتو} والغرب فيها... ورفضه في تحرير الكويت

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
TT

ميكافيلية بن لادن والتنسيق مع إيران وقطر في ليبيا

بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل
بن لادن زعيم {القاعدة} الراحل

لم يرَ زعيم «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن في الانتفاضات العربية سنة 2011 ربيعاً ديمقراطياً شبابياً ولد روحاً في «فيسبوك» و«تويتر»، ولكن رآه فرصة سانحة وانفراجة كبيرة للمتطرفين خصوصاً، والإسلاميين عامة، ظهروا فيها ابتداء - من ليبيا - وتأخر قليلاً شأن مصر وتونس وسوريا واليمن.

بعث الزلزال الكبير للانتفاضات عام 2011 وتوالي سقوط الأنظمة، الأمل كبيراً لدى زعيم «القاعدة» الراحل، حتى طار به الرجل حلماً وخيالاً في أحاديثه لأسرته، كما تكشف يومياته المنشورة بخطه مؤخراً في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فتسأله ابنته ويجيب عما بعد إقامة الدولة الإسلامية الموحدة بقيادته؟ وماذا سيفعل مع العالم الغربي إن استسلم وطلب الصلح؟ وهل سيقبل منهم هذا الاستسلام!!
في يومياته يجزم بن لادن أن زلزال الانتفاضات لن يقف عند مراكزه التي اندلع فيها، في تونس 27 ديسمبر (كانون الأول)، ثم مصر في 25 يناير (كانون الثاني)، ثم اليمن في 11 فبراير (شباط)، ثم ليبيا في 15 فبراير، ثم سوريا في 18 مارس (آذار)، بل ستتمدد تصدعاته لتشمل المنطقة كلها وسقوط أنظمتها جميعاً، وأن عليه وعلى «القاعدة» وفروعها، وخصوصاً «المقاتلة الليبية»، في هذه الحالة التحالف والتنسيق مع من يريدون سقوط هذه الأنظمة معها، وفي مقدمتها إيران وقطر، هكذا فسرت لنا اليوميات الأخيرة الرابط بين بن لادن و«القاعدة» من جهة، وبين إيران وقطر والإسلاميين الجهاديين والثورات العربية من جهة أخرى، في براغماتية ترى الخلافات العقدية والمذهبية والآيدولوجية بين «السلفية الجهادية» غير جوهرية ولا ضرورية، كما ذكر في موضع آخر.
انتفاضة ليبيا الفرصة الأكبر لابن لادن
كان بن لادن يتابع أخبار الثورة ضد القذافي بشغف كبير، ورأى فيها فرصة كبيرة له ولتنظيمه بالخصوص. وفي أولى صفحات يومياته كان الحديث عن ليبيا، حيث يكتب بن لادن: «الأمور متواصلة في ليبيا لكن يظهر أن القذافي يصله مدد، لأنه يقوم بعمليات لاستعادة الزاوية، واليوم ثمة هجوم على مصراتة، وأسقط المسلحون طائرتين، فوقع الطيارون أسرى»، وبعد قليل من الصفحات يقول: «بالنسبة إلى ليبيا، الرأي العام الدولي يزداد ضغطاً على القذافي باستثناء روسيا التي ترفض فرض أي ضغوط».
تفهم بن لادن جيداً الفرصة الممكنة في ليبيا، كونها الثورة الوحيدة التي قادها المتشددون، ووجدت فيها «القاعدة»، ممثلة في عناصر «الجماعة المقاتلة»، ورأى في تكرار القذافي فزاعة «القاعدة» والمتطرفين حقيقة اغتبط بها، وأن «القاعدة» حقيقة ترعب العالم حتى الصين، كما نقل عن المدعو لويس عطية، مما يؤكد الأمل الذي كان يحدوه أن تكون الانفراجة التي ساقها الله وبشرت بها المنامات له سابقاً.
فهم بن لادن أن القذافي خصم أسهل، خصوصاً أنه لا يمتلك ورقة الطائفية كبشار الأسد، أو ورقة القبائل والولاءات مثل على عبد الله صالح، وأنه لا يوجد جيش، بل كتائب من المرتزقة وغير الليبيين، فلا توجد دولة أو نظام بالمعنى الحقيقي مما يبشر بسهولة الإسقاط، وخصوصاً بعد تصاعد الضغط والرفض، ثم التدخل الدولي ضد وحشيته.
من التناقض أن بن لادن كان سعيداً باستهداف «الناتو» والغرب لنظام معمر القذافي، وهو ما لم يرفضه في يومياته - على غير العادة المعروفة عنه - في «رفض الاستعانة على مُتجبر بكافر» كما كان يكرر، وهو ما نراه على العكس تماماً مما كان منه في حرب تحرير الكويت سنة 1990 أو غيرها، مما ينم عن براغماتية وذرائعية مستترة في خطاب زعيم «القاعدة»، كان يخفيها دائماً، لم تكشفها إلا يومياته وأحاديثه الأسرية.
كانت رؤيته صحيحة بخصوص فرص المتطرفين في ثورة ليبيا بالخصوص، فمنذ البداية كان واضحاً دور عناصر «الجماعة المقاتلة»، رغم توقيعها المصالحة، وتسطيرها المراجعات مع سيف الإسلام القذافي بوساطة على الصلابي، وتقديمها اعتذارها للنظام والشعب الليبي عام 2009. وبدأت حلقات التحول مع اعتقال فتحي تربل محامي مذبحة أبو سليم (التي راح ضحيتها 1200 قتيل) في 15 فبراير التي كان عناصر «المقاتلة» وغيرهم من المتشددين ضحاياها، وانفجرت في الشرق الليبي سريعاً تحمل السلاح مما اغتنمته من كتائب القذافي ومخازنه.
كان بن لادن واعياً بكل ذلك، ففي دفتر يومياته المنشور مؤخراً ضمن الوثائق، يلح على دور أكبر في ليبيا، وعلى التنسيق مع كل من يؤثر في الحراك الليبي، من الداعية القطري يوسف القرضاوي، إلى دور قناة «الجزيرة» التي رآها كما ذكر «حاملة لواء الثورات» من تونس إلى مصر إلى غيرها، مطالباً بالتنسيق معها وصياغة خطاب لا يزعج الناس يبث خلالها، فقد كان موقف «القاعدة» على ما يبدو، وموقف سائر التنظيمات المتشددة، هو عدم التعكير على صفو الثورات ووعودها المدنية والديمقراطية والشعبية، عبر المزيد من الصبر ثم القفز بعد ذلك عليها، أو ما يمكن أن نصفه باستراتيجية اندماج ثم «قفز وسرقة لهذه الثورات» بعيداً عن كثير من قواها الفاعلة فيها، وبعيداً عن وعودها المعلنة، ولكن «داعش» التي ظهرت بعد مقتله بسنتين كانت أكثر حسماً ووضوحاً، وإن التقوا في النهاية في الغايات نفسها.
من المدهوني عروة إلى أبو أنس الليبي
يقول بن لادن في يومياته ما نصه أن الانتفاضة «قد فتحت الباب أمام الجهاديين»، وهو يتفهم تخوفات القذافي وما كان يقوله عن فزاعة الإرهاب القادم، التي كان يوجهها وأسرته للغرب فيقول: «هذا هو السبب في أن القذافي وولده يقولان إن المتطرفين سوف يأتون من طريق البحر، الذي سوف يكون منطقة عمليات لتنظيم القاعدة، سوف تتحول ليبيا إلى صومال البحر الأبيض المتوسط».
وكما سبق أن ذكرنا، كان وجود المتطرفين وعناصر «القاعدة» و«المقاتلة» في الثورة ضد القذافي منذ البداية، وهو ما أكدته وثائق بن لادن الأخيرة والعديد من الوثائق السابقة أيضاً، منها ما تم العثور عليه في بيت أسامة بن لادن بعد اجتياحه في مايو (أيار) 2011، وخصوصاً ما كان من رسائل بينه وبين القيادي الليبي المقرب إليه عطية الله الليبي (واسمه الكودي في الوثائق كلها محمود) وبين أسامة بن لادن، حول تطورات الأحداث في ليبيا التي تابعها بشغف، واحتلت الجزء الأكبر من مذكراته وأحاديثه الأسرية، ومنها رسالة مؤرخة بتاريخ 5 جمادى الأولى 1432 هجرية الموافق لـ9 أبريل (نيسان) 2011، ورد من أسامة بن لادن في 22 جمادى الأولى 1432 الموافق لـ26 أبريل 2011 قبل وفاة كليهما بقليل، حيث يأتي فيها تأكيد على دور عبد المنعم مختار المدهوني (ولد سنة 1971 وقتل في مارس سنة 2011) ويكنى بأبي مالك، وعروة الليبي الذي أسس «كتيبة عمر المختار» في بنغازي في فبراير 2011، بعد أن تيسر له السفرُ من إيران إلى ليبيا قبل الثورة بشهر واحد مشاركاً فيها، وتواصل مع بعض عناصر «الجماعة المقاتلة» ليقوم بمهامه هناك، ويتواصل مع عطية الله الليبي نفسه الذي قال عنه في بداية الأحداث: «ونتوقع أن يكون له دور في ليبيا»، وأنه على اتصال وثيق بالقيادي الكبير في تنظيم القاعدة أبو أنس الليبي واسمه الحقيقي نزيه الرقيعي.
تتجلى أهمية ليبيا في رسالة عطية الله الليبي إلى بن لادن التي يقول له فيها عن فرصة «القاعدة» الكبيرة فيها: «بالنسبة لليبيا على وجه الخصوص، فآخر ما جاءنا من الإخوة في ليبيا أنهم بدأوا يرتبون أمورهم، وأن لهم نشاطاً ودوراً هناك والحمد لله. إخوة (الجماعة المقاتلة) الخارجون من السجن وغيرهم وفي الشرق الليبي (بنغازي ودرنة والبيضاء وما قاربها). هناك صحوة إسلامية (جهادية) من زمان ينتظرون مثل هذه الفرصة، ونظن أنه عن قريب سيبدأ يظهر نشاط الإخوة وأسماؤهم وتسجيلاتهم».
بن لادن مع إيران وقطر والقرضاوي
يبدو بن لادن في وثائقه الجديدة براغماتياً، متجاوزاً لقيوده الآيدولوجية التي فرضها على الآخرين، في الولاء والبراء، وفي رفض أي تعاون أو تنسيق مع من يميعون الحقائق الإسلامية، مثل «الإخوان» والقرضاوي كما ذكر أيضاً في يومياته، لكنه يتنازل عن كل ذلك بغية الوصول لأهداف جماعته عبر إسقاط الأنظمة التي يعاديها من الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي إلى الولايات المتحدة والغرب، ولذا كان ترحيبه وتحالفه وتعاونه ودعوته للتنسيق مع أطراف عديدة من «الإخوان» للقرضاوي إلى قطر وقناتها الفضائية إلى إيران ملاذ جماعته الآمن، وممر مقاتليها المستمر لمختلف البلاد والصراعات.
حضرت هذه الدوافع لديه، واتضحت في الحالة الليبية الأكثر أهمية لديه كما وضحنا، فعبر إيران كان دخول كل من نزيه الرقيعي المعروف بأبي أنس الليبي ونزيه الرقيعي المعروف بأبي مالك الليبي إلى ليبيا، وكان تواصل مساعده عطية الله معهما وهما على الأراضي الإيرانية، وهو ما يؤكد تاريخ العلاقة الممتدة قبل عقود من التحالف المشبوه بين «القاعدة» وإيران.
وعبر قطر وقناة «الجزيرة» وصوت رجل الدين يوسف القرضاوي التي تستهدف ما يستهدفه من إسقاط الأنظمة، ورأت في الانتفاضات أو الثورات العربية فرصاً للإسلاميين، وربيعاً إسلاموياً وليس ديمقراطياً كما كانت تراه القوى الشبابية والمدنية الأخرى، يحرص بن لادن في يومياته والوثائق المنشورة مؤخراً على التنسيق، وعلى توظيف هذه الأدوار الذي يدرك بدرجة كبيرة تماهيها وتطابقها مع ما يريد من أهداف، وإن اختلفت الأساليب والتوجهات.
وإلا فماذا أدل على ثقة نظام بن لادن في إمارة قطر من استئمانها على ابنه حمزة، وأنه يراها المكان الأنسب له؟ وهو يعده خليفة له ويراه أمله الذي يراهن عليه في المستقبل، كما ذكر في يومياته.
وماذا أدل على ثقة بن لادن في دور قناة «الجزيرة» التحريضي والمفيد لإسقاط الأنظمة من إقراره بأنها لو دخلت مع «القاعدة» في خلاف، فلن يكون في صالح «القاعدة»، رغم أنه في مواضع كثيرة من نفس اليوميات يؤكد أن «القاعدة» تشكل هاجساً وخطراً على العالم أجمع، ويهتف الجميع من الولايات المتحدة إلى القذافي إلى الصين بالخوف منها! رغم أننا نرى ما قاله زعيم «القاعدة» عن دور قناة «الجزيرة» ليس خوفاً أو خلافاً محتملاً بين الطرفين، ولكنه حث وتوجيه لزملائه على التوظيف المتبادل بينهما، والتقاء أهدافهما، في تغيير وإسقاط الأنظمة.
ولا شك أن زعيم «القاعدة» الراحل كان يعرف الدور القطري الكبير المعادي للعقيد الليبي السابق، بناء على خلافات شخصية بين الطرفين، ورغبة قطر في إسقاطه واستمرار زلزال الانتفاضات العربية وصولاً للخليج بدءاً من البحرين المجاورة، التي لا يرى بن لادن في براغماتية غريبة أيضاً حرجاً من دخول إيران على خطها، أو تغيير مذهبها حال نجاحها، كما يذكر في يومياته.
إن يوميات ومذكراته بن لادن الخاصة التي تبلغ 228 صفحة، المنشورة في الأول من نوفمبر الحالي، تكشف عن جانب خطير من شخصية زعيم «القاعدة» ومؤسسها وهو براغماتيته ومكيافيلية تتجاوز ما كان يربي عليه عناصر شبكته من الولاء والبراء والتكفير للمخالف وغيره من الخطاب النظري والعدائي ضد «الإخوان» وضد قطر أو ضد النظام الإيراني والولي الفقيه عبر بعض أتباعه شأن «كتائب عبد الله عزام» والحكايمة والزرقاوي وغيرهم من منظري «السلفية الجهادية» وقادة فروعها، فهو أمر كان للعموم، أما الخصوص فهو البحث عن إمكانية التنسيق والتعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.
من هنا كان التقدير الشديد من قبل زعيم «القاعدة» الراحل لإمارة قطر وحكومتها ودورها، ولقناة «الجزيرة» الفضائية التابعة لها، وكذلك للنظام الإيراني وجماعة «الإخوان»، والتحريض الديني والشعبي في الثورات، طالما كل هذا يفيد ويستفيد منه في الآن نفسه حرباً على العدو القريب من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، أو حرباً على الولايات المتحدة والغرب.



مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».