الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»

TT

الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»

لقد استغرق الأمر 5 سنوات لتشييده، وتكلف أكثر من 10 ملايين دولار، واستُخدمت فيه كميات هائلة من الذهب والفضة والأبنوس، وشارك فيه أكثر من 600 من أفضل العمال والحرفيين في البلاد. ثم قطع رحلة طولها ألفي كيلومتر إلى وجهته النهائية، حيث توقف في العديد من القرى والبلدات على الطريق لأجل أن ينعم الناس بإلقاء نظرة عليه. وفي كل مكان كانت ترافقه كوكبة من رجال الدين، والدعاة، ورجال الأمن المدججين بالسلاح.
وتشير لفظة «هذا» التي تكررت، إلى الإطار الذي يحيط بقبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي يقع ضريحه في مدينة سلمان - باك أو سلمان المطهر، أو ما كانت تُعرف قديماً بالمدائن، وهي إلى الجنوب من العاصمة العراقية بغداد. ولقد عانى هذا الضريح من عقود من الإهمال، وسقط الغلاف الخارجي المزيِّن للقبة، كما أن هيكل البناء الأساسي ناله الضعف من مختلف العوامل والأسباب.
وثارت فكرة تجديد الضريح أول الأمر من قبل مجموعة من المحبين في مدينة أصفهان الإيرانية، حيث يقال إن سلمان الفارسي كان قد قضى فيها جزءاً من طفولته في القرن السابع الميلادي.
وبدأ التمويل عن طريق خطة للتمويل الجماعي وفرت الأموال الأساسية اللازمة للمشروع الذي بلغ مراحله الأخيرة، كما تلقى أيضاً التمويل الحكومي في سياق الاتجاه المتصاعد لإبراز الصلات الإيرانية بالمراحل الأولى من نشوء الإسلام.
كان سلمان الفارسي أحد الأوائل ممن اعتنقوا الإسلام من غير العرب وأحد أبرز صحابة النبي محمد في المدينة المنورة. وكان معروفاً بورعه وتقواه، وفي نفس الوقت براعته المشهورة في أمور الحرب والسياسة، الأمر الذي مكّنه من تقديم خدمات جليلة للإسلام في مراحله المبكرة.
وينتمي الصحابي سلمان إلى عائلة زرادشتية بارزة في مدينة كازرون بجنوب إيران. وبدأ سلمان، وكان اسمه الفارسي هو «روزبه»، حياته المهنية ضابطاً في الجيش الساساني، ولكنه سرعان ما قرر التخلي عن حياته تلك والرحيل مسافراً «بحثاً عن الحقيقة». ولقد أخذته رحلاته إلى مدينة «قطيسفون» العراقية القديمة، والتي كانت وقتذاك عاصمة الإمبراطورية الساسانية في بلاد ما بين النهرين، ثم إلى سوريا، والتي كانت في ذلك الوقت إحدى المقاطعات التابعة للإمبراطورية البيزنطية.
والتقى هناك النُّساك والزُّهاد المسيحيين، وتأثر كثيراً بفكرة الأنبياء المرسلين من عند الله لإرشاد وهداية الناس. ثم ارتحل مرة أخرى جنوباً صوب شبه جزيرة العرب حيث شرع نبيّ الإسلام في الدعوة إلى الدين الجديد. وبقية القصة، كما يقول المثل، من التاريخ المعروف للجميع.
في الشهر الماضي، أثارت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية فكرة تسمية السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بـ«يوم سلمان الفارسي»، كوسيلة لمواجهة يوم قورش العظيم الذي أعلن عنه القوميون الإيرانيون في الآونة الأخيرة. ورغم ذلك، ذهبت وكالة «إيرنا» الإخبارية الرسمية في إيران إلى ما هو أبعد من ذلك واقترحت أن تعلن الحكومة عن اعتماد يوم قورش العظيم.
وبدأت وكالات السفر والرحلات الإيرانية، المتخصصة في الحج إلى المدن المقدسة في العراق، في تنظيم رحلة لزيارة ضريح الصحابي سلمان الفارسي في جزء من حركة «الإسلام الإيراني» والتي كانت تكتسب المزيد من الزخم في السنوات القليلة الماضية.
وكثيراً ما تأرجح التاريخ الإيراني خلال القرون الـ15 الماضية بين ما هو ديني وما هو قومي. ولقد ترافق ارتفاع أحدهما بتراجع وانحسار الآخر، والعكس بالعكس.
يقول مهرانغيز بيات، الباحث الإيراني من طهران: «يرجع السبب جزئياً إلى حالة الاستياء الظاهرة، للدور الذي يلعبه رجال المذهب الشيعي في سياسات البلاد، وتشهد إيران في الوقت الراهن اتجاهاً متزايداً مناوئاً للدين».
ويؤيد هذا التحليل بعض رجال الدين البارزين. على سبيل المثال، فإن آية الله العظمى شوبير زانجاني، وهو أحد أكبر رجال المذهب الشيعي في مدينة قُم المقدسة، قد حذر الأسبوع الماضي من أن الانغماس في السياسة قد أسهم بشكل كبير في تراجع سلطة وشعبية رجال المذهب الشيعي داخل إيران.
أما القوميون المتشددون، بمن فيهم القوميون الإيرانيون الذين يحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية بصورة أو بأخرى، فقد استغلوا حالة الاستياء العامة تجاه رجال الدين الحاكمين للبلاد واتخذوا منها منصة يهاجمون من خلالها الإسلام ويصفونه بأنه «دين عربي أجنبي أو غريب فُرض على الإيرانيين الآريين بحد السيف».
وهم يتجاهلون حقيقة مفادها أن السواد الأعظم ممن اعتنقوا الإسلام من الشعب الإيراني قد تحولوا إلى الدين الجديد بعد فترة طويلة للغاية من انتهاء الاحتلال العربي القديم، والذي استمر قرابة 8 عقود، لأجزاء من إيران.
وأُطلق مفهوم «الإسلام الإيراني» أو «الإسلام الآري» فقط لمواجهة مزاعم «الإسلام الأجنبي».
وكان الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، ولا يزال، من أشد أنصار هذا المفهوم. وخلال ولايته لرئاسة البلاد كان قد اقترض «أسطوانة قورش»، وهي من القطع الأثرية القديمة التي كتب عليها الإمبراطور قورش الكبير مؤسس الإمبراطورية الأخمينية أول إعلان لحقوق الإنسان في التاريخ، من المتحف البريطاني ووضعها للعرض على الجمهور في طهران. وجذب المعرض، الذي كان تحت حراسة فرقة من الجنود يرتدون الزي العسكري الأخميني القديم، أكثر من 5 ملايين زائر.
وبرر محمود أحمدي نجاد خطوته تلك، والتي تسببت في إغضاب بعض الملالي في البلاد، على أساس أن قورش الكبير من المفترض أنه جاء ذكره في القرآن الكريم تحت مسمى «ذي القرنين». (ويعتقد بعض العلماء أن هذا المسمى يشير إلى شخصية الإسكندر الأكبر لا إلى قورش الكبير).
ووفقاً للتقارير التي يتعذر التحقق من صحتها بصورة مستقلة، كان العقل المدبر وراء فكرة «الإسلام الآري» هو رجل دين شيعي غامض يحمل اسم حسن يعقوبي، وهو من المفترض أن يكون قد ألّف أكثر من 40 كتاباً، على الرغم من أنه لم يره أو يسمع به من أحد.
وحاول بعض رجال الدين الآخرين الترويج لفكرة «الإسلام الآري» من خلال الزعم بأن الحسين بن علي، نجل الصحابي علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء كريمة النبي محمد، كان قد تزوج من بيبي شهر - بانو كريمة الملك الساساني الأخير يزدجرد، وبالتالي تسبب في امتزاج الإسلام مع إيران.
يقول آية الله صبحاني: «يحمل كل أحفاد الحسين الدماء الإيرانية في عروقهم. وهذا يعني أن هناك صلة إنسانية قائمة وغير قابلة للانفصام بين الإسلام وإيران».
أما القوميون الإيرانيون، رغم ذلك، يرفضون هذه الفكرة تماماً ويزعمون أن بيبي شهر - بانو، والتي يجتذب ضريحها بالقرب من طهران ملايين الحجاج في كل عام، كانت أسيرة ولم تعتنق دين الإسلام قط.
ويزعم رجل دين آخر يُدعى آية الله حسيني قزويني أن الروابط الإيرانية الإسلامية قد تعززت على يد الإمام الثاني عشر، والمعروف باسم الإمام المختفي المهدي المنتظر، والذي خرج من غيابه الطويل في سرية وتزوج فتاة من طهران وبالتالي ضمن استمرار «السلالة المقدسة لأبناء علي» مع جيل بعد جيل من الأحفاد الذين «يحملون الدماء الإيرانية النقية في عروقهم».
ومع ذلك، فإن الصراع الإيراني التقليدي بين القومية والدين يبدو أنه سوف يزداد حدة في قابل الأيام. ووفقاً للمصادر الحكومية المطلعة، فإن المزيد والمزيد من الشعب الإيراني يطلقون الأسماء غير الإسلامية على أطفالهم المولودين حديثاً. ولقد أدى ذلك بوزارة الداخلية، ممثلةً في مكتب السجل المدني المركزي، إلى الإعلان عن قرار يوم الخميس الماضي بتشديد القواعد المنظمة لإطلاق الأسماء غير الإسلامية على المواليد الجدد في البلاد.
وقال الناطق الرسمي باسم السجل المدني المركزي في طهران، سيف الله أبو ترابي، في مؤتمر صحافي، إن وزارة الداخلية سوف تساعد أيضاً أولئك الذين يرغبون في استبدال أسمائهم الشخصية غير الإسلامية، وتيسير القيام بذلك بالحد الأدنى الممكن من الروتين البيروقراطي المزعج.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».