الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»

TT

الإيرانيون يناقشون مسألة «الإسلام الآري»

لقد استغرق الأمر 5 سنوات لتشييده، وتكلف أكثر من 10 ملايين دولار، واستُخدمت فيه كميات هائلة من الذهب والفضة والأبنوس، وشارك فيه أكثر من 600 من أفضل العمال والحرفيين في البلاد. ثم قطع رحلة طولها ألفي كيلومتر إلى وجهته النهائية، حيث توقف في العديد من القرى والبلدات على الطريق لأجل أن ينعم الناس بإلقاء نظرة عليه. وفي كل مكان كانت ترافقه كوكبة من رجال الدين، والدعاة، ورجال الأمن المدججين بالسلاح.
وتشير لفظة «هذا» التي تكررت، إلى الإطار الذي يحيط بقبر الصحابي الجليل سلمان الفارسي الذي يقع ضريحه في مدينة سلمان - باك أو سلمان المطهر، أو ما كانت تُعرف قديماً بالمدائن، وهي إلى الجنوب من العاصمة العراقية بغداد. ولقد عانى هذا الضريح من عقود من الإهمال، وسقط الغلاف الخارجي المزيِّن للقبة، كما أن هيكل البناء الأساسي ناله الضعف من مختلف العوامل والأسباب.
وثارت فكرة تجديد الضريح أول الأمر من قبل مجموعة من المحبين في مدينة أصفهان الإيرانية، حيث يقال إن سلمان الفارسي كان قد قضى فيها جزءاً من طفولته في القرن السابع الميلادي.
وبدأ التمويل عن طريق خطة للتمويل الجماعي وفرت الأموال الأساسية اللازمة للمشروع الذي بلغ مراحله الأخيرة، كما تلقى أيضاً التمويل الحكومي في سياق الاتجاه المتصاعد لإبراز الصلات الإيرانية بالمراحل الأولى من نشوء الإسلام.
كان سلمان الفارسي أحد الأوائل ممن اعتنقوا الإسلام من غير العرب وأحد أبرز صحابة النبي محمد في المدينة المنورة. وكان معروفاً بورعه وتقواه، وفي نفس الوقت براعته المشهورة في أمور الحرب والسياسة، الأمر الذي مكّنه من تقديم خدمات جليلة للإسلام في مراحله المبكرة.
وينتمي الصحابي سلمان إلى عائلة زرادشتية بارزة في مدينة كازرون بجنوب إيران. وبدأ سلمان، وكان اسمه الفارسي هو «روزبه»، حياته المهنية ضابطاً في الجيش الساساني، ولكنه سرعان ما قرر التخلي عن حياته تلك والرحيل مسافراً «بحثاً عن الحقيقة». ولقد أخذته رحلاته إلى مدينة «قطيسفون» العراقية القديمة، والتي كانت وقتذاك عاصمة الإمبراطورية الساسانية في بلاد ما بين النهرين، ثم إلى سوريا، والتي كانت في ذلك الوقت إحدى المقاطعات التابعة للإمبراطورية البيزنطية.
والتقى هناك النُّساك والزُّهاد المسيحيين، وتأثر كثيراً بفكرة الأنبياء المرسلين من عند الله لإرشاد وهداية الناس. ثم ارتحل مرة أخرى جنوباً صوب شبه جزيرة العرب حيث شرع نبيّ الإسلام في الدعوة إلى الدين الجديد. وبقية القصة، كما يقول المثل، من التاريخ المعروف للجميع.
في الشهر الماضي، أثارت وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية فكرة تسمية السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) بـ«يوم سلمان الفارسي»، كوسيلة لمواجهة يوم قورش العظيم الذي أعلن عنه القوميون الإيرانيون في الآونة الأخيرة. ورغم ذلك، ذهبت وكالة «إيرنا» الإخبارية الرسمية في إيران إلى ما هو أبعد من ذلك واقترحت أن تعلن الحكومة عن اعتماد يوم قورش العظيم.
وبدأت وكالات السفر والرحلات الإيرانية، المتخصصة في الحج إلى المدن المقدسة في العراق، في تنظيم رحلة لزيارة ضريح الصحابي سلمان الفارسي في جزء من حركة «الإسلام الإيراني» والتي كانت تكتسب المزيد من الزخم في السنوات القليلة الماضية.
وكثيراً ما تأرجح التاريخ الإيراني خلال القرون الـ15 الماضية بين ما هو ديني وما هو قومي. ولقد ترافق ارتفاع أحدهما بتراجع وانحسار الآخر، والعكس بالعكس.
يقول مهرانغيز بيات، الباحث الإيراني من طهران: «يرجع السبب جزئياً إلى حالة الاستياء الظاهرة، للدور الذي يلعبه رجال المذهب الشيعي في سياسات البلاد، وتشهد إيران في الوقت الراهن اتجاهاً متزايداً مناوئاً للدين».
ويؤيد هذا التحليل بعض رجال الدين البارزين. على سبيل المثال، فإن آية الله العظمى شوبير زانجاني، وهو أحد أكبر رجال المذهب الشيعي في مدينة قُم المقدسة، قد حذر الأسبوع الماضي من أن الانغماس في السياسة قد أسهم بشكل كبير في تراجع سلطة وشعبية رجال المذهب الشيعي داخل إيران.
أما القوميون المتشددون، بمن فيهم القوميون الإيرانيون الذين يحلمون باستعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية بصورة أو بأخرى، فقد استغلوا حالة الاستياء العامة تجاه رجال الدين الحاكمين للبلاد واتخذوا منها منصة يهاجمون من خلالها الإسلام ويصفونه بأنه «دين عربي أجنبي أو غريب فُرض على الإيرانيين الآريين بحد السيف».
وهم يتجاهلون حقيقة مفادها أن السواد الأعظم ممن اعتنقوا الإسلام من الشعب الإيراني قد تحولوا إلى الدين الجديد بعد فترة طويلة للغاية من انتهاء الاحتلال العربي القديم، والذي استمر قرابة 8 عقود، لأجزاء من إيران.
وأُطلق مفهوم «الإسلام الإيراني» أو «الإسلام الآري» فقط لمواجهة مزاعم «الإسلام الأجنبي».
وكان الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، ولا يزال، من أشد أنصار هذا المفهوم. وخلال ولايته لرئاسة البلاد كان قد اقترض «أسطوانة قورش»، وهي من القطع الأثرية القديمة التي كتب عليها الإمبراطور قورش الكبير مؤسس الإمبراطورية الأخمينية أول إعلان لحقوق الإنسان في التاريخ، من المتحف البريطاني ووضعها للعرض على الجمهور في طهران. وجذب المعرض، الذي كان تحت حراسة فرقة من الجنود يرتدون الزي العسكري الأخميني القديم، أكثر من 5 ملايين زائر.
وبرر محمود أحمدي نجاد خطوته تلك، والتي تسببت في إغضاب بعض الملالي في البلاد، على أساس أن قورش الكبير من المفترض أنه جاء ذكره في القرآن الكريم تحت مسمى «ذي القرنين». (ويعتقد بعض العلماء أن هذا المسمى يشير إلى شخصية الإسكندر الأكبر لا إلى قورش الكبير).
ووفقاً للتقارير التي يتعذر التحقق من صحتها بصورة مستقلة، كان العقل المدبر وراء فكرة «الإسلام الآري» هو رجل دين شيعي غامض يحمل اسم حسن يعقوبي، وهو من المفترض أن يكون قد ألّف أكثر من 40 كتاباً، على الرغم من أنه لم يره أو يسمع به من أحد.
وحاول بعض رجال الدين الآخرين الترويج لفكرة «الإسلام الآري» من خلال الزعم بأن الحسين بن علي، نجل الصحابي علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء كريمة النبي محمد، كان قد تزوج من بيبي شهر - بانو كريمة الملك الساساني الأخير يزدجرد، وبالتالي تسبب في امتزاج الإسلام مع إيران.
يقول آية الله صبحاني: «يحمل كل أحفاد الحسين الدماء الإيرانية في عروقهم. وهذا يعني أن هناك صلة إنسانية قائمة وغير قابلة للانفصام بين الإسلام وإيران».
أما القوميون الإيرانيون، رغم ذلك، يرفضون هذه الفكرة تماماً ويزعمون أن بيبي شهر - بانو، والتي يجتذب ضريحها بالقرب من طهران ملايين الحجاج في كل عام، كانت أسيرة ولم تعتنق دين الإسلام قط.
ويزعم رجل دين آخر يُدعى آية الله حسيني قزويني أن الروابط الإيرانية الإسلامية قد تعززت على يد الإمام الثاني عشر، والمعروف باسم الإمام المختفي المهدي المنتظر، والذي خرج من غيابه الطويل في سرية وتزوج فتاة من طهران وبالتالي ضمن استمرار «السلالة المقدسة لأبناء علي» مع جيل بعد جيل من الأحفاد الذين «يحملون الدماء الإيرانية النقية في عروقهم».
ومع ذلك، فإن الصراع الإيراني التقليدي بين القومية والدين يبدو أنه سوف يزداد حدة في قابل الأيام. ووفقاً للمصادر الحكومية المطلعة، فإن المزيد والمزيد من الشعب الإيراني يطلقون الأسماء غير الإسلامية على أطفالهم المولودين حديثاً. ولقد أدى ذلك بوزارة الداخلية، ممثلةً في مكتب السجل المدني المركزي، إلى الإعلان عن قرار يوم الخميس الماضي بتشديد القواعد المنظمة لإطلاق الأسماء غير الإسلامية على المواليد الجدد في البلاد.
وقال الناطق الرسمي باسم السجل المدني المركزي في طهران، سيف الله أبو ترابي، في مؤتمر صحافي، إن وزارة الداخلية سوف تساعد أيضاً أولئك الذين يرغبون في استبدال أسمائهم الشخصية غير الإسلامية، وتيسير القيام بذلك بالحد الأدنى الممكن من الروتين البيروقراطي المزعج.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.