أجواء مفعمة بالوطنية في افتتاح مهرجان الموسيقى العربية الـ26

يتضمن 45 حفلاً غنائياً وموسيقياً بمشاركة 84 فناناً من 8 دول

احتفى المهرجان بالدراما الموسيقية بتقديم مجموعة من مقدمات المسلسلات - كرم المهرجان 24 فناناً أثروا الموسيقى العربية بروائعهم - جانب من معرض الخط العربي للفنان أحمد عبد الفتاح  الذي نُظّم على هامش المهرجان
احتفى المهرجان بالدراما الموسيقية بتقديم مجموعة من مقدمات المسلسلات - كرم المهرجان 24 فناناً أثروا الموسيقى العربية بروائعهم - جانب من معرض الخط العربي للفنان أحمد عبد الفتاح الذي نُظّم على هامش المهرجان
TT

أجواء مفعمة بالوطنية في افتتاح مهرجان الموسيقى العربية الـ26

احتفى المهرجان بالدراما الموسيقية بتقديم مجموعة من مقدمات المسلسلات - كرم المهرجان 24 فناناً أثروا الموسيقى العربية بروائعهم - جانب من معرض الخط العربي للفنان أحمد عبد الفتاح  الذي نُظّم على هامش المهرجان
احتفى المهرجان بالدراما الموسيقية بتقديم مجموعة من مقدمات المسلسلات - كرم المهرجان 24 فناناً أثروا الموسيقى العربية بروائعهم - جانب من معرض الخط العربي للفنان أحمد عبد الفتاح الذي نُظّم على هامش المهرجان

بحفل مبهر يضاهي في روعته حفلات الأوسكار ويليق بتراث الموسيقى العربية، انطلقت، أول من أمس، فعاليات الدورة الـ26 لمهرجان الموسيقى العربية على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا، وسط أجواء من البهجة والتفاؤل التي ارتسمت على وجوه الجمهور والمنظمين لما حققته القوات المسلحة من تدمير «خلية الواحات» الإرهابية وعودة النقيب محمد الحايس وتحريره.
وجاءت الكلمات الافتتاحية مفعمة بالحماس والوطنية، وقال وزير الثقافة المصري حلمي النمنم: «كنا في السابق نقول: يد تبني ويد تحارب، أمّا اليوم فإننا نقول يد تعزف ويد تقاوم الإرهاب»، مضيفاً: «اليد المرتعشة التي لا تواجه الإرهاب لن تتمكن من العزف، والصوت الذي لا يستطيع أن يقول (لا) للإرهاب، لا يمكن أن يرتفع صوته بالغناء».
«نحن هنا اليوم لكي نقول لهم نحن لا نخاف الإرهاب»، هكذا أكدت رئيسة دار الأوبرا إيناس عبد الدايم لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «مع كل دورة من دورات المهرجان نزداد فخراً بهذا المهرجان وقدرته على جذب الفنانين من مختلف أنحاء العالم العربي، وإقبال الجمهور على الحفلات، وهو ما يؤكد أنّ المهرجان أصبح درعاً قوياً للحفاظ على التراث الموسيقي من محاولات التشويه، فالحفاظ على الفن هو حفاظ على الهوية».
وأشارت إلى أن إطلاق خدمة الحجز الإلكتروني للحفلات حظيت بقبول واسع إذ بلغ عدد زوار موقع دار الأوبرا أكثر من 9 ملايين زائر خلال 48 ساعة.
«نعيش حالة انهيار موسيقي حقيقي»، بهذه الكلمات عبرت مديرة المهرجان د. جيهان مرسي، عن الهدف الرئيسي للمهرجان والمؤتمر، وهو تسليط الضوء على روائع الموسيقى العربية وأبرز الفنانين المعاصرين الذين يقدمون الغناء العربي الأصيل قائلة: «مصر ستظل قبلة الغناء، ونطمح أن نصحّح تلك الصورة، ونؤكّد أنّ وطننا العربي قدّم روائع كثيرة في الموسيقى والغناء، ونقدم عبر حفلات المهرجان نماذج لمطربين استطاعوا مواكبة العصر مع الحفاظ على روح الأغنية الطربية الأصيلة».
وأضافت أن المهرجان هذا العام يسلط الضوء على آلة الربابة الشعبية من خلال المسابقة المصاحبة، التي باتت تحظى بمكانة كبيرة في جميع المحافل العالمية، وحرص المهرجان هذا العام على أن تكلل الربابة شعاره للدورة الحالية.
وكرّم المهرجان 24 فناناً وموسيقياً من أبرزهم، اسم الفنان السعودي الراحل طلال المداح وتسلم الجائزة نجله عبد الله، وسط تصفيق كبير من الجمهور على أغنية «مقادير»، واسم الموسيقار المصري الكبير علي إسماعيل، واسم الشاعر الكبير الراحل سيد حجاب، واسم المطرب الراحل عماد عبد الحليم، وتسلمها شقيقه الموسيقار محمد علي سليمان، وعازف البيانو والموزع الموسيقى عمرو سليم، والموسيقار رعد خلف، والموسيقار وعازف الدرامز وجدي فؤاد، والموسيقار التونسي أمين بوحافة، وعازف الأكورديون فاروق محمد حسن، والموسيقار محمود طلعت، والموسيقار تامر كروان، والشاعر عزت الجندي، وعازف الإيقاع إيهاب عباس، وغيرهم من الموسيقيين الذين أثروا الساحة الفنية.
ولأول مرة قدم حفل الافتتاح مقطوعات موسيقية لمقدمات المسلسلات العربية وكانت الفكرة ناجحة حتى إنه لم يكن هناك مقعد خالٍ، ولعلّ ما يفسر هذا، هو تعطش الجمهور للاستماع إلى الموسيقى النقية والارتباط الوجداني بتلك الأعمال الدرامية.
«وكانت مفاجأة الحفل مشاركة الموسيقار التونسي الشاب أمين بوحافة الذي شارك الأوركسترا بعزف منفرد على البيانو لبعض من ألحانه التي حققت نجاحاً مدويّاً في الدراما المصرية في الآونة الأخيرة. ألحان بوحافة تتميز بالتوظيف البديع لكل الآلات الموسيقية الأوركسترالية والشرقية أيضاً، فضلاً عن إضفاء أجواء رومانسية حالمة من خلال التركيز على أنغام الكونترباص وهو ما حقق لـ(تتر) مسلسلي (حارة اليهود) و(غراند أوتيل) جماهيرية وشهرة واسعة، أمّا الموسيقى التصويرية لمسلسل (لا تطفئ الشمس) فقد استطاع بوحافة أن يضفي أجواء رومانسية حالمة عبر أنغامه والتعبير عن حالات الحب والانكسار والفرح ببراعة».
من جانبه، أعرب بوحافة لـ«الشرق الأوسط» عن سعادته بالمشاركة في المهرجان للمرة الأولى، مثمناً اهتمام المهرجان بالموسيقى التصويرية ومقدمات الأعمال، قائلاً إن «موسيقى الأفلام والمسلسلات لون موسيقي له جمهوره سواء في عالمنا العربي أو خارجه، لأنها تمهد للعمل الدرامي وتعكس زمن المسلسل، وتضفي عليه مزيداً من المصداقية، فتخلق حالة فنية متكاملة مع عناصر الدراما الأخرى كالسيناريو والإخراج».
في حين أبدعَت عازفة الفلوت إيناس عبد الدايم بمشاركتها في عزف ألحان الموسيقار المصري الشهير راجح داود، حيث استمع الجمهور لمباراة نغمية بين الفلوت الغربي والناي الشرقي. واختتم الحفل بموسيقى نشيد «اسلمي يا مصر» الحماسي بتوزيع جديد للموسيقار راجح داود.
تستمر الفعاليات على مدار 15 يوماً وتتضمن 45 حفلاً غنائياً وموسيقياً، بمشاركة 84 فناناً من 8 دول عربية. أحيا، أمس، الفنان الفلسطيني محمد عساف حفلاً أنشد فيه مجموعة من أغانيه وأغنيات لكبار مطربي العالم العربي، كما يحيي، اليوم، الفنان رامي عياش حفلاً بقيادة المايسترو مصطفى محمود، وغداً يحيي الفنان التونسي الكبير لطفي بوشناق حفلة في دار الأوبرا المصرية. ويشارك من لبنان هذا العام أيضاً الفنانون عاصي الحلاني، وميشيل فاضل، وسعد رمضان، ومروان خوري.
ومن مصر يشارك عمالقة الطرب، ومنهم مدحت صالح وهاني شاكر وعلي الحجار ونادية مصطفى وريهام عبد الحكيم، إلى جانب الموسيقار الكبير عمر خيرت ويختتم حفلات المهرجان الفنان التونسي صابر الرباعي.
يُنظّم على هامش المهرجان معرض للخط العربي للفنان أحمد عبد الفتاح الذي كرمه المهرجان، ويشارك بـ70 لوحة تجسد كل أنواع الخط العربي. المعرض في قاعة صلاح طاهر ومتاح للجمهور جميع أيام الأسبوع، عدا الجمعة، كان من اللافت توظيف الفنان للأرقام العربية كنماذج زخرفية واستخدامه للأحبار الملونة. يقول الفنان لـ«الشرق الأوسط»: «أقدم من خلال اللوحات مختلف أنواع الخطوط، وأردتُ أن أبرز جماليات الخط العربي وطواعيته عبر مجسمات الحروف». ويضيف: «فنان الخط العربي يمرّ بمراحل كثيرة حتى تخرج لوحته إلى النور، عن نفسي أستنبط لوحاتي من وحي القرآن الكريم وأثناء قراءتي له تجذبني بعض الآيات فأكتبها في مذكرة، ثم أقرأ تفسيرها، وعلى أساسه أبدأ في رسم الفكرة التي ستخرج فيها اللوحة وبعدها أحاول أن أقوم بزخرفة تتناسب مع الآية الكريمة، كل ذلك مع مراعاة التناغم اللوني بين الزخرفة والحروف».
كما بدأت أمس الخميس فعاليات المؤتمر العلمي المصاحب للمهرجان، بمشاركة 42 باحثاً من 16 دولة عربية وأجنبية، إلى جانب باحثتين من أميركا والدنمارك لأول مرة، وخصصت الجلسة النقاشية الأولى للتطورات التي طرأت على المصطلحات الموسيقية وإشكالياتها، وسبل تأريخها، وكان مقرر الجلسة الناقد الأدبي د. جابر عصفور الذي أكد على تقارب الموسيقى وإيقاعاتها مع الشعر. فيما ناقش د. كفاح فاخوري إشكاليات المصطلحات العربية في العلوم الموسيقية. وقال د. يوسف طنوس من لبنان لـ«الشرق الأوسط»: «ينبغي أن تُوحّد المصطلحات الموسيقية... هناك بعض الخلل الذي نتج عن تعريب بعض المصطلحات ممّا غيّر معانيها». مؤكداً أن «العالم عندما أخذ من الموسيقي العربية، أخذها كما هي بمصطلحاتها ولم يغير فيها».
وأشار إلى أن الموسيقى العربية في تجدّد دائم، لكنّها للأسف لا تتطوّر بل تتدهور من حيث الجمل اللحنية والإيقاعية، وتفقد جمالياتها وهويتها، وهو ما نركّز عليه كباحثين من مختلف الدول العربية. تختتم فعاليات المؤتمر العلمي يوم الاثنين المقبل، بإعلان التوصيات، فيما تختتم الحفلات يوم 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)