رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

ضمن مزاد «سوذبي» لكتب الرحلات والخرائط والتاريخ الطبيعي بلندن

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز
TT

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

يتحدث ريتشارد فاتوريني مدير قسم الكتب في دار «سوذبي»، بحماسة واضحة عن محتويات مزاد الدار، الذي سيُنظَّم في لندن، العاصمة البريطانية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني). يسرد تفاصيل كل قطعة بلهجة مَن قرأ واستمتع بالتفاصيل الصغيرة، ويختار أن يبدأ عرض قطع منتقاة من المزاد منطلقاً من رسم نُفّذ بطريقة النقش على النحاس، يصور الحرم المكي في موسم الحج. يحمل الرسم عنوان «كعبة الله العليا».
نسخة نادرة ومشهد مهيب لمكة المكرمة. يعد أضخم رسم للمدينة نُفِّذ في ذلك الوقت، ويتميز بكثرة التفاصيل ودقّتها، من أفواج الحجاج الذين ينسابون من عرفات حتى الحرم المكي، نراهم عند بوابات الحرم وفي المساجد بالقرب من المشاعر المقدسة، وحتى أيضاً نرى أشخاصاً على أسطح المنازل بجانب خيم صغيرة نصبوها هناك، ربما لرؤية الكعبة.
يعد هذا الظهور الأول للوحة منذ 40 سنة، حسبما يشير الخبير.

نشر الدبلوماسي دوسون كتاباً عن الإمبراطورية العثمانية، يتضمن لوحة ضخمة عن مكة المكرمة. ودفعه الإقبال الكبير على شراء الكتاب، بتكليف الأخوين تشارلز نيكولاس وجوزف فارين عام 1791، في باريس، إلى إعداد نسخة أكبر من اللوحة (وهي النسخة الموجودة في هذا المزاد). ويروى أنّه قد باع نسخاً منها في القسطنطينية للحجاج والرحالة. ولكن اليوم يعتقد أنّ هناك نسخاً محدودة متبقية من اللوحة.
بالنظر إلى اللوحة يتبادر إلى الذهن سؤال: هل رُسمت من الواقع أو اعتماداً على رسوم أولية؟ يقول فاتوريني: «به بعض الخيال ولكنه في الغالب يعتمد على حكايات الرحالة والحجاج، ولهذا فهو ليس متخيلاً تماماً، ليس دقيقاً 100 في المائة، ولكن الفكرة الأساسية هناك معتمدة على الحقائق والواقع».
اللوحة تحمل تاريخ إعدادها 1791، وقد صُنعت في فرنسا وشُحنت إلى القسطنطينية، «لسوء الحظ شب حريق ضخم في المخازن، حيث حفظت الرسومات، وفُقدت كل النسخ التي أودعها دوسون هناك ولم يتبقَّ سوى تلك النسخ التي كان قد باعها بالفعل أو التي احتفظ بها لنفسه، ولهذا اعتبرت اللوحة (غير متوفرة) ولا يمكن الحصول عليها».
توجد نسخ قليلة يُعتقد أنّها نجت من الحريق، ولكنّنا لم نستطع التوصل لأي من الرسومات التي طُبعت في عام 1791، ويُروى أن آخر شخص اقتنى نسخة كان الرحالة النمساوي أندرياس هانغلينغار الذي كتب في عام 1804، أنّه حاول جاهداً ليحصل على اللوحة في أثناء إقامته في مدينة إسطنبول عام 1798، واستطاع في عام 1802 شراء نسخة من بائع تحف في مدينة بيرا الذي اقترح على هانغلينغار أن ينسخ الرسم. وبالفعل سمع الرحالة النصيحة وكلّف بإعداد نسخة من اللوحة تم حفرها على النحاس في فيينا وطُبعت في عام 1803. وكان المتحف البريطاني قد عرض نسخة من طبعة تعود لعام 1803 ضمن معرض «الحج: رحلة إلى قلب العالم الإسلامي» في عام 2012.
ويضيف فاتوريني خلال حديثه مع «الشرق الأوسط»: «عبر اتصالاتي علمت بأنّ هناك 6 نسخ أخرى لم تظهر منها أي نسخة في مزاد علني، وبالتالي فهذا هو الظهور الأول لهذه النسخة في المزاد. وهذا ما أكّده لي جامع خرائط يعيش في مكة، حين قال بأنّه لم ير هذه النسخة من قبل وإن كان يعرف بوجود 6 نسخ».
يشير فاتوريني إلى أنّ السعر المقدر للوحة يتراوح بين 30 و40 ألف جنيه إسترليني.
مذكرات هاملتون والملك عبد العزيز

من الكتب التاريخية المهمة في المزاد، يعرض فاتوريني لنا نسخة من كتاب لا يبدو أنّه في صورته النهائية، وبالفعل يقول لنا إنّه نسخة معدة للتصحيح، طبعها المقدم روبرت إدوارد هاملتون ممثل الحكومة البريطانية، لاستخدامه الشخصي، ولم تصدر للجمهور. الكتاب يدور حول مقابلاته نيابةً عن الحكومة البريطانية مع الملك عبد العزيز في 1917، بعد نهاية الحرب الكبرى، حيث كُلِّف برفع التقارير إلى الحكومة البريطانية عن الأحداث.
المذكرات تلقي الضوء على ما كان الملك يفكر به وأيضاً على علاقته مع بريطانيا العظمى، ولهذا لم تكن الوثيقة معدة للجمهور، فهي وثيقة حكومية طُبع منها 50 نسخة فقط. يشرح لنا الخبير أهمية المخطوط أمامنا، قائلاً: «حاولت تتبع آثارها ولكن لم أجد سوى نسخة وحيدة في المكتبة البريطانية، وكانت (سوذبي) قد قامت العام الماضي ببيع كتب تعود لعائلة المؤلف، وبعنا نسخة من المذكرات بقيمة 80 ألف جنيه». النسخة المعروضة أمامنا، وهي غير مصححة، موقعة من الكاتب بلقبه الاسكتلندي (بلهافن) ومهداة لـ«إي إل فون» 1921، تقول: «إلى (إي إل فون) مع تحيات الكاتب. هناك عدد من الأخطاء في هذه النسخة المعدة للتصحيح، ولكنّها ما عدا ذلك، نسخة طبق الأصل من أصول مذكراتي».
وفي الصفحة الأولى نجد العنوان «يوميات رحلة لوسط الجزيرة العربية بقلم كولونيل هاملتون».
يصور هاملتون في مذكراته انطباعاته وملاحظاته، وهو ما يمثل مصدراً غنياً للمعلومات حول العلاقات الدبلوماسية البريطانية السعودية، خلال الأعوام التي سبقت تأسيس المملكة العربية السعودية.
المقدم روبرت إدوارد هاملتون (1871 - 1956)، أُرسل إلى الرياض برفقة سانت جون فيلبي، وتسجل المذكرات رحلته من الكويت إلى الرياض في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
في إحدى الصفحات يذكر لقاءه مع الملك عبد العزيز، في 13 نوفمبر، حين جلس «على يمين عبد العزيز آل سعود... بعد ذلك ذهبنا لمكتبه لحديث خاص».
تضم المذكرات تفاصيل كثيرة حول رحلته للرياض وملاحظاته عن الوضع السياسي في المنطقة. في الرياض التقى مع فيلبي وكانليف أوين. كما أشار إلى لقاء مع تي إي لورانس (لورانس العرب) وكابتن ويليام شكسبير. وعلى الهوامش سجل هاملتون ملاحظات عن أحوال الطقس والمسافات التي قطعها والوقت الذي استغرقته الرحلة. ويذكر أحداث اليوم الأخير لزيارته للرياض حيث «قدَّم ابن سعود إليه ذكر وأنثى المها العربية كهدية للملك جورج».
كتاب بطليموس ونجوم عربية الاسم

يعرض فاتوريني بعد ذلك كتاب فلك بقلم بيتروس بابيانوس طُبع في ألمانيا في عام 1540، عن نظريات عالم الفلك المصري بطليموس، «بعد 3 أعوام من طباعة هذا الكتاب قلب العالم كوبيرنيكوس كل نظريات بطليموس على رأسها وقرّر أن الأرض تدور حول الشمس». ويضيف أنّ الكتاب يتميز بغلافه الجلدي الذي يعود إلى 1540 ولا يزال بحال جيدة، ويتابع: «أمر نادر أن نجد كتاباً عمره 500 عام ما زال في تجليده الأصلي».
يشير الخبير إلى تفاصيل أخرى، فالكتاب يضمّ أسطوانات ورقية يمكن تحريكها تحمل رسوماً توضيحية لتحديد مواقع النجوم وغيرها من النتائج الفلكية، «يمكن تدوير الأسطوانات الورقية واستخدام خيط مثبت في منتصفها لعمل الحسابات حول مواقع وحركات النجوم»، كما يشير إلى أنّ «الخيط يحمل في نهايته لؤلؤة دقيقة الحجم يمكن استخدامها أيضاً لتحريكها على الرسم».
ويتميز الكتاب باستخدام الكاتب للأسماء العربية للنجوم الـ13: «على خرائط النجوم استخدم الأسماء البدوية التي نقلها عن كتاب لعالم فلك فارسي من القرن التاسع».

كتاب في الأزهار والحشرات بريشة امرأة مُنعت من استخدام الألوان الزيتية

الكتاب التالي هو لماريا ميريان طُبع في أمستردام عام 1705. عادة ما تضمّ مزادات كتب الرحلات مثل هذا الكتاب، من إعداد علماء ورحالة جابوا الأرض لتسجيل الحياة الطبيعية. ما الذي يميزه؟ يجيب فاتوريني: «هي أول امرأة تسجل تفاصيل الحشرات والنباتات من خلال رحلة استكشاف علمية في نهاية القرن السابع عشر. ماريا ميريام كانت ابنة صاحب دار نشر سويسري. اصطحبت ابنتها إلى سورينام في أميركا الجنوبية (التي تحولت لمستعمرة هولندية)، بعد أن سمعت الكثير عن فصائل الحشرات هناك، ولكن بما أنّها امرأة فلم يكن مسموحاً لها باستخدام الألوان الزيتية التي كانت حكراً على الرسامين الرجال، في هولندا يُسمح للنساء باستخدام الألوان المائية فقط حسب قواعد رابطة الرسامين والمذهّبين».
قرّرت ماريا أن تسافر وترى بنفسها. باعت 200 لوحة من لوحاتها لتنفق على الرحلة، وقضت عامين في أميركا الجنوبية. وعند عودتها قدمت هذا الكتاب الرائع حول الحشرات والأزهار، ويعد من أجمل كتب التاريخ الطبيعي على الإطلاق، وهو أحد الكتب الأثيرة لمقدم برامج الطبيعة الشهير السير ريتشارد أتنبره.
يقول فاتوريني إنّ ماريان «كانت مبهورة بتحول حشرات مثل الدودة إلى فراشات بديعة الألوان، ورسوماتها تعد أول صور يراها الأوروبيون من أميركا الجنوبية وتاريخها الطبيعي. ورسوماتها الملونة تحتل مكاناً خاصاً في مجموعة الملكة إليزابيث في قصر باكنغهام». يضيف: «المذهل أنّها طبعت كتبها على طريقة النقش على النحاس ولوّنت الرسومات باليد معتمدة على رسوماتها الأصلية».

ملابس وشخصيات من الدولة العثمانية

الكتاب التالي هو مجلد من الرسومات التي تسجل الملابس في القسطنطينية، صدر في نهاية القرن السادس عشر. «الصور ملونة باليد وتحمل تعليقات باللغة الألمانية، وقد يكون الفنان عمل بالسفارة الألمانية في القسطنطينية، وقد أُصدر كتذكار يُمنح للتجار الألمان رفيعي المستوى». رسومات الكتاب تتنوع في تصوير طبقات المجتمع، حيث نرى السلطان والبطرك اليوناني والمفتي وسيدة تركية منتقبة، وأخرى مسترخية في منزلها، ويشير فاتوريني: إلى أنّ الكتاب «من أوائل الرسومات في هذا الاتجاه، ويحتوي على 8 رسومات فقط».


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».