رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

ضمن مزاد «سوذبي» لكتب الرحلات والخرائط والتاريخ الطبيعي بلندن

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز
TT

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

رسم من القرن الثامن عشر لمكة ومذكرات ضابط بريطاني مع الملك عبد العزيز

يتحدث ريتشارد فاتوريني مدير قسم الكتب في دار «سوذبي»، بحماسة واضحة عن محتويات مزاد الدار، الذي سيُنظَّم في لندن، العاصمة البريطانية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني). يسرد تفاصيل كل قطعة بلهجة مَن قرأ واستمتع بالتفاصيل الصغيرة، ويختار أن يبدأ عرض قطع منتقاة من المزاد منطلقاً من رسم نُفّذ بطريقة النقش على النحاس، يصور الحرم المكي في موسم الحج. يحمل الرسم عنوان «كعبة الله العليا».
نسخة نادرة ومشهد مهيب لمكة المكرمة. يعد أضخم رسم للمدينة نُفِّذ في ذلك الوقت، ويتميز بكثرة التفاصيل ودقّتها، من أفواج الحجاج الذين ينسابون من عرفات حتى الحرم المكي، نراهم عند بوابات الحرم وفي المساجد بالقرب من المشاعر المقدسة، وحتى أيضاً نرى أشخاصاً على أسطح المنازل بجانب خيم صغيرة نصبوها هناك، ربما لرؤية الكعبة.
يعد هذا الظهور الأول للوحة منذ 40 سنة، حسبما يشير الخبير.

نشر الدبلوماسي دوسون كتاباً عن الإمبراطورية العثمانية، يتضمن لوحة ضخمة عن مكة المكرمة. ودفعه الإقبال الكبير على شراء الكتاب، بتكليف الأخوين تشارلز نيكولاس وجوزف فارين عام 1791، في باريس، إلى إعداد نسخة أكبر من اللوحة (وهي النسخة الموجودة في هذا المزاد). ويروى أنّه قد باع نسخاً منها في القسطنطينية للحجاج والرحالة. ولكن اليوم يعتقد أنّ هناك نسخاً محدودة متبقية من اللوحة.
بالنظر إلى اللوحة يتبادر إلى الذهن سؤال: هل رُسمت من الواقع أو اعتماداً على رسوم أولية؟ يقول فاتوريني: «به بعض الخيال ولكنه في الغالب يعتمد على حكايات الرحالة والحجاج، ولهذا فهو ليس متخيلاً تماماً، ليس دقيقاً 100 في المائة، ولكن الفكرة الأساسية هناك معتمدة على الحقائق والواقع».
اللوحة تحمل تاريخ إعدادها 1791، وقد صُنعت في فرنسا وشُحنت إلى القسطنطينية، «لسوء الحظ شب حريق ضخم في المخازن، حيث حفظت الرسومات، وفُقدت كل النسخ التي أودعها دوسون هناك ولم يتبقَّ سوى تلك النسخ التي كان قد باعها بالفعل أو التي احتفظ بها لنفسه، ولهذا اعتبرت اللوحة (غير متوفرة) ولا يمكن الحصول عليها».
توجد نسخ قليلة يُعتقد أنّها نجت من الحريق، ولكنّنا لم نستطع التوصل لأي من الرسومات التي طُبعت في عام 1791، ويُروى أن آخر شخص اقتنى نسخة كان الرحالة النمساوي أندرياس هانغلينغار الذي كتب في عام 1804، أنّه حاول جاهداً ليحصل على اللوحة في أثناء إقامته في مدينة إسطنبول عام 1798، واستطاع في عام 1802 شراء نسخة من بائع تحف في مدينة بيرا الذي اقترح على هانغلينغار أن ينسخ الرسم. وبالفعل سمع الرحالة النصيحة وكلّف بإعداد نسخة من اللوحة تم حفرها على النحاس في فيينا وطُبعت في عام 1803. وكان المتحف البريطاني قد عرض نسخة من طبعة تعود لعام 1803 ضمن معرض «الحج: رحلة إلى قلب العالم الإسلامي» في عام 2012.
ويضيف فاتوريني خلال حديثه مع «الشرق الأوسط»: «عبر اتصالاتي علمت بأنّ هناك 6 نسخ أخرى لم تظهر منها أي نسخة في مزاد علني، وبالتالي فهذا هو الظهور الأول لهذه النسخة في المزاد. وهذا ما أكّده لي جامع خرائط يعيش في مكة، حين قال بأنّه لم ير هذه النسخة من قبل وإن كان يعرف بوجود 6 نسخ».
يشير فاتوريني إلى أنّ السعر المقدر للوحة يتراوح بين 30 و40 ألف جنيه إسترليني.
مذكرات هاملتون والملك عبد العزيز

من الكتب التاريخية المهمة في المزاد، يعرض فاتوريني لنا نسخة من كتاب لا يبدو أنّه في صورته النهائية، وبالفعل يقول لنا إنّه نسخة معدة للتصحيح، طبعها المقدم روبرت إدوارد هاملتون ممثل الحكومة البريطانية، لاستخدامه الشخصي، ولم تصدر للجمهور. الكتاب يدور حول مقابلاته نيابةً عن الحكومة البريطانية مع الملك عبد العزيز في 1917، بعد نهاية الحرب الكبرى، حيث كُلِّف برفع التقارير إلى الحكومة البريطانية عن الأحداث.
المذكرات تلقي الضوء على ما كان الملك يفكر به وأيضاً على علاقته مع بريطانيا العظمى، ولهذا لم تكن الوثيقة معدة للجمهور، فهي وثيقة حكومية طُبع منها 50 نسخة فقط. يشرح لنا الخبير أهمية المخطوط أمامنا، قائلاً: «حاولت تتبع آثارها ولكن لم أجد سوى نسخة وحيدة في المكتبة البريطانية، وكانت (سوذبي) قد قامت العام الماضي ببيع كتب تعود لعائلة المؤلف، وبعنا نسخة من المذكرات بقيمة 80 ألف جنيه». النسخة المعروضة أمامنا، وهي غير مصححة، موقعة من الكاتب بلقبه الاسكتلندي (بلهافن) ومهداة لـ«إي إل فون» 1921، تقول: «إلى (إي إل فون) مع تحيات الكاتب. هناك عدد من الأخطاء في هذه النسخة المعدة للتصحيح، ولكنّها ما عدا ذلك، نسخة طبق الأصل من أصول مذكراتي».
وفي الصفحة الأولى نجد العنوان «يوميات رحلة لوسط الجزيرة العربية بقلم كولونيل هاملتون».
يصور هاملتون في مذكراته انطباعاته وملاحظاته، وهو ما يمثل مصدراً غنياً للمعلومات حول العلاقات الدبلوماسية البريطانية السعودية، خلال الأعوام التي سبقت تأسيس المملكة العربية السعودية.
المقدم روبرت إدوارد هاملتون (1871 - 1956)، أُرسل إلى الرياض برفقة سانت جون فيلبي، وتسجل المذكرات رحلته من الكويت إلى الرياض في 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
في إحدى الصفحات يذكر لقاءه مع الملك عبد العزيز، في 13 نوفمبر، حين جلس «على يمين عبد العزيز آل سعود... بعد ذلك ذهبنا لمكتبه لحديث خاص».
تضم المذكرات تفاصيل كثيرة حول رحلته للرياض وملاحظاته عن الوضع السياسي في المنطقة. في الرياض التقى مع فيلبي وكانليف أوين. كما أشار إلى لقاء مع تي إي لورانس (لورانس العرب) وكابتن ويليام شكسبير. وعلى الهوامش سجل هاملتون ملاحظات عن أحوال الطقس والمسافات التي قطعها والوقت الذي استغرقته الرحلة. ويذكر أحداث اليوم الأخير لزيارته للرياض حيث «قدَّم ابن سعود إليه ذكر وأنثى المها العربية كهدية للملك جورج».
كتاب بطليموس ونجوم عربية الاسم

يعرض فاتوريني بعد ذلك كتاب فلك بقلم بيتروس بابيانوس طُبع في ألمانيا في عام 1540، عن نظريات عالم الفلك المصري بطليموس، «بعد 3 أعوام من طباعة هذا الكتاب قلب العالم كوبيرنيكوس كل نظريات بطليموس على رأسها وقرّر أن الأرض تدور حول الشمس». ويضيف أنّ الكتاب يتميز بغلافه الجلدي الذي يعود إلى 1540 ولا يزال بحال جيدة، ويتابع: «أمر نادر أن نجد كتاباً عمره 500 عام ما زال في تجليده الأصلي».
يشير الخبير إلى تفاصيل أخرى، فالكتاب يضمّ أسطوانات ورقية يمكن تحريكها تحمل رسوماً توضيحية لتحديد مواقع النجوم وغيرها من النتائج الفلكية، «يمكن تدوير الأسطوانات الورقية واستخدام خيط مثبت في منتصفها لعمل الحسابات حول مواقع وحركات النجوم»، كما يشير إلى أنّ «الخيط يحمل في نهايته لؤلؤة دقيقة الحجم يمكن استخدامها أيضاً لتحريكها على الرسم».
ويتميز الكتاب باستخدام الكاتب للأسماء العربية للنجوم الـ13: «على خرائط النجوم استخدم الأسماء البدوية التي نقلها عن كتاب لعالم فلك فارسي من القرن التاسع».

كتاب في الأزهار والحشرات بريشة امرأة مُنعت من استخدام الألوان الزيتية

الكتاب التالي هو لماريا ميريان طُبع في أمستردام عام 1705. عادة ما تضمّ مزادات كتب الرحلات مثل هذا الكتاب، من إعداد علماء ورحالة جابوا الأرض لتسجيل الحياة الطبيعية. ما الذي يميزه؟ يجيب فاتوريني: «هي أول امرأة تسجل تفاصيل الحشرات والنباتات من خلال رحلة استكشاف علمية في نهاية القرن السابع عشر. ماريا ميريام كانت ابنة صاحب دار نشر سويسري. اصطحبت ابنتها إلى سورينام في أميركا الجنوبية (التي تحولت لمستعمرة هولندية)، بعد أن سمعت الكثير عن فصائل الحشرات هناك، ولكن بما أنّها امرأة فلم يكن مسموحاً لها باستخدام الألوان الزيتية التي كانت حكراً على الرسامين الرجال، في هولندا يُسمح للنساء باستخدام الألوان المائية فقط حسب قواعد رابطة الرسامين والمذهّبين».
قرّرت ماريا أن تسافر وترى بنفسها. باعت 200 لوحة من لوحاتها لتنفق على الرحلة، وقضت عامين في أميركا الجنوبية. وعند عودتها قدمت هذا الكتاب الرائع حول الحشرات والأزهار، ويعد من أجمل كتب التاريخ الطبيعي على الإطلاق، وهو أحد الكتب الأثيرة لمقدم برامج الطبيعة الشهير السير ريتشارد أتنبره.
يقول فاتوريني إنّ ماريان «كانت مبهورة بتحول حشرات مثل الدودة إلى فراشات بديعة الألوان، ورسوماتها تعد أول صور يراها الأوروبيون من أميركا الجنوبية وتاريخها الطبيعي. ورسوماتها الملونة تحتل مكاناً خاصاً في مجموعة الملكة إليزابيث في قصر باكنغهام». يضيف: «المذهل أنّها طبعت كتبها على طريقة النقش على النحاس ولوّنت الرسومات باليد معتمدة على رسوماتها الأصلية».

ملابس وشخصيات من الدولة العثمانية

الكتاب التالي هو مجلد من الرسومات التي تسجل الملابس في القسطنطينية، صدر في نهاية القرن السادس عشر. «الصور ملونة باليد وتحمل تعليقات باللغة الألمانية، وقد يكون الفنان عمل بالسفارة الألمانية في القسطنطينية، وقد أُصدر كتذكار يُمنح للتجار الألمان رفيعي المستوى». رسومات الكتاب تتنوع في تصوير طبقات المجتمع، حيث نرى السلطان والبطرك اليوناني والمفتي وسيدة تركية منتقبة، وأخرى مسترخية في منزلها، ويشير فاتوريني: إلى أنّ الكتاب «من أوائل الرسومات في هذا الاتجاه، ويحتوي على 8 رسومات فقط».


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».