مدينة الفسطاط القديمة بمصر.. صناعة الفخار في قبضة التاريخ

تشكو من الإهمال.. وتراجع حركة السياحة أصاب سوقها بالكساد

أحد العمال أثناء تصنيع إحدى التحف  -  أشكال متنوعة من منتجات الفخار
أحد العمال أثناء تصنيع إحدى التحف - أشكال متنوعة من منتجات الفخار
TT

مدينة الفسطاط القديمة بمصر.. صناعة الفخار في قبضة التاريخ

أحد العمال أثناء تصنيع إحدى التحف  -  أشكال متنوعة من منتجات الفخار
أحد العمال أثناء تصنيع إحدى التحف - أشكال متنوعة من منتجات الفخار

رائحة الطمي وغبار التاريخ يتسللان إلى أنفك وأنت تتجول في منطقة «الفاخورة» بمدينة الفسطاط التاريخية في حي مصر القديمة بالقاهرة. وستلمس تلك الرائحة وأنت تقترب من بائعي المنتجات الفخارية بأنواعها، وكأن المدينة لا تصنع غيرها. خليط من الأصوات تنبعث من البيوت القديمة، بعضها يشبه خرير المياه وهي تنساب من مصب النهر، وبعضها يعلو ويخفت، وكأنه تنويعات على صدى لحن قديم. إنها أصوات ورش تصنيع المنتجات الفخارية والمشغولات الطينية، عكف داخلها شباب ورجال مسنون يحولون القطع الفخارية إلى أشكال فنية متنوعة تنم عن ذوق رفيع. قدور كبيرة وصغيرة، وأوان فخارية ومزهريات وأطباق، وأباريق وأكواب، تتراص وتتألق فوق الرفوف.
تخضع ورش الفخار لنظام دقيق، مبني على حب الخامة واحترام الفن. يؤكد على هذا الشاب «علي»، عامل بإحدى الورش، ويضيف «تعلمت حرفة صناعة المنتجات الفخارية من جدي مصطفى، وكان عمري لم يتجاوز التاسعة حين اصطحبني معه إلى الورشة ليعلمني الحرفة (القديمة) وهي صناعة الفخار». يضيف علي بنبرة من يشعر بأهميته «نصنع هنا العديد من المنتجات الفخارية والأطباق والأشكال الهندسية التي نبيعها في ما بعد في العديد من الأسواق خاصة السياحية منها في منطقة خان الخليلي بحي الحسين والغورية ولبعض الباعة الجائلين كذلك».
وعلى إيقاع صوت العجينة الطينية، وهي تمتزج في يده بقطرات العرق، يقول مصطفي حمدي (66 عاما)، وهو منهمك بتركيز شديد في تصنيع قدر كبير «صناعة الفخار فن عريق». ويواصل بعد أن اعتلى دولابه (آلة تصنيع الفخار) ويلف القدر مستخدما قدميه «الفخار من أقدم الصناعات التقليدية في العالم وفي مصر بشكل خاص جدا، وأنا ورثتها عن أبي الذي ورثها بدوره عن أجدادي، فهي مهنة تشكل رابطا شديدا بين الإنسان المصري القديم والمعاصر، وامتازت مصر بها لوجود ترسبات رملية وطينية ساعدت على انتشار الصناعة بشكل كبير».
يضيف مصطفى وعجينة الطين تدور أمامه على قرص الدولاب بينما أصابعه تشكلها كما يشاء «صناعة الفخار تبدأ بإعداد الطينة في (الفاخورة) التي نهيئ فيها العجين ونقطعه إلى كتل حسب حجم الإناء المراد تصنيعه، ومن ثم توضع قطعة العجين على الدولاب لتشكيلها حسب الشكل المراد تصنيعه سواء كانت أواني أو أطباقا أو أشكال حيوانات أو طيور، أو تحفا تعلق في المنازل للزينة. كل هذه المنتجات تجد طريقها دوما للمستهلكين والمهتمين عادة بتاريخ التراث الفخاري والأواني الفخارية التي تنتمي لحقب تاريخية قديمة نوعا ما».
وتعتبر مدينة الفسطاط من المدن التاريخية بامتياز، فقد بناها عمرو بن العاص عقب فتح مصر عام 641م، وهي تقع على مقربة من حصن بابليون الشهير على ساحل النيل في طرفه الشمالي الشرقي بالقاهرة، حيث كان النيل آنذاك ينقسم إلى قسمين. وموضعها كان فضاء ومزارعَ بين النيل والجبل الشرقي، ليس فيه من البناء والعمارة سوى حصن بابليون الذي يطل على النيل من بابه الغربي والذي يعرف الآن بـ«باب الحديد» أو ميدان رمسيس.
كما عرفت مدينة الفسطاط واشتهرت بصناعة الفخار التي تعود إلى عام 2000 قبل الميلاد خاصة في العصور البدائية، حيث شكل منها الإنسان القديم احتياجاته من الأواني والقدور والجرار والمسارج وغيرها من الأدوات الضرورية التي مثلت عصب الحياة اليومية حتى وقت قريب. وفي العصر الإسلامي شهدت صناعة الفخار تطورا ملحوظا، سواء في تقنيات الصناعة ذاتها أو في ابتكار أشكال جديدة من المنتجات الفخارية وزخرفتها بطرق متنوعة. واستخدمت القوالب الفخارية وقوالب الجص ذات الزخارف المحفورة في تشكيل زخارف بارزة باستخدام أسلوب الضغط أو الصب، وكانت تطلى أحيانا بطلاء زجاجي وخزفي.
يضيف مصطفى، وهو يتأمل الإناء الذي يصنعه وقد بدأ يتشكل شيئا فشيئا «الفسطاط من أشهر المدن الإسلامية القديمة في صناعة الفخار، وهي العاصمة القديمة لمصر الإسلامية، وكان إنتاجها من الفخار امتدادا للفخار المصري الشهير والمعروف منذ عصر الفراعنة، كما أنتجت الفسطاط في العصرين الطولوني والفاطمي مختلف أنواع الفخار المعروفة في ذلك الوقت، غير أنها اشتهرت بصناعة الفخار (الخزفي) ذي البريق المعدني، والفخار ذي الزخارف المحفورة في طينة (الآنية) تحت الطلاء ذي اللون الواحد، وتميزت طينة الفسطاط بالنعومة والهشاشة والميل إلى اللون الأحمر».
وحول المشاكل التي تواجه صناعة الفخار حاليا يقول مصطفى «تعاني صناعة الفخار هذه الأيام من إهمال الدولة، بسبب عدم تهيئة أماكن صناعتها، كما انعكس عليها كساد السياحة الذي ضرب تجارها حتى بات الإقبال قليلا جدا، والأسعار انخفضت بدورها، فالمنتج الذي كان يباع عادة بـ50 جنيها أصبح يباع بنصف ثمنه إن وجد من يشتريه وهم قلائل جدا».
وبنبرة أسى وتساؤل يتابع مصطفى قائلا «هل تعرف أنه في العصر المملوكي كانت القاهرة مركزا مهما لأنواع إنتاج الفخار الشعبي، المتميز بالبساطة وقلة التكلفة وحسن الذوق ودقة الصنع، وتأتي (المسارج الخشبية) على رأس تلك التحف الفخارية في ذلك الوقت، وكانت ذات أشكال متعددة وزخارف متنوعة، فكان منها البيضاوي وكان منها ما هو على شكل إبريق صغير، وما يشبه الكلجة (حاملة الزير)، وبعضها كان شكله على هيئة حيوان صغير، إلى أن تطورت الأشكال الهندسية لتأخذ منحى جديدا يتناسب مع العصر في يومنا هذا».
وتعاني منطقة الفواخير بالفسطاط من إهمال شمل عدة تعديات على بعض الأماكن التاريخية بها، بجانب عدم توافر المرافق، وهو ما يهدد الصورة الحضارية للمكان التاريخي - كما يقول مصطفى - مشددا على أن «الفسطاط بها جزء كبير من تاريخ مصر نتمنى أن ينال الاهتمام اللائق من الدولة».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».