«دويتو مع فنان»... معرض في النمسا حيث يتفاعل الجمهور والفنان

TT

«دويتو مع فنان»... معرض في النمسا حيث يتفاعل الجمهور والفنان

«دويتو مع فنان»... معرض حديث يدعو الجمهور للمشاركة والتفاعل بالتداخل وليس الاكتفاء بمجرد معاينة المعروضات، باعتبار أن «الفن مفتاح للتواصل، وأن بداخل كل إنسان فناناً»، مما يجعل الفن جزءاً أساسياً يمكن أن يفتح آفاقاً للمشاركة بصفته قيمة ديمقراطية، بعيداً عن النمطية التي تحصر المعارض الفنية بين فنان يعرض أعماله، وزوار «يتفرجون عليها».
تنشط فعاليات معرض «دويتو مع فنان» الذي يستمر حتى 24 فبراير (شباط) المقبل، في متحف «المنزل 21»، أحدث المتاحف وصالات العرض في العاصمة النمساوية فيينا، وعلى الرّغم من أنّه كان منفصلا بصفته مبنى زجاجيا بسيطا، فإنّه تابع لقصر متحف «البلفدير» الشاهق الفخم باروكي المعمار، الذي فتح أبوابه للجمهور للاستمتاع بما يضمّه من لوحات فنية نادرة في عام 1781، بعد أن كان سكنا إمبراطوريا خاصا لقائد الجيش.
أكثر ما يشتهر «الدويتو» في عالم الفن غنائياً؛ حين يتشارك مغنيان، على الأغلب من فئتين عمريتين مختلفتين، في أداء أغنية مميزة بما يشبه الحوار، ويقرب بين جيليهما في انسجام كامل، ويفتح آفاقا للإدلاء بالآراء والتقييم.
انطلاقا من فكرة «الدويتو»؛ يقدم المعرض أعمالا لفنانين من جيلين مختلفين، بهدف إتاحة الفرصة للمشاهد للمقارنة بينهما، كما يهدف لتحفيزه على اتخاذ موقف خلاق، وليس مجرد الاكتفاء بالمشاهدة، بهدف فتح آفاق أوسع، وخلق مساحة للقاء؛ ليس بين أعمال الفنانين القادمين من جيلين مختلفين، وإنّما بينهما وبينه كذلك.
يضم المعرض 28 عملا؛ منها ما هو تاريخي يعود لجيل ستينات وسبعينات القرن الماضي، ومنها ما هو بالغ الحداثة لفنانين معاصرين وشباب، بالإضافة لمساهمات أخرى يجد فيها الزائر نفسه شريكا في دويتو مع فنان.
من المعروضات، عمل للفنانة اليابانية الناشطة سياسياً يوكو أونو، أرملة مغني فرقة «البيتلز» جون لينون؛ جنبا إلى جنب عمل للفنان التشيكي جوليس لوكر الذي يعد واحداً من أهم الفنانين الشرق أوروبيين ممن عرفوا بالنضال إبان القرن الماضي ضد النظام الشيوعي.
ليس بعيداً عنهما؛ يعرض عمل بعنوان: «من منا لا يريد طرد الذباب» للألماني جوزيف بويس الذي يعد من أكثر فناني القرن الماضي نفوذاً، وتوصف أعماله بالواقعية مستندة إلى مفاهيم إنسانية وفلسفة اجتماعية تنطلق من فكرة أن الفن موسوعة تساهم في تشكيل المجتمع والسياسة.
كما يقدّم المعرض أعمالا لفنانين شباب، في إشارة واضحة إلى أنّ مسيرة الفن ماضية لن تتوقف، وأن هناك خلف خير لسلف خير، تماما كما أن هناك جمهورا حيا يمكنه أن يتفاعل مع المعروضات حتى لا تمسي مجرد أعمال جامدة.
لمزيد من مشاركة الجمهور وتفعيلا لفكرة «الدويتو»، ينظم المعرض ورشات ويقدم معدات للزوار لمزيد من فرص التعلم والاستفادة. وفي هذا السياق، تعرض لوحة تعود لعام 1966 عنوانها: «أصلحه» مرسومة كأرفف مرصوصة بمواعين من البورسلان. وضعت أمام هذه اللوحة طاولة يجلس خلفها فنان يعمل بمواد لاصقة وغراء مما يستخدم في إصلاح ما قد يتعرض للكسر.
في ركن آخر، يمكن للزائر الجلوس أمام مرآة ثلاثية الأبعاد مثيرة للانتباه، بحيث يرغب المرء في اكتشاف جوهرها، فيظهر له في ركن مقابل «مجسم عار» تم تثبيته على حامل يدور. المطلوب من الزائر أن يكسو المجسم بما يتماشى ويتوافق ومفهومه للملابس، في إشارة إلى أنّ خيارات كل منا لملبسه تعود أساسا لثقافته وقناعاته وإمكاناته، وبالتالي فمع قبول مفهوم كهذا، يسهل علينا قبول الآخر، ويساعد ولو قليلا في شفاء العالم.
من جانبه، يشارك الفنان توماس كلاين، ضمن أطروحته لشهادة الماجستير، بإجراء حوارات يستمد القدرة على إدارتها من دور الفن، بصفته قيمة تساعد على الحديث مع آخرين حديثاً بسيطاً ومفيداً من دون تكلف، مما قد يساهم في الترفيه عن أناس يشعرون بالوحدة ويحتاجون لمن يسمعهم ومن يتحدثون إليه في مجتمعات اختطفتها تفاصيل ومتطلبات الحياة المادية اللاهثة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».