البريطاني كازوو إيشيغورو يفوز بجائزة نوبل للأدب 2017

وصفت الأكاديمية كتابه الأشهر «بقايا اليوم» بأنه «رائعة أدبية»

يعد إيشيغورو رقم 29 بين الفائزين بنوبل ممن يكتبون بالإنجليزية
يعد إيشيغورو رقم 29 بين الفائزين بنوبل ممن يكتبون بالإنجليزية
TT

البريطاني كازوو إيشيغورو يفوز بجائزة نوبل للأدب 2017

يعد إيشيغورو رقم 29 بين الفائزين بنوبل ممن يكتبون بالإنجليزية
يعد إيشيغورو رقم 29 بين الفائزين بنوبل ممن يكتبون بالإنجليزية

فاز الكاتب البريطاني كازوو إيشيغورو، المعروف خصوصاً بكتابه «ذي ريماينز أوف ذي داي» (بقايا النهار)، بجائزة نوبل للأدب لعام 2017، على ما أعلنته أكاديمية نوبل السويدية أمس (الخميس).
وكتبت الأكاديمية في حيثيات قرارها أن إيشيغورو (62 عاماً) «كشف في روايات مشحونة بعواطف قوية الهاوية الكامنة تحت شعورنا الوهمي بالتواصل مع العالم».
وقال الكاتب لهيئة «بي بي سي»: «إنه لشرف عظيم لأن ذلك يعني خصوصاً أني أسير على خطى أعظم الكتاب الذين عاشوا على هذه الأرض، وهذا تقدير رائع»، مشدداً على أنه «مذهول» بنيله الجائزة.
وأضاف: «العالم في منطقة قلقة الآن، وأتمنى أن تكون كل جوائز نوبل هذا العام دافعاً لأحداث إيجابية. سأشعر بالامتنان العميق إذا ما استطعت أن أكون جزءاً من المجهودات المبذولة لخلق مناخ إيجابي في العالم».
ومن جانبه، علق أندرو موشن، شاعر البلاط السابق في بريطانيا، على فوز إيشيغورو بقوله: «عالم إيشيغورو الإبداعي يتمتع بميزة عظيمة، وهي أنه متفرد جداً، وفي الوقت نفسه مألوف للغاية... إنه عالم من الحيرة والانعزال والترقب والتهديد والاندهاش».
ووصفت الأكاديمية كتابه الأشهر «ذي ريماينز أوف ذي داي» (1989) بأنه «رائعة أدبية»، وقد حول إلى فيلم سينمائي من بطولة أنطوني هوبكينز وإيما تومسون. وقد نالت هذه الرواية جائزة بوكر الشهيرة في عام 1989.

وأكدت سارة دانيوس، الأمينة العامة الدائمة لأكاديمية نوبل السويدية التي تمنح الجائزة: «إذا ما خلطنا بين جين أوستن وكافكا، نحصل على كازوو إيشيغورو، ولكن يجب أن نضيف مارسيل بروست للخليط، مع مزجه بحذر».
ويعد إيشيغورو رقم 29 بين الفائزين بنوبل ممن يكتبون بالإنجليزية، ولكنه يختلف عن معظم الفائزين بجائزة الأدب في أنه يتمتع بأسلوب قريب للقارئ، فهو نادر في أنه محبوب من القراء وناجح تجارياً، كما أنه يحظى بتقدير النقاد في آن واحد. وقد تحولت كتبه لأفلام سينمائية وحلقات تلفزيونية في وطنه اليابان.
ومن جانبه، قال سوني مهتا، رئيس التحرير بدار نوبف، الناشر لأعمال إيشيغورو، إن الكاتب «لديه تنوع كبير ومدهش، كما أنه يتعامل مع مواضيع جادة جداً، مثل الذاكرة وفقدانها، والحب والحرب، بتحكم كامل».
وقد لد إيشيغورو عام 1954 في ناغاساكي اليابانية، التي اجتاحتها القنبلة النووية عام 1945، وانتقل في عام 1960 وهو في سن الخامسة إلى بريطانيا بسبب دواعي عمل والده، عالم المحيطات. وتعكس أعماله هذه الثقافة الثنائية.
وتدور أحداث روايته الأولى «إيه بايل فيو أوف هيلز» (1982)، والثانية «آن آرتيست أوف ذي فلوتينغ وورلد» (1986)، في ناغاساكي، بعد سنوات قليلة على الحرب العالمية الثانية.
وأوضحت الأكاديمية أن «المواضيع التي يرتبط بها اسم إيشيغورو حاضرة منذ البداية: الذاكرة والزمن والتوهم الذاتي»، وأضافت: «يبرز ذلك خصوصاً في أحدث رواية له (ذي ريماينز أوف ذي داي)»، وأكدت أن «كتابات إيشيغورو مطبوعة بأسلوب تعبير مكبوح بعناية، ومستقل عن الأحداث المختلفة الدائرة».
وأصدر إيشيغورو 8 كتب، وأعد سيناريوهات أفلام ومسلسلات تلفزيونية، وصدر آخر أعماله عام 2015، وهو بعنوان «ذي باريد جاينت».
وقالت دار النشر التي تصدر أعماله «فابر آند فابر»، في تغريدة: «نحن مبتهجون جداً بفوز كازوو إيشيغورو بنوبل الآداب».
ويجمع إيشيغورو الكتوم بين التأمل الياباني والهدوء البريطاني، وكان يحلم بأن يكون مغني بوب، يؤلف نصوصه على غرار بوب ديلان وليونارد كوهين. وهو يتمتع بأسلوب أدبي من الأجمل بين أبناء جيله، مع أن الإنجليزية ليست لغته الأم.
وقال الكاتب، في مقابلة عام 1989: «أنجذب إلى بيئة ما قبل الحرب وما بعدها لأني أهتم بالقيم والمثل التي تتعرض للاختبار ومواجهة الناس لمفهوم أن مثلهم لم تكن فعلاً ما كانوا يظنون قبل خضوعها لهذا الاختبار».
ويعزز فوز كازوو إيشيغورو هيمنة الكتاب باللغة الإنجليزية على سجل جائزة نوبل للآداب، مع 29 فائزاً، في مقابل 14 يكتبون بالفرنسية.
وقالت دار النشر التي تصدر كتبه في السويد للإذاعة العامة: «كان الأمر غير متوقع بتاتاً. طرح اسمه لفترة طويلة لكن ليس هذه السنة».
وكان اختيار بوب ديلان، العام الماضي، قد أبهج معجبيه، وأثار استياء المحافظين، ولذلك ترقب جزء كبير من النقاد قرار الأكاديمية لأنهم لم يستسيغوا منح الجائزة إلى المغني الأميركي.
فمرة أخرى، أفلتت جائزة نوبل من كتاب وشعراء مخضرمين، من أمثال فيليب روث ومارغريت آتوود وكلاوديو ماغريس وأدونيس وميلان كاندورا وهاروكي موراكامي، فيما أذهلت الأكاديمية العالم باختيارها رمز الثقافة الأميركية المضادة. وقد منحت جائزة نوبل للأدب للمرة الأولى عام 1901، وكافأت في غالبية المرات روائيين من الذكور، في مقابل 14 امرأة فقط، يبلغ متوسط أعمارهم 65 عاماً. وجائزة نوبل للأدب هي الرابعة التي تمنح في موسم نوبل هذه السنة، بعد الطب والفيزياء والكيمياء.
وتمنح الجمعة جائزة نوبل للسلام. ويختتم الموسم بجائزة الاقتصاد، الاثنين.
وتترافق الجائزة هذه السنة مع مكافأة مالية قدرها 9 ملايين كورونة سويدية (نحو 945 ألف يورو).


مقالات ذات صلة

«نوبل السلام» لمنظمة يابانية مناهضة لـ«النووي»

يوميات الشرق توشيوكي ميماكي الرئيس المشارك لمنظمة «نيهون هيدانكيو» (جابان تايمز)

«نوبل السلام» لمنظمة يابانية مناهضة لـ«النووي»

مُنحت «جائزة نوبل للسلام» لعام 2024 لمنظمة «نيهون هيدانكيو» اليابانية المناهضة للأسلحة النووية والمعروفة أيضاً باسم «هيباكوشا».

«الشرق الأوسط» (أوسلو - القاهرة)
أوروبا جائزة نوبل للسلام (رويترز) play-circle 00:46

فوز منظمة «نيهون هيدانكيو» بجائزة نوبل للسلام

فازت منظمة «نيهون هيدانكيو» اليابانية، وهي حركة شعبية من الناجين من القنبلتين الذريتين في هيروشيما وناغاساكي، بجائزة نوبل للسلام اليوم الجمعة.

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
آسيا محمد يونس يحمل باقة ورد لدى وصوله إلى مطار دكا الخميس (أ.ف.ب)

محمد يونس الحائز جائزة نوبل للسلام... رئيساً لحكومة بنغلاديش الانتقالية

أدى محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام، اليمين الدستورية رئيساً لحكومة انتقالية لبنغلاديش، الخميس.

آسيا الخبير الاقتصادي محمد يونس في 2016 (أ.ب)

محمد يونس... «مصرفي الفقراء» الذي ينتظره متظاهرو بنغلاديش

يضغط الطلاب الذين نظّموا الاحتجاجات في بنغلاديش من أجل إشراف محمد يونس -الحائز جائزة «نوبل»- على الحكومة المؤقتة.

«الشرق الأوسط» (دكا)
يوميات الشرق الملياردير الأميركي إيلون ماسك (رويترز)

تقرير: ماسك وأسانج مرشحان لجائزة نوبل للسلام

ذكرت مجلة «بوليتيكو» الأميركية أن رجل الأعمال إيلون ماسك والصحافي جوليان أسانج رشحا لجائزة نوبل للسلام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)