ألبوم أميركي جديد للمغني كروسبي: «دروب في السماء» يعاتب ترمب

غنّى للسلام والحب وضد الحرب والكراهية من نيكسون إلى بوش

ديفيد كروسبي مع ترامب - ألبوم سكاي تريلز - مجموعة من أعمال كروسبي
ديفيد كروسبي مع ترامب - ألبوم سكاي تريلز - مجموعة من أعمال كروسبي
TT

ألبوم أميركي جديد للمغني كروسبي: «دروب في السماء» يعاتب ترمب

ديفيد كروسبي مع ترامب - ألبوم سكاي تريلز - مجموعة من أعمال كروسبي
ديفيد كروسبي مع ترامب - ألبوم سكاي تريلز - مجموعة من أعمال كروسبي

صدر الأسبوع الماضي ألبوم جديد للمغني وكاتب كلمات الأغاني الأميركي ديفيد كروسبي سماه «سكاي تريلز» (دروب في السماء). ربما هذا آخر ألبوم يصدره من كان يسمى «ملك ثورة الروك آند رول» قبل 50 عاماً، وغنى «أغاني الثورة».
وقال كروسبي، في مقابلة إذاعية بمناسبة صدور الألبوم الجديد: «أريد أن أعود». لكن، ربما لن يقدر بسبب كبر سنه، 76 عاماً، وكثرة أمراضه (أدمن المخدرات كل حياته تقريباً).
لا تُذكر أغاني كروسبي، إلا ويذكر ألبومه «دي جافو» (التاريخ يعيد نفسه) الذي أصدره، مع آخرين، عام 1970. باع تقريبا 8 ملايين نسخة. وكان هذا رقماً قياسياً في ذلك الوقت.
اشتهرت أغنيات في ذلك الألبوم، ودخلت التاريخ، لأن تلك الأعوام كانت أعوام المظاهرات ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام، والمظاهرات من أجل حقوق السود، والمظاهرات من أجل حقوق النساء. وكانت أعوام ظواهر اجتماعية مثل: «هيبيز» (متمردون على الأناقة والوسامة)، و«كاونتر كلشر» (ثقافة مضادة)، و«سيكشوال ريفوليوشن» (الثورة الجنسية).
وكانت له 3 أغنيات من الألبوم من ذلك الوقت: الأولى: أغنية «وودستوك» (معسكر لعشرات الآلاف من الشباب والشابات، في اختلاط لم تشهد أميركا مثله). يقول بعض كلمات الأغنية «نحن نجوم كالغبار في السماء. نحن كربون عمره مليون عام. ذاهبون إلى وودستوك. لنغني أغاني روك آند رول. لنصبح أحراراً. لا أعرف من أنا. لكن، الحياة مدرسة...».
الثانية: أغنية «تيتش يور جلدرين» (علِّم أولادك). عن انتشار الأسلحة النووية في ذلك الوقت. يقول بعض كلمات الأغنية: «أيها السائر على الطريق. يجب أن تؤمن بشيء يقودك على الطريق. يجب أن تعلِّم أولادك شيئاً يقودهم على الطريق. انظر إليهم في أعينهم، وتنفس نفساً عميقاً. وتأكد أنهم يحبونك...».
الثالثة: أغنية «أوار هاوس» (منزلنا). عن الثقافة المضادة، وتفضيل الحياة البسيطة على حياة الترف. يقول بعض كلمات الأغنية: «أنتِ تضعين الزهور في المزهرية، وأنا أوقد نار المدفأة. أنتِ تغنين طول اليوم، وأنا أستمع إليك. كل شيء جميل هنا. الغرفة دافئة، والشمس تسطع. منزلنا جميل. كانت الحياة قاسية. لكنها صارت الآن سهلة وبسيطة...».
هكذا، قبل 50 عاماً، غنى كروسبي للسلام، والحب، وضد الحرب والكراهية. ولا يزال. وغنى للسلام خلال سنوات الرئيس السابق بوش الابن (بعد إعلان «الحرب ضد الإرهاب»، وغزو أفغانستان، وغزو العراق). وفي عام 2006. دعا، مع أعضاء فرقته خلال حفل غنائي كبير، بوش ليستقيل. (صفّق لهم حاضرون، وعبّر آخرون عن عدم رضاهم).
وفي الأسبوع الماضي، تحدث عن هذا الموضوع غراهام ناش، زميل كروسبي خلال 50 عاماً، وغنى معه أغاني الثورة.
قال ناش لصحيفة «ديلي تايمز»، في ميريفيل (ولاية تنيسي)، حيث تقاعد (عمره 75 عاماً): «في ذلك الوقت، كنا ضد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام. وكنا مع حقوق السود. وكنا مع حقوق النساء».
سأله الصحافي: هل يوجد شبه بين تلك الأيام وهذه الأيام؟
أجاب: نعم، ولا. كان الوضع أسوأ في ذلك الوقت. كانت هناك التفرقة العنصرية وعدم احترام السود. وكانت هناك التفرقة ضد النساء، وعدم احترامهن. نعم، كان الرئيس نيكسون هو سبب المصائب، لكنه، على الأقل، كان رجلاً عاقلاً. انظر الآن، يحكمنا رجل «مجنون»، ولحسن الحظ أو سوء الحظ، لا أدري، ها هو يواجه رجلاً مجنونا مثله (كيم، رئيس كوريا الشمالية)».
في عام 2006، غنى الرجلان (كروسبي وناش) ضد حرب العراق.
وفي عام 2010. غنيا تأييداً لجوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليس» (بعد أن نشر وثائق البنتاغون عن حرب العراق).
وفي عام 2016، غنيا تأييداً لجلسي ماننغ (كان جندياً في العراق، وسرب وثائق البنتاغون إلى «ويكيليكس». مؤخراً تحول من رجل إلى امرأة). ولكن أخيراً، تحدث كروسبي في إذاعة «إن بي آر» (شبه حكومية) عن الألبوم الجديد. وغنى بعض «أغاني الثورة».
سألته المذيعة: ماذا عن الآن (قصدت التوتر السياسي والعرقي والديني في عهد الرئيس ترمب)؟ أجاب: «كل ساعة، تصلني رسالة في صفحتي في (فيسبوك) تسأل: متى ستعود إلى أغاني الثورة؟».
وأضاف: «أريد»، لكن، «حيلتي ضعيفة». ويبدو أنه يريد أن يودّع هذه الحياة الدنيا، وأن هذا آخر ألبوم له، وأنه يعرف ذلك، ويبدو أنه، لهذا، غنى أغنية «أولموست صن سيت» (غروب الشمس تقريباً)، وهي واحدة من أغاني الألبوم الجديد.
يقول بعض كلمات الأغنية: «اخترت أنا هذه الحياة. ربما كان اختياري خطأ. لكن، اخترت أنا هذه الحياة. خيراً، أو شراً».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)