الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

قراءة في كتاب «الجهاد والموت» لأوليفيه روا

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
TT

الشباب و«ردكلة» الإسلام المعاصر

سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)
سيدة تضع باقات من الورود على أرواح ضحايا الهجوم الإرهابي الذي نفذه محمد مراح والذي قتل حاخاماً وثلاثة أطفال في مدرسة يهودية بمدينة تولوز عام 2012 (أ.ف.ب)

تقدم السجالات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، التي يخوض فيها الإعلام الغربي والفرنسي منه على وجه الخصوص، زوايا للنظر في الموضوع، من حيث الأصول والأسباب وطرق محاربة تنامي الإرهاب، ومسه باستقرار الدول الأوروبية. ويبدو أن الحضور القوي لهذه الإشكالية التي تنتشر وسط الجيل الثاني من الشباب المسلم، أو المتحول للإسلام في الغرب، أصبح أولوية علمية؛ حيث لم يعد الاهتمام بهذه الإشكالية الجديدة مقتصراً على النخب السياسية المستغلة لها قصد ربح الأصوات. بل أصبح للنخب الأكاديمية صوتها العالي وسط سجال مطبوع بالرمزية الثقافية وتضارب المصالح الآيديولوجية خصوصاًَ مع صعود اليمين وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.
ومن القامات الأكاديمية الكبيرة في فرنسا التي تثير أطروحاتها جدلاً واسعاً وسط مراكز البحث والجامعات ورجال السياسة، نجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية أوليفيه روا. ذلك أن الباحث راكم خبرة تخصصية عالمية في الظاهرة الإرهابية وتنظيمات الإسلام السياسي، وصدرت له مؤلفات عدة، منها «الجهل المقدّس»، و«الإسلام والعلمانية»، و«تجربة الإسلام السياسي»، والكتاب المشهور «أوهام 11 سبتمبر»، و«عولمة الإسلام»، وكتابه الأخير «الجهاد والموت... النداء العالمي للدولة الإسلامية» الذي صدرت نسخته العربية «منتصف» سنة 2017 عن دار الساقي وترجمة صالح الأشمر.
وسيرا على عادته البحثية، قدم أوليفيه روا أطروحة متميزة خاصة، لتفسير ظاهرة تنامي الإرهاب في فرنسا والغرب، وسط الجيل الثاني المسلم والمتحول للإسلام. ومنذ البداية كشف أستاذ العلوم السياسية عما يعتبره الإشكالية الحقيقية للموضوع، معتبرا أن ربط قضية «الجهاد» بأحداث الشرق الأوسط والماضي الاستعماري، لا تصمد أمام الحقيقة الإمبريقية للبحث في سر التحول الواقع وسط الجيل الثاني من المسلمين المحبطين في الغرب. فالتغير الواقع هنا، ليس دينيا، ولا يرتكز أساسا على «العقيدة الدينية»، وإنما يتعلق بالسياسة، والتموقف من الواقع المعيش داخل المجتمعات الغربية، التي أصبح فيها الشباب المسلم مواطنا بالانتماء والولادة، ومغتربا في واقعها الذي يلفظه.
- إشكالية الموت والجهاد
علينا أن ندرك أولا، أن التحولات السوسيو - سياسية التي أفرزت الجيل الثاني من المسلمين ليست تطورا خطيا لارتباط شرطي بين الدين والإرهاب، وأن الربط بين الطرفين الذي تقوم به المقولات البحثية لبعض المختصين الغربيين في تنظيمات الإسلام السياسي هو مجرد تعبيرات جديدة عن الاستشراق القديم، وأن تقليديتها وعدم صلاحية هذه المقولات تتجلى في ارتكازها على كون السلفية، وتنامي التدين هو وراء الظاهرة الإرهابية في الغرب والشرق الأوسط.
بالنسبة لأوليفيه روا، فالأمر يحتاج إلى مقاربة تفسيرية عميقة، لمعرفة سر التحول نحو الراديكالية والعنف المثالي الذي يختزل الحياة في الموت الانتحاري. ولماذا يتحول أكثر من ألف و300 شاب فرنسي مراهق، ونحو 3 آلاف من المشتبه بهم، إلى صفوف تنظيم داعش الإرهابي، نافضين وراءهم الحياة الاجتماعية التي ولدوا فيه وتلقوا قيمها؟
ولبسط أطروحته يقول روا في هذا السياق: «يزعم أحد الباحثين أنني تجاهلت الأسباب السياسية للفوران، وأساسا الإرث الاستعماري والتدخّلات العسكريّة الغربية ضد شعوب الشرق الأوسط والإقصاء الاجتماعي للمهاجرين وأبنائهم. ومن الجهة المقابلة، تمّ اتّهامي بإهمال الرابط بين العنف الإرهابي وردكلة الإسلام من خلال السلفيّة بوصفها التأويل الأكثر محافظة للدّين. والحقّ أنني على وعي كامل بهذه الأبعاد، لكنني أقول ببساطة إنّها غير كافية لتفسير الظاهرة التي ندرسها، لافتقادها رابطا سببيا بالمعطيات الإمبريقية المتوفرة لدينا».
من الواضح كذلك أن الإرهاب الانتحاري، وإن كان يعبر عن راديكالية عدمية، فإنه لا يمنح تنظيم داعش خاصية التميز والتوحش. فمن زاوية التأريخ، فمقاتلو الحركة الانفصالية في سريلانكا «نمور التاميل» أول من استعمل الحزام الناسف منذ الثمانينات، قبل أن تتبناه «الجماعات الجهادية»؛ «القاعدة» و«داعش»، وتنقله «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية للتراب الفرنسي في عملية نفذها خالد كلكال سنة 1995.
من جهة أخرى، لا بد من تجاوز الخلط القائم بين التاريخ والواقع الحالي، وعلاقة التأثير والتأثر، بين أحداث الماضي وواقع الجيل الثاني المسلم أو المتحول للإسلام في الغرب اليوم. فأطروحة روا، ترى القول بأن «الراديكالية ناتجة عما مورس ضد المسلمين المستعمرين سابقاً، أو ضحايا العنصرية أو أي شكل آخر من أشكال التمييز، أو القصف الأميركي، أو استعمال الطائرات من دون طيار، أو ظاهرة الاستشراق… إلخ، - ترى الأطروحة - أن كل ذلك يؤكد ضمنا أنّ الثورة يقودها الضحايا، لكن العلاقة القائمة بين الراديكاليين والضحايا خياليّة أكثر مما هي في حقيقة الواقع».
علينا أن نميز ثانيا، بين الإسلام وموقفه من القتال، وظاهرة «أسلمة الراديكالية»، فالربط هنا يبسط الأمور، ويمنحها طابعا آيديولوجيا يتهم الإسلام بالإرهاب، فيما يطلق عليه الغرب بـ«الإرهاب الإسلامي». وحتى ولو ربطنا الموضوع بالموجة الأصولية الحالية المتنامية منذ 40 سنة، فإن ذلك لا يقدم تفسيرا علميا لما نشهده من ردكلة للإسلام، واستدعائه بشكل جذري، ومسيس وسط الشباب المسلم بالغرب.
ما أطرحه يقول الخبير روا «هو أنّ الردكلة العنيفة ليست نتيجة الردكلة الدينية، حتى ولو سلكت في كثير من الأحيان الدروب نفسها أو استعارت النماذج نفسها. فالأصولية الدينية موجودة بالطبع، وهي تطرح مشكلات اجتماعيّة معتبرة، لأنّها ترفض القيم المؤسسة على الخيار الفردي والحرية الشخصية، لكنها لا تقود ضرورة إلى العنف السياسي».
هناك من يحاول تفسير ظاهرة «أسلمة الراديكالية»، بمبررات اقتصادوية طبقية، ناتجة عن الثقافة العلمية للقرن التاسع عشر الميلادي، وهناك من يعطي للاغتراب والفشل الدراسي مكانة مركزية في التفسير. غير أن روا، ينتقد هذا الاختيار المنهجي، ويستند إلى مؤشرات رقمية وواقعية، حيث يعتبر أن «الذين ينفذون الهجمات في أوروبا ليسوا من قطاع غزة أو ليبيا أو أفغانستان، وليسوا بالضرورة الأكثر فقراً، والأكثر إهانة أو الأقل اندماجا اجتماعيا. فربع الجهاديين الذين تحولوا للإسلام حديثا وبعد ذلك أصبحوا جهاديين لا يمكننا الرابط بين راديكاليين و(شُعبهم) العلمية في الدراسة، بالعكس يعد ذلك الربط مجرد بناء خياليّ».
إن ما يجمع هؤلاء المتشددين في الحقيقة هو البحث عن قضية سياسية، تسهل استدعاء الدين، وممارسة الراديكالية والتمرّد باسمه على المجتمع وقيمه. فهؤلاء الإرهابيون لم يتخرجوا في المدارس الدينية الرسمية، ولا يعتبرون من مخرجات الخطاب الديني الرسمي، ولا هم نتاج تأطير للجماعات الإسلام السياسي المعروفة، ولجمعياتها المدنية في فرنسا والغرب. بل إن هذا الجيل الثاني، كيان مستقل عن ذلك كله، وعن «مؤسسة المسجد» وما يدور في فلكها، وهذه الاستقلالية في الحقيقة هي اختيار سياسي معزول عن السياق الديني الراسخ، والمعروف عند الأسرة والمجتمع والثقافة الإسلامية الأصيلة، التي انتقلت في الغرب من جيل إلى جيل، ونشهد اليوم نوعا من القطيعة المؤقتة بسبب «ردكلة الإسلام»، الذي يمثل «داعش» الحضن الرسمي له، من الناحية السياسية والدينية.
غير أنه يجب الإدراك أن هذه الموجة من الراديكالية الانتحارية هي مؤقتة، وأنها تستند إلى نمط من الإرهاب الانتحاري، الذي سيتغير مع تطور الزمن والواقع، وقد نشهد قريبا أشكالا أخرى من الممارسات «العنيفة»، أكثر «عقلانية» غير العمليات الانتحارية، بسبب تطور الأوضاع القائمة حاليا. ولو رجعنا للوراء لفهم هذا السلوك لوجدنا أن العقدين الأخيرين يمدان الباحث بنماذج كثيرة آخرها في منتصف غشت 2017، حيث شن 15 من الشباب هجوما إرهابيا بأسلوب الدهس بسيارة بمدينة برشلونة أسفرت عن مقتل 13 شخصا وإصابة أكثر من 100، وهجوم بلدة كامبريلس ومقتل شخص وإصابة 6 آخرين، كما سقط قتيل وأصيب 7 في الانفجار الذي وقع في مدينة الكانار.
وبالرجوع للتاريخ، نجد أن خالد كلكال في تفجير قطارات باريس عام 1995، وعملية محمد مراح، الذي قتل حاخاما وثلاثة أطفال في مدرسة يهوديّة بمدينة تولوز عام 2012، والشباب الذين قتلوا في هجوم مسرح الباتاكلان عام 2015، والهجوم المروع بباريس سنة 2016، أحداث كلها تؤكد أن جل الإرهابيين في فرنسا وأوروبا إما يفجرون أنفسهم وإما يقاومون إلى الموت، وهو ما يجعل من الموت مرجعية وغاية نهائية في «صفوف المتطرفين الملتحقين بتنظيم داعش، حيث ينظرون إلى الهجمات الانتحاريّة على أنّها الهدف النهائي لانخراطهم فيه».
- خلاصة
نشير في النهاية أن الخبير أوليفيه روا استفاد تحليليا من طرح المفكر الفرنسي الكبير أندريه مالرو، الذي سبق له وكتب عن البعد العدمي في فكر الشباب الأوروبي، حيث كتب مالرو يقول: «ما هو مصير هذا الشباب العنيف، الذي يحمل سلاحه ضد نفسه، والذي تحرر من كبرياء يجعله يسمى عظمة احتقاره لحياة لم يعد يعرف كيف يرتبط بها؟»
وربما هذه الاستفادة الفكرية هي التي دفعت بأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأوروبية روا، إلى لخلاصة مهمة تختصر أطروحته، ورؤيته لتنامي ظاهرة شبابية انتحارية، تسعى بكل قوة لـ«أسلمة الراديكالية»، حيث يقول إن «تنظيم (داعش) لم يخلق الإرهاب بل هو ينهل من معين موجود بالفعل. وتكمن عبقريّة (داعش) في الطريقة التي يزود بها المتطوعين بإطار مخيالي سردي يمكّنهم من تحقيق تطلّعاتهم. ومن الأفضل للتنظيم أن يكون متطوّعوه للموت... من ذوي الارتباط الضعيف بالحركة، لكنّهم مستعدّون لإعلان ولائهم حتّى تغدو أعمالهم الانتحاريّة جزءا من سرديّة عالميّة».
- جامعة محمد الخامس - الرباط


مقالات ذات صلة

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.