سميحة أيوب لـ«الشرق الأوسط»: الشيخ الشعراوي حضر إلى المسرح القومي ودعا لنا

سيدة المسرح العربي تصدر الطبعة الرابعة من «ذكرياتي»

سميحة أيوب مع الفنان محمد هنيدي في أحد أعمالها
سميحة أيوب مع الفنان محمد هنيدي في أحد أعمالها
TT

سميحة أيوب لـ«الشرق الأوسط»: الشيخ الشعراوي حضر إلى المسرح القومي ودعا لنا

سميحة أيوب مع الفنان محمد هنيدي في أحد أعمالها
سميحة أيوب مع الفنان محمد هنيدي في أحد أعمالها

«لست أدري من أين أبدأ؟ هل من البدايات؟ وهل ما أكتب سيجد صدى عند القارئ؟ المهم... إنني منذ عشرة أعوام وأنا أقول لنفسي: من بعد إلحاح الآخرين كتاباً وشعراء وصحافيين وفنانين عليَّ أن أكتب مذكراتي في المسرح والحياة، ولكني أحب أن أسميها (ذكرياتي) لأنني لا أؤرخ باليوم والساعة، ولكنها ذكريات، ربما هناك في الذاكرة تواريخ أستطيع أن أدونها والباقي في الأعماق والذاكرة، ولو أن الذاكرة يمكن أن تسقط أحداثاً وأعتقد أن الذاكرة يمكن أن تسقط أشخاصاً أيضاً»، بهذه الكلمات قدّمت سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب لكتابها «ذكرياتي» الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 2003، وصدرت الطبعة الرابعة منه أخيراً.
عند الحديث مع فنانة بحجم وقَدر وقامة سميحة أيوب، فإن الكلمات تأخذ منحى آخر... إنها ليست إنسانة عادية أو فنانة بسيطة، هي إنسانة مثقفة من طراز رفيع عزّ وجوده هذه الأيام، تعرف قيمة الكلمة والفن في المجتمع، لأنها تعلم يقيناً أن الثقافة هي التي تبني البلاد وتبني المواطن... هي تاريخ طويل وحافل بإنجازات فنية ربما لا نجد لها نظيراً آخر... تربعت على عرش المسرح العربي في أزهى عصوره، فترة ستينات القرن الماضي... تلك الفترة التي كانت فترة الإبداعات والتقدم في المسرح، وكان هناك كوكبة من المبدعين كتاباً ومخرجين وممثلين، منهم كرم مطاوع وسعد أردش وحمدي غيث وكمال ياسين ومحمود دياب، وسعد الدين وهبة وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، وغيرهم كثير من كبار الكتاب الذين صنعوا محتوى ثقافياً فكرياً نادراً، ما زلنا نعيش على نجاحاته وكان هو الأساس في النهضة المسرحية العربية.
دخولها إلى عالم الفن جاء عن طريق الصدفة، حسبما رَوَتْ سيدة المسرح العربي خلال حوارها مع الإعلامي أحمد مختار ببرنامج «ليالي العيد» المذاع عبر القناة الأولى المصرية، وفي مذكراتها، عندما ذهبت مع إحدى صديقاتها إلى معهد الفنون المسرحية لترافقها فقط دون أن تقدم: «كنتُ في حصة الألعاب والمدرّسة لم تأتِ وكانت إحدى صديقاتي تريد التقديم في المعهد، فذهبنا خلال حصة الألعاب... أنا رحت بمريلة الألعاب وصديقتي كانت لابسة و(متشيكة) لأني كنت رايحة مش للتقديم، لكن زائرة فقط».
وأضافت: «وكان هناك الأستاذ زكي طليمات في فريق الاختبار، وكان (قرفان مني أوي)، وشخص آخر (كان مبسوط)، فالأخير قال لي: (أنتِ يا شاطرة إحنا خلصنا واسمك مش موجود)... فقلت لهم: (أنا زائرة مش جايا أمتحن).. فقال لي: (تحبي تمثلي؟)، فقلت له: نعم... فقال لي: (زي مين)، فقلت: (زي ليلى مراد، ويوسف وهبي)... فكل الترابيزة ضحكت لأن يوسف وهبي كان في فريق الاختبار وأنا مش عارفة».
وعندما طلبوا منها تأدية شيء، بكت بشدة ولم تستطع، ولأن عمرها لا يؤهلها للالتحاق بالمعهد (14 سنة)، قُيّدت مستمعة إلى حين تتم 16 سنة... وخلال ذلك الوقت تجاهلها تماماً زكي طليمات، وذات مرة طلب منها أحد الأعمال لتقدمها في اليوم التالي، وفي الغد قدمت ما طلبه منها فأعجب بها، واستطاع الحصول على استثناء لها من وزير المعارف لتصبح نظامية وتحصل بعد ذلك على 6 جنيهات... بعد ذلك أصبح زكي طليمات أستاذها الذي تدين له بالفضل الأكبر في تفجير الجانب الإبداعي والحسي لها، واستطاع أن يأخذ بيدها ليرى إبداعُها النورَ، لتصبح فيما بعد من أهم أعلام المسرح العربي.
بداخلها طاقة فنية كبيرة وعطاء فني لا ينضب... فهي صاحبة رصيد مسرحي يصل إلى 170 مسرحية، كما أنها تكاد تكون - إن لم تكن - الفنانة العربية الوحيدة التي وصلت إلى عالمية المسرح، حيث قدمت 5 مسرحيات مع مخرجين من ألمانيا وروسيا وإنجلترا وفرنسا... كما وقفت على خشبة المسرح الفرنسي.
أدارت المسرح القومي لمدة 14 عاماً، وهذه أطول مدة لمسرحي أدار فيها المسرح القومي، ولشعورها بأن هناك الكثيرين من المسرحيين يحلمون بهذا المنصب، قدمت استقالتها، لإتاحة الفرصة لآخرين، وكان من أهم ما قدمت في فترة رئاستها مسرحيات «فيدرا» و«أنطونيو وكليوباترا» و«رابعة العدوية» و«الأستاذ»... وبكلمات للشاعر فاروق جويدة اختزلت سميحة أيوب المواقف، حيث قالت في أثناء كلمتها بعد تكريمها من قبل وزارة الثقافة بعد تقديمها للاستقالة عام 1987: «المنصب قد يصنع بطلاً بين الأقزام، ويضيع المنصب في يوم وتدوس علية الأقدام».
ولو كانت أيقونة المسرح العربي تقدم أعمالاً هزلية للتسلية أو للهو، أو أعمالاً عادية كغيرها، لما قال عنها الشيخ أحمد حسن الباقوري، وزير الأوقاف المصري الأسبق، وأحد علماء الأزهر الشريف، بعد مشاهدته فيلم «فجر الإسلام»: «أحب اللغة العربية وهي تخرج من فم سميحة أيوب»، وما كان فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، ليحضر عرض مسرحية «دماء على ستار الكعبة» في المسرح القومي، عام 1987م، إلا تقديراً منه للفن الرفيع الراقي، فقد فوجئ جميع العاملين في المسرحية بوجوده في الصف الأول للجمهور، وأثناء إغلاق الستار سمع الفنان يوسف شعبان دعاء الشيخ الشعراوي: «ربنا يكرمك يا يوسف يا شعبان ربنا يكرمك يا سميحة يا أيوب». وبعد انتهاء العرض قال لها: «ربنا يبارك لكم ويبارك فيكم... وتقدمون أعمالاً تفيد الإنسانية وتنفع الناس».
وها هو جان بول سارتر، فيلسوف فرنسا الأشهر عندما أتى إلى مصر... ماذا كانت ردة فعله عندما رآها على المسرح... نترك مذكراتها لتقول:
«جاء سارتر إلى مصر بدعوة من جريدة (الأهرام) وكان المسؤول عن الدعوة الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير (الأهرام) في ذلك الوقت... وقالوا لي: سوف نغلق مسرحية (الإنسان الطيب) في يوم مجيء سارتر، لأنها معروضة خصيصاً له، فرفضت إغلاق المسرح، وقلت: لا، سوف أعمل في (الندم) الماتينيه، وأذهب إلى سواريه (الإنسان الطيب).
وجادلني كثيراً في هذه الجزئية أستاذنا الكبير توفيق الحكيم الذي كان يشعر ساعتها أنه أنجبني وأنني ابنته التي يفتخر بها، وقال لي: (ليه يا سميحة، دي ليلة عرسك، يجب أن تقضيها مع ضيوفك، ونحن أقمنا حفلاً كبيراً بهذه المناسبة وأنتِ العروسة)... فقلت له: اعذرني، وفي زميلاتي وزملائي الكفاية، لأنني لا أستطيع أن أغلق ليلة في مسرح كامل العدد».
«وآه، لو كان يعلم أنني أردت أن أذهب فوراً بعد الماتينيه الذي سيحضره سارتر حتى أتجنب أي نقد أو وقاحة، كما قال كلود استيه، ويوم العرض وأنا أسوق عربتي، وفي طريقي إلى المسرح، قلت في نفسي: (يعني إيه سارتر، لقد عرضت هذه المسرحية لجمهور بلدي مصر، وقد أعجب بها هذا الجمهور أشد الإعجاب، فما قيمة سارتر إذا أعجبته أم لم تعجبه؟).
وجاء مدير المسرح يقول لي: اتفضلي يا مدام، ويا للهول، على رأي يوسف وهبي، أصابني الهلع لدرجة أنني كنت أسمع دوي دقات قلبي، ودخلت إلى خشبة المسرح، مشهد لم تره عيني من قبل، وأزعم أنها لن تراه أبدا بعد ذلك… المسرح مكتظ بالمثقفين والمسؤولين والصحافيين، ولا موضع لقدم من أعلى التياترو إلى الوقوف في الترهات حتى وصل الزحام إلى خشبة المسرح.
وجسدت دوري كما جسدته من قبل، وانتهى العرض، وإذا بسارتر وسيمون دي بوفوار يصعدان إلى المسرح، وسارتر يقبلني ويقول لي: (أخيراً وجدت إليكترا في القاهرة)».
تعتبر مرجعاً مهماً لا غنى عنه لمن أراد أن يدرس تاريخ المسرح العربي، ولطلاب معاهد التمثيل في أرجاء الوطن العربي، ولما تحظى به من شعبية عربياً ودولياً، رسمياً وشعبياً، خصص ملتقى «بصمات الفنانين التشكيليين العرب» في دورته الثالثة عشرة، يوم 2 يوليو (تموز) الماضي، الذي نظمه أتيليه القاهرة ومؤسسة «استراكا للفنون» بمشاركة 400 فنان مبدع من جميع الدول العربية، ميدالية باسم الفنانة سميحة أيوب والفنان عبد العزيز التميمي والفنان الراحل جواد سليم، وكان من ضمن اللوحات، لوحة لسيدة المسرح العربي بريشة الفنان العراقي وليد السماوي.
> سألناها أين المسرح الشعري الآن؟
- لا يوجد شيء، لا يوجد شيء... المناخ العام في العالم كله مرتبك، وعندما يستقيم العالم فسيستقيم المسرح، فالمسرح مرتبط بما حوله، من اقتصاد، واجتماع، وثقافة، يتأثر ويؤثر، مثل الأواني المستطرقة.
> بعد غياب دام أكثر من 40 عاماً عادت سميحة أيوب للسينما 2012، من خلال دور كوميدي مع محمد هنيدي وإيمي سمير غانم وباسم سمرة في فيلم «تيتة رهيبة»... هل غيرتِ رأيكِ بعدما كنتِ ترفضين العمل في السينما؟
- كنت أرفض العمل في السينما لعدم وجود أدوار تناسبني، كما أن ما كان يُعرض علي لم يكن يتناسب معي، وقد قبلت العمل في «تيتة رهيبة»، لأنني غيرت رأيي، فالإنسان الذي لا يغير من آرائه يصاب بالجمود، كما أني وجدت أن الفيلم يقدم رسالة تربوية مهمة للغاية يمكن أن نقدمها.
> من «فجر الإسلام» إلى «تيتة رهيبة»؟!
- ولمَ لا؟... طالما العمل جيد ومكتوب بشكل ممتاز والعمل يناسبني، اقتنعتُ به ورجعت عن رأيي، خصوصاً أنه يقدم رسالة، كما قلت.
> معنى كلامك أنكِ من الممكن أن تشتركي في فيلم من بطولة محمد رمضان؟
- أنا لا أحدد أو أقيّم أشخاصاً بأعينهم، فأنا أقيّم العمل الفني ككل، وهذا سبب قبولي الرجوع إلى السينما، فإذا عُرض علي فيلم جيد ووجدت فيه ما وجدته في «تيتة رهيبة» فلِمَ لا؟
> ما هي أقرب الشخصيات إلى قلبك؟
- كثيرة، لا أستطيع أن أحدد شخصية بعينها.
> زاركم فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في المسرح القومي وحضر عرض مسرحية «دماء على أستار الكعبة» ودعا لكم... ماذا تغير في فكر الناس؟
- حضر الشيخ الشعراوي عرض مسرحية «دماء على أستار الكعبة»، وقال لنا بالحرف: «ربنا يبارك لكم ويبارك فيكم... وتقدمون أعمالاً تفيد الإنسانية وتنفع الناس»... وجاء تقديراً منه للفن الراقي الذي نقدمه، ولو كنّا غير ذلك لما حضر... والفن الراقي يقدره الجميع، المتدينون عن علم وفهم صحيح للدين، وغير المتدينين.
> هل تغيرت نظرة الناس للفن؟
- بالطبع، تغيرت كثيراً، في السابق كانت الأهالي والأسر الكبيرة تمنع أبناءها من دخول عالم الفن، وأنا عانيت كثيراً لدخولي المعهد، أما الآن فقد تغير الحال كثيراً، وتغيرت النظرة إيجابياً للفن والفنانين.
> وقف الفنان القدير جميل راتب على خشبة المسرح الفرنسي كثيراً، وكذلك الراحلة العظيمة سناء جميل، إلا أنكِ تكادين تكونين الفنانة الوحيدة التي عملتِ مع مخرجين عالميين كثيرين، حدثينا عن تلك التجربة...!
- نعم، قدمت خمس تجارب لمسرحيات عالمية، من إخراج مخرجين من ألمانيا مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية»، وروسيا مسرحية «أونكل فانيا»، وإنجلترا «أنطونيو وكليوباترا» مع المخرج الكبير فيرنر بوس وهو مخرج إنجليزي معروف، وفرنسا عرضت مسرحية «فيدرا» التي قدمتها على أكبر مسارح باريس، ولاقت نجاحاً منقطع النظير، جماهيريّاً وإعلاميّاً، وحضر العرض الكاتب السياسي الكبير محمد عودة، وكان معه الأخضر الإبراهيمي، السياسي العربي الجزائري، وأكد لي أنه كان فخوراً. كل هذه التجارب كانت تجارب عظيمة.
> مسلسل «سمارة» وهو من أروع ما قدمتِ وقدمت الإذاعة المصرية... ما مدى نجاحه في فترة إذاعته؟
- لو لم ينجح نجاحاً كبيراً لما أُنتِج سينما، نجاح المسلسل الإذاعي هو السبب في أن يتحول سينما، فقد كانت الشوارع تخلو من الناس في وقت إذاعته عصراً كل يوم.


مقالات ذات صلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق المخرج محمد سامي في جلسة حوارية خلال خامس أيام «البحر الأحمر» (غيتي)

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

تعلَّم محمد سامي من الأخطاء وعمل بوعي على تطوير جميع عناصر الإنتاج، من الصورة إلى الكتابة، ما أسهم في تقديم تجربة درامية تلفزيونية قريبة من الشكل السينمائي.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».