جنيفر لورنس لـ«الشرق الأوسط»: لم أمثّل في حياتي فيلماً بهذه القتامة

الأرض ومشاكلها محور فيلم «أم»... والنقاد منقسمون حوله

جنيفر لورنس  -  لقطة من «أم!» - تجربة جنيفر لورنس القاسية
جنيفر لورنس - لقطة من «أم!» - تجربة جنيفر لورنس القاسية
TT

جنيفر لورنس لـ«الشرق الأوسط»: لم أمثّل في حياتي فيلماً بهذه القتامة

جنيفر لورنس  -  لقطة من «أم!» - تجربة جنيفر لورنس القاسية
جنيفر لورنس - لقطة من «أم!» - تجربة جنيفر لورنس القاسية

قبل أن يسمّـي المخرج دارن أرونوڤسكي فيلمه الجديد بـ«أم!» (مع علامة تعجب) حمل السيناريو عنواناً مختلفاً هو «اليوم السادس». هذا العنوان إنجيلي يتطابق وما يستند إليه الفيلم من استعارات ومضامين دينية، لكن المخرج اختار تغيير العنوان دون أن يتدخل لتغيير المضمون، واكتفى بالبحث عن اسم يرمز إلى عنصر آخر من عناصر الفيلم المثارة وهو الأرض. فالأم هنا هي الأرض التي نعيش فوقها. المنزل هو الدنيا ونحن (الجمهور لنحو ساعتين محبوسون داخلها مع أربع شخصيات، كل منها تحمل دلالة وشخصية جنيفر لورنس هي تلك التي تمثل «أمنا الأرض»).
عندما عرض الفيلم في مهرجان ڤينيسيا الأخير استًقبل بانقسام ملحوظ في الآراء، وهذا تكرر في مهرجان تورونتو وفي الصحافة عموماً. هناك من وصفه بـ«الفيلم الرائع» وهناك من وجد أن لا شيء في الفيلم «يعني شيئا منطقياً».
يدور الفيلم حول زوجين (على الأرجح) يعيشان في منزل قديم. ويقدمهما المخرج بلا أسماء. هو شاعر حقق نجاحاً محدوداً، لكنه يعاني الآن إفلاسا فكريا. هي دائماً مشغولة بإصلاح البيت وتجديده. كلاهما مرتبط بالعيش فيه، لكن علاقتهما الفعلية بين بعضهما بعضا محدودة.
فجأة يدخل حياتهما رجل وامرأة آخران يشاطرانهما العيش. هو يرحب بالفكرة وهي تخشاها ولا تتأقلم معها. الأزمات تتفاعل وتتصاعد من هذا الوضع. جنيفر لورنس تلعب دور المرأة التي بلا اسم، لكنها المقصودة بكلمة «أم». في الفيلم كل تلك التداعيات التي اشتهرت بها أفلام أرونوڤسكي، الذي كان تطرق للموضوع الديني قبل عامين عندما أخرج «نوح» الذي فشل فنياً وتجارياً. لا يهم كثيراً ما يفكر المخرج به. المهم أكثر أنه ينشغل بتطريزها على نحو يجعل الوقع المنشود حاضراً لذاته وليس موحياً به. بذلك هو فيلم ينحو، في ثلثه الأخير، نحو الرعب، لكنه يفشل منذ البداية في تقديم ما ينتمي إلى المخرج ذاته.
رغم أن جنيفر لورنس هي اختيار المخرج لتكون معبراً للصدمات (ما يفسر السبب في تصويرها ملتاعة طوال الوقت)، إلا أنها تبقى بنجاح عنوان الفيلم الفعلي رمزياً وفعلياً. «الشرق الأوسط» التقت جنيفر لورنس التي تحدثت عن رؤيتها لموضوع الفيلم ولماذا قامت بتمثيله، وفيما يلي نص الحوار:

> موضوع هذا الفيلم صعب ومشاكس للإيمان. ماذا كانت ردة فعلك الأولى عندما قرأت السيناريو؟
- كرهته. ذعرت. أردت أن أرمي السيناريو خارج المنزل. خطر لي أنه فيلم شيطاني. خفت منه. لكني فكرت أن هذه هي رؤية المخرج، وأن عليّ أن أدافع عن حريته في التفكير. كنت أعلم أنه فيلم داكن ومهين، لكنني وجدت نفسي منجذبة للفكرة الأساسية التي يعبر عنها وأردت العمل مع أرونوڤسكي.
> مثل أفلام أخرى للمخرج دارن أرونوڤسكي لم يجد هذا الفيلم استحسانا شاملاً بين النقاد. ومع أن هذا كثير الحدوث في شتى الأفلام، إلا أن حدوثه في فيلم يجمع بينكما لا بد أن له دلالة ما. ما تعتقدين هذه الدلالة؟
- كل أفلام أرونوڤسكي تعرضت إلى ردود فعل مختلفة، بل متناقضة من قبل النقاد؛ لذلك لا أعتقد أن هذه المسألة لها علاقة بمستوى الأفلام نفسها، هي متعلقة أكثر بالنقاد. لا أحاول أن أقول: إنهم مخطئون أو على صواب. أنها مسألة تتعلق بأذواقهم الشخصية. أكثر من ذلك أعتقد أنه من الرائع فعلاً أن يعارض الفيلم البعض ويعجب به بعضهم الآخر. يفعلون ذلك في كل فيلم يقدمه أرونوڤسكي في المهرجانات.
> هل جال في بالك مثلاً أن هذا الموقف هو أكثر من اختلاف آراء. ربما أقرب إلى رفض الفيلم؟
- أعتقد أننا، أرونوڤسكي ونحن كممثلين، حققنا فيلماً يصرخ بصوت عال. فيلم عدائي، بل يمكن اعتباره إهانة لمعتقدات اجتماعية سائدة أو مواقف مبنية على خداع مستتر. وما كان يهمنا هو أن نقدم هذه الحكاية للعلن، وأعلم أن (المخرج) أراد التعبير عنها منذ فترة طويلة. كانت الفكرة تعيش في باله منذ زمن. هذا في رأيي الأهمية الكبرى. إنه فيلم صعب للمشاهدة؛ لأنه يجعلك تفكر وتشعر. إذن لا، لا أعتقد أن الفيلم كان مرفوضاً. أنا فخورة به وأعتقد أن الفيلم عبقري، لكنني أوافقك على أنه ليس لكل المشاهدين.
> هل كان صعباً عليك كممثلة أن تجدي نفسك أمام الكاميرا في لقطات متابعة وقريبة طوال الوقت؟
- لقد سبق التصوير ثلاثة أشهر من التدريب وبوجود المصورين؛ لذلك أعتقد أنه حين بدأنا التصوير الفعلي كنت مستعدة لذلك.
> ذكرت مرّة أنك لا تقدمين على التدريبات بل تقرأين السيناريو ثم تتوجهين إلى التصوير مباشرة. قيامك إذن بالتحضير لثلاثة أشهر كان أمراَ مختلفاً وجديداً...
- كان كذلك بالفعل. لقد منحني اقتراباً مثالياً للشخصية التي أمثلها. منحني الوقت لكي أجدها وأعبر عنها بشكل كامل ومختلف عن أي شيء فعلته من قبل. حين تسلمت السيناريو بدأت بتدريب نفسي على الإلقاء، لكن لا شيء مما قمت به كان صحيحاً أو ملائماً. تصارعت أنا والشخصية وتصارعت مع مشاعري. فكرت أن هذا الدور ليس لي. يحتاج إلى ممثلة تستطيع أن تعكس ضعفاً وليس ثقة. هنا كان للتدريب مفعوله الساحر.
> تمت التدريبات في مونتريال كما علمت...
- والتصوير تم هناك أيضاً. كنا نحن الأربعة ميشيل (فايفر) وإد (هاريس) وخافييه (باردم) نتبادل الآراء حول أدوارنا، ونتحدث حول شخصياتنا طوال الوقت. ثم جاء المخرج وسألني ماذا سأفعل بصوتي؟ قلت له لا أعرف... ألا يكفي تغيير الملابس هل يجب أن أغير صوتي أيضاً (تضحك).
> تمثلين معـظم الدور وأنت حافية. تركضين أو تمشين في البيت حافية. هل لذلك سبب آخر غير تعريضك للأذى؟
- (تضحك)... لم أصب بأذى من جراء المشي حافية في البيت. لم نبدأ التصوير كل يوم إلا من بعد تنـظيف الأرض تماماً. لكني في أحد المشاهد الأخيرة أذيت طبلة أذني، وتطلب الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تشفى. لكن السبب في أن المخرج طلب مني تأدية دوري حافية يعود إلى أنني أمثل أمّـنا الأرض. هذه هي الاستعارة المجازية التي يعنيها التمثيل حافية. في الفيلم لا أستطيع مغادرة المنزل لأن المنزل هو هذه الدنيا.
> ما رأيك إذن بما يحدث للأرض؟ هل تهتمين بمسائل التلوث البيئي وكيف؟
- هذه واحدة من مضامين الفيلم المهمّـة في رأيي. رسالته المواجهة لما يحدث داخل البيت. كما ذكرت البيت هو المجاز للعالم، وبالطبع أنا مهتمة؛ لأني خائفة مما تتعرض له الأرض من تغيير. ما هو مخيف أن المسؤولين حول العالم لا يكترثون لهذا الأمر، ولا لما سيقع في المستقبل نتيجة ذلك. كل عام نتعرض لمقياس عال من الحرارة. في العام 2014 وصلت الحرارة إلى رقم قياسي. والعام 2015 كان أسوأ منه، ثم العام الماضي كان رقماً قياسيا آخر بالنسبة لسخونة الطقس ونتائج ذلك. العواصف التي اجتاحت تكساس كانت نادرة... الآن هي متكررة والأرض مرشحة للمزيد. إنه أمر مخيف.
> إنه فيلم داكن في أحداثه وفي رسالته بالفعل. هل ترك عندك أي أثر نفسي أو صدمة؟
- حتى من قبل أن يبدأ التصوير وجدت نفسي قلقة على نفسي من الاندماج مع هذا الموضوع الداكن. قبل التصوير بيومين استلقيت لكي آخذ غفوة بعد الظهر ووجدت نفسي بعد قليل متوترة جداً. أخذت أفكر كيف سيكون حالي وقت التصوير وبعده. لم أمثل في حياتي فيلما بهذه القتامة.
> ما الذي حدث لك بعد أيام التصوير الأولى؟
- السؤال كان إذا ما كنت أستطيع أن أعود إلى طبيعتي بعد التصوير أم لا. أقصد في نهاية يوم من العمل. كان علي أن أجد مكاناً ألجأ إليه داخل ذاتي لكي أشعر بأن ما أمثله، والفيلم بأسره، ليس سوى عمل خيالي أقوم به وينتهي. لكن ذلك كان صعباً. كان صعباً لدرجة أنني وجدت العكس تماماً يحدث معي. في إحدى المرّات أصبت خلال التصوير بالإغماء وفي مرّة ثانية وجدت نفسي أبكي بشدة. هذا (الفيلم) مكان لا أريد أن أعود إليه مطلقاً.
> لديك النية، حسبما علمت، لإنتاج وإخراج فيلم عنوانه «زيلدا». هل هذا هو مشروعك المقبل؟
- المشروع ليس جاهزاً بعد كذلك لست جاهزة بعد لإخراجه. لا أعتقد. لقد تحمست للعمل بسبب موضوعه (يدور حول زيلدا فيتزجرالد، زوجة الكاتب الشهير)؛ لذلك سأقوم بإنتاجه، لكني لست واثقة من أنني سأقوم بإخراجه أيضاً.
> انتهيت من تمثيل «دوري أحمر» (Red Sparrow) الذي يدور حول فتاة تتعلم استخدام جسدها سلاحاً. ما رأيك في قيام عدد كبير من الممثلات هذه الأيام بالإقبال على أدوار قتال؟
- ... لكن «دوري أحمر» ليس فيلم أكشن، بل هو تشويق؛ وهو لذلك يختلف عن الأفلام التي تقصدها. لكن رأيي أن الأدوار التي تقصدها ليست مختلفة عن تلك التي يؤديها الرجال. أقصد أنه بالإمكان جداً قبول شخصية امرأة في ثياب مقاتل كما نقبل ممثلا رجلا في هذا الدور. الأهم هو ما يريد الفيلم قوله لنا.
> هل تجدين أن أدوار القوّة النسائية لا تمنح الممثلة التي تؤديها البرهنة على أنوثتها؟ الشخصية ذاتها متوغلة في ممارسة القتال لدرجة أنه لا يعد مهماً لديها أي شيء آخر.
- ربما، لكن ليس في كل الحالات. لو أخذت «ألعاب الجوع» مثالاً لوجدت أن الشخصية التي قمت بها لديها أولويات مهمّـة وهي إنقاذ المجتمع الذي تنتمي إليه وقيادة الثوّار الذين يريدون المساواة والعالم الأفضل.
> ما أفضل شيء وأسوأ شيء بالنسبة إليك كممثلة في الوقت الحاضر؟
- أفضل شيء أنني أقوم بالعمل الوحيد الذي أجيده. أسوأ شيء هو الهواتف النقالة؛ لأنها مزوّدة جميعاً بالكاميرات.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)