في العالم كله، لا يمكن إغفال أنّ «داعش» صارت أكثر الكلمات استخداماً في كل نشرات الأخبار، فهو «البعبع» الرابض خلف عشرات الأبواب، والذي يتحين الفرصة لكي ينقض علينا في أي لحظة من دون إنذار، في جُنح الظلام أو تحت نور الشمس، لم تعد مع الأسف تفرق كثيراً، هؤلاء القتلة يحصدون عشرات الأرواح بقلب بارد وضمير مستريح.
الداعشيون يعتقدون أنّهم ينفذون بتلك الدموية ما يعتقدونه خطأ أنه «شرع وشريعة الله»، وهكذا تبدو أهمية مواجهة هذا الفكر الظلامي الذي يتدثر عنوة بالدين. فما الذي فعلناه على الشاشات لنواجهه؟ كثيرا ما نتحدث عن ضرورة استخدام القوى والأسلحة الناعمة، في تحطيم تلك الأفكار، ولكننا غالباً نكتفي بالأمنيات وأحاديث الندوات والبرامج التلفزيونية، ثم حين البأس لا نُقدّم شيئاً حقيقياً، ولكن مجرد أعمال فنية أشبه ما تكون بنكتة طال زمنها أكثر مما ينبغي، فصارت سخيفة.
بالمناسبة، كل القضايا مهما بلغت حساسيتها من الممكن معالجتها بروح السخرية، على شرط ألا يتصور البعض أنّ الكوميديا هي الوجه الآخر للتهريج والاستخفاف، وهو مع الأسف كثيراً ما يحدث على الشاشات.
هاجس «داعش» صار كابوسا يهدد العالم في أكثر من بلد، ومع اختلاف الدرجة، فلم يعد يفاجئنا من كثرة ترديده خبر دهس أو قتل في بلد أوروبي، هذا التنظيم استطاع أن يصنع كوادره في كثير من دول العالم، نعم على أرض الواقع، تجري محاصرة البؤر في عدد من دول بلادنا العربية، مثل سوريا والعراق وليبيا، وتجري بنجاح أيضاً عمليات المطاردة وتضييق الخناق على هذه التجمعات الدموية، ولكن لا يزال العالم ينزف دماً بين حين وآخر، بسبب متطرف ينتمي لهذا التنظيم يعتقد أن الطريق للجنة يبدأ في تلك اللحظة التي يُفجر فيها نفسه ليقتل العشرات من البشر، أو يدهس بعربة أطفالاً يتسوقون في الشارع.
مواجهة الأفكار يجب أن تتوازى مع المواجهة بالسلاح، هذا هو بالضبط مفتاح المعركة، فهي مزيج بين السلاح والفكر، كثير من الأعمال الأجنبية تُقدم من خلال رصد لهذا التنظيم، وهي فعلا تضع أمامها هدفاً محورياً لا تحيد عنه، إنّها تواجه أساساً أفكاراً تغلغلت في العقول.
عُرض أخيراً، المسلسل البريطاني «الدولة» للمخرج بيتر كوسمينسكي، وتكتشف أنّه حصيلة أكثر من عام ونصف عام قضاها المخرج في البحث والتمحيص. ومراجعة الأفكار الجدية الشديدة مطلوبة جدا في مثل هذه القضايا، راجع المخرج وفريق العمل كثيراً من الوقائع والوثائق والحكايات التي يتم تناقلها، فهو لم يقدم لنا مجرد خيال منزوع عن الوثائق، فهو يدرك أنّ هؤلاء، بزاوية ما، قتلة ومجرمون، ولكنّهم على الجانب الآخر قد غُسلت أدمغتهم ليصبحوا منفذين ومن دون أدنى تفكير لما يأتي إليهم من أوامر. أرواحهم هي أقل شيء يقدموه لتحقيق تلك الأهداف المجنونة، يتساوى في ذلك النساء مع الرجال، هناك طبعاً نساء اختطفن فأصبحن سبايا، وهناك من ذهبن بمحض إرادتهن.
من المهم أن ندرس تلك التفاصيل وبدقة، لقد حاول المسلسل العربي «غرابيب سود» الذي أنتجته شبكة «إم بي سي» التلفزيونية وعُرض في رمضان الماضي، أن يصل إلى معالجة درامية لتلك النقطة الشائكة، ولكن لم تكتمل الرؤية، على الرغم من حرص المسلسل على إظهار أنّ هذا ليس هو الإسلام كدين يؤمن بأنّه لا إكراه في الدين، ويقر بالاختلاف بين البشر، ولكن البعض كان يخشى أن يختلط الأمر على المتلقي.
بينما المسلسل البريطاني «الدولة»، كان حريصا وبدقة على التفرقة بين الإسلام وسماحته وبين تنظيم داعش الإرهابي، الذي يرفع أفراده راية الإسلام عنوة، ولكن الإسلام منهم براء. من المهم بالطبع أن نفرق بين هؤلاء وبين الإسلام دين السماح الذي يحافظ على أرواح الإنسان، فلا يوجد داخل الإسلام ما يبرر أبداً رفع السلاح مع المختلف دينياً أو عرقياً. الإسلام مؤمن بأن الاختلاف بين البشر هو سنة الحياة، وهكذا فلا ينبغي أن يهاجم أحد الإسلام وهو يتناول هذه الأفكار، ولكن وكما يحدث في كل الأديان، هناك من يسيء التفسير أحياناً عن جهل، وليس بالضرورة عن تعمد. المسلسل البريطاني تعامل بجدية مع هذا التنظيم، يكشفه ويفضحه في «الميديا» لكي تصل الرسالة.
العالم يترقب درامياً هذا التنظيم بجدية، ولكن مع الأسف افتقدنا نحن في معالجتنا لهذه الأمور الجدية المطلوبة، بين حين وآخر نجد أمامنا فيلماً يحاول أن يصل إلى الناس بتلك الحيلة، أنّه يقدم مسلسلاً أو فيلماً عن «داعش»، ليس مهماً ما الذي يحمله من أفكار، ولكنه يُقدم «داعش» وكأنه يُسمعك «آخر نكتة»!!.
إنّها محاولة اللعب على مشاعر الناس بنظرة أراها انتهازية، فهو يأخذ الاسم «داعش» بكل ظلاله، وبحجة أنّه يقدم عملاً كوميدياً يُفسد الأفكار. في العام الماضي شاهدنا فيلم «القرموطي على خط النار»، بطولة الممثل الكوميدي أحمد آدم، وإخراج أحمد البدري، وهذه الأيام تابعنا «دعدوش» للمخرج عبد العزيز حشاد، وبطولة الكوميديان هشام إسماعيل. اشتهر آدم بتقديم شخصية الفهلوي «القرموطي» التي انطلقت في البداية من خلال الشاشة الصغيرة وحققت بعض النجاح، فهو الذي يفعل كل شيء، ويحاول إقناع الناس بعبقريته المزعومة، يجد نفسه قد وصل إلى الحدود الليبية، ثم يكتشف أنّه في معقل «داعش»، ولا يعنيه سوى أن يكرّر نفس الأسلوب في البحث عن ضحكات. الفيلم تكاليفه محدودة جداً، ومردوده المادي، على الرغم من ضعفه، حقق بالقياس للتكلفة الرقم المنتظر.
على الرغم من ذلك، فإن تكلفة الفيلم المتواضعة ساهمت مجدداً في تكرار التجربة هذا العام، ومن خلال أيضاً فيلم محدود الميزانية، وهو ما يطلق عليه حالياً في مصر تعبير «مقاولات»، ولا يعنيه سوى أن يتاجر بنكتة أو بموقف أو بأغنية أو برقصة، من أجل جذب الجمهور. أطلقوا على الفيلم اسم «دعدوش»، تصغير «داعش»، وهو الاسم الحركي لبطل الفيلم هشام إسماعيل. كانت هناك محاولات قبل نحو عامين لكي يُصبح هشام نجماً للشباك، ولكن باءت المحاولات بالفشل، وتكررت مرة أخرى في «دعدوش»، وشاركه عدد من الممثلين، مثل مدحت (تيخة)، وهو طبعا اسم شهرة ارتبط به بسبب وزنه الزائد، وكريم أبو زيد، وميريهان حسين، وأمير صلاح الدين. الكل يتحين الفرصة لكي يقفز إلى قطار النجاح وبأي وسيلة، من دون جدوى. هؤلاء الممثلون في العادة هم الأرخص سعراً، ولهذا يتم الاستعانة بهم.
لا أحد أجهد نفسه بالبحث أو بمراجعة أي شيء، كل ما فعلوه أنّهم اعتقدوا أنّ المطلوب هو ترديد بعض القفشات الكوميدية، وكل فنان يقدم ما تيسر له، وتكتشف أنّهم جميعاً بالصدفة انضموا للتنظيم، تحت تأثير أزمة نفسية أو عاطفية أو اقتصادية عارضة، وهكذا ركبوا «أوتوبيساً» على الطريق الصحراوي، متجهاً للصحراء للتدريب على فنون القتال، ولا تدري كيف يحدث ببساطة كل ذلك، وأين هي الدولة التي تسمح بتدريبات مسلحة على أراضيها؟!
وعلى طريقة «إسماعيل ياسين في الجيش» يقدمون تدريبات «داعش» العسكرية، بنفس الأسلوب، عبارة عن مفارقات ضاحكة، أو بالأحرى تسعى لكي تُصبح كذلك، أثناء ممارسة التدريب العسكري، تذكرنا بإسماعيل ياسين، والشخصية المقابلة له في تلك الأعمال السينمائية «الشاويش عطية» التي أداها رياض القصبجي. وفي اللقاء الأول كل منهما يختار زوجة بالصدفة، ولا نجد مثلاً سوى أن هناك صحافية تؤدي دورها ميريهان حسين، كانت تقوم بتحقيق صحافي عن «داعش» فأخذوها معهم. هل من الممكن تصور أن هناك تنظيماً إرهابياً يسمح للصحافة بأن تجري مع أفراده حوارات للنشر، وعلى هذا النحو الذي قدمه الفيلم؟
تستمر أحداث الفيلم في محاولة يائسة لخلق ضحكات، وفي النهاية تطاردهم القوات المسلحة والشرطة وتقضي عليهم، ولا ينسى في منتصف الفيلم أن يقدم نهمهم للنساء والأكل، من خلال أمير الجماعة الذي يطمع حتى في زوجات من هم تحت قيادته، ويقدم مباراة كرة قدم نرى فيها عدداً من القتلى، كل ذلك من أجل تحقيق هدف الضحك، الذي ومن واقع مشاهدتي للفيلم مع الجمهور لم يتحقق، وينتهي الأمر بالحرق، فهل انتهى خطر «داعش»؟
الفيلم يستخف بالقضية، وهكذا شاهدنا «دعدوش» وقبلها «القرموطي»، ولا أستبعد أن يتم السير في هذا الاتجاه، من خلال أفلام ومسلسلات أخرى؛ طالما أنّ هناك من يعتقد أنّ هذه هي الطريقة المثالية لضرب «داعش» والإجهاز نهائياً عليه.
تلك الأفلام وغيرها تؤكد، مع الأسف، أنّ كثيراً من قضايانا، عندما ننظر إليها سينمائياً أو درامياً، نحيلها إلى مشروع تجاري، وفي العادة لا تحقق حتى هذا الهدف المباشر. أغلب ما نعيشه من أحداث يستحق منا أن نقدمه بإبداع وألق، حتى تصل الرسالة للجمهور، بدلاً من أن نحيل كل شيء إلى نوع من السخافة لتحقيق أي مكاسب سريعة، لتصبح وكما يقولون باللهجة المصرية، مجرد «سبوبة»!!.
داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر
هكذا نعالج قضايانا المصيرية على الشاشة
داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة