داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر

هكذا نعالج قضايانا المصيرية على الشاشة

من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
TT

داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر

من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)

في العالم كله، لا يمكن إغفال أنّ «داعش» صارت أكثر الكلمات استخداماً في كل نشرات الأخبار، فهو «البعبع» الرابض خلف عشرات الأبواب، والذي يتحين الفرصة لكي ينقض علينا في أي لحظة من دون إنذار، في جُنح الظلام أو تحت نور الشمس، لم تعد مع الأسف تفرق كثيراً، هؤلاء القتلة يحصدون عشرات الأرواح بقلب بارد وضمير مستريح.
الداعشيون يعتقدون أنّهم ينفذون بتلك الدموية ما يعتقدونه خطأ أنه «شرع وشريعة الله»، وهكذا تبدو أهمية مواجهة هذا الفكر الظلامي الذي يتدثر عنوة بالدين. فما الذي فعلناه على الشاشات لنواجهه؟ كثيرا ما نتحدث عن ضرورة استخدام القوى والأسلحة الناعمة، في تحطيم تلك الأفكار، ولكننا غالباً نكتفي بالأمنيات وأحاديث الندوات والبرامج التلفزيونية، ثم حين البأس لا نُقدّم شيئاً حقيقياً، ولكن مجرد أعمال فنية أشبه ما تكون بنكتة طال زمنها أكثر مما ينبغي، فصارت سخيفة.
بالمناسبة، كل القضايا مهما بلغت حساسيتها من الممكن معالجتها بروح السخرية، على شرط ألا يتصور البعض أنّ الكوميديا هي الوجه الآخر للتهريج والاستخفاف، وهو مع الأسف كثيراً ما يحدث على الشاشات.
هاجس «داعش» صار كابوسا يهدد العالم في أكثر من بلد، ومع اختلاف الدرجة، فلم يعد يفاجئنا من كثرة ترديده خبر دهس أو قتل في بلد أوروبي، هذا التنظيم استطاع أن يصنع كوادره في كثير من دول العالم، نعم على أرض الواقع، تجري محاصرة البؤر في عدد من دول بلادنا العربية، مثل سوريا والعراق وليبيا، وتجري بنجاح أيضاً عمليات المطاردة وتضييق الخناق على هذه التجمعات الدموية، ولكن لا يزال العالم ينزف دماً بين حين وآخر، بسبب متطرف ينتمي لهذا التنظيم يعتقد أن الطريق للجنة يبدأ في تلك اللحظة التي يُفجر فيها نفسه ليقتل العشرات من البشر، أو يدهس بعربة أطفالاً يتسوقون في الشارع.
مواجهة الأفكار يجب أن تتوازى مع المواجهة بالسلاح، هذا هو بالضبط مفتاح المعركة، فهي مزيج بين السلاح والفكر، كثير من الأعمال الأجنبية تُقدم من خلال رصد لهذا التنظيم، وهي فعلا تضع أمامها هدفاً محورياً لا تحيد عنه، إنّها تواجه أساساً أفكاراً تغلغلت في العقول.
عُرض أخيراً، المسلسل البريطاني «الدولة» للمخرج بيتر كوسمينسكي، وتكتشف أنّه حصيلة أكثر من عام ونصف عام قضاها المخرج في البحث والتمحيص. ومراجعة الأفكار الجدية الشديدة مطلوبة جدا في مثل هذه القضايا، راجع المخرج وفريق العمل كثيراً من الوقائع والوثائق والحكايات التي يتم تناقلها، فهو لم يقدم لنا مجرد خيال منزوع عن الوثائق، فهو يدرك أنّ هؤلاء، بزاوية ما، قتلة ومجرمون، ولكنّهم على الجانب الآخر قد غُسلت أدمغتهم ليصبحوا منفذين ومن دون أدنى تفكير لما يأتي إليهم من أوامر. أرواحهم هي أقل شيء يقدموه لتحقيق تلك الأهداف المجنونة، يتساوى في ذلك النساء مع الرجال، هناك طبعاً نساء اختطفن فأصبحن سبايا، وهناك من ذهبن بمحض إرادتهن.
من المهم أن ندرس تلك التفاصيل وبدقة، لقد حاول المسلسل العربي «غرابيب سود» الذي أنتجته شبكة «إم بي سي» التلفزيونية وعُرض في رمضان الماضي، أن يصل إلى معالجة درامية لتلك النقطة الشائكة، ولكن لم تكتمل الرؤية، على الرغم من حرص المسلسل على إظهار أنّ هذا ليس هو الإسلام كدين يؤمن بأنّه لا إكراه في الدين، ويقر بالاختلاف بين البشر، ولكن البعض كان يخشى أن يختلط الأمر على المتلقي.
بينما المسلسل البريطاني «الدولة»، كان حريصا وبدقة على التفرقة بين الإسلام وسماحته وبين تنظيم داعش الإرهابي، الذي يرفع أفراده راية الإسلام عنوة، ولكن الإسلام منهم براء. من المهم بالطبع أن نفرق بين هؤلاء وبين الإسلام دين السماح الذي يحافظ على أرواح الإنسان، فلا يوجد داخل الإسلام ما يبرر أبداً رفع السلاح مع المختلف دينياً أو عرقياً. الإسلام مؤمن بأن الاختلاف بين البشر هو سنة الحياة، وهكذا فلا ينبغي أن يهاجم أحد الإسلام وهو يتناول هذه الأفكار، ولكن وكما يحدث في كل الأديان، هناك من يسيء التفسير أحياناً عن جهل، وليس بالضرورة عن تعمد. المسلسل البريطاني تعامل بجدية مع هذا التنظيم، يكشفه ويفضحه في «الميديا» لكي تصل الرسالة.
العالم يترقب درامياً هذا التنظيم بجدية، ولكن مع الأسف افتقدنا نحن في معالجتنا لهذه الأمور الجدية المطلوبة، بين حين وآخر نجد أمامنا فيلماً يحاول أن يصل إلى الناس بتلك الحيلة، أنّه يقدم مسلسلاً أو فيلماً عن «داعش»، ليس مهماً ما الذي يحمله من أفكار، ولكنه يُقدم «داعش» وكأنه يُسمعك «آخر نكتة»!!.
إنّها محاولة اللعب على مشاعر الناس بنظرة أراها انتهازية، فهو يأخذ الاسم «داعش» بكل ظلاله، وبحجة أنّه يقدم عملاً كوميدياً يُفسد الأفكار. في العام الماضي شاهدنا فيلم «القرموطي على خط النار»، بطولة الممثل الكوميدي أحمد آدم، وإخراج أحمد البدري، وهذه الأيام تابعنا «دعدوش» للمخرج عبد العزيز حشاد، وبطولة الكوميديان هشام إسماعيل. اشتهر آدم بتقديم شخصية الفهلوي «القرموطي» التي انطلقت في البداية من خلال الشاشة الصغيرة وحققت بعض النجاح، فهو الذي يفعل كل شيء، ويحاول إقناع الناس بعبقريته المزعومة، يجد نفسه قد وصل إلى الحدود الليبية، ثم يكتشف أنّه في معقل «داعش»، ولا يعنيه سوى أن يكرّر نفس الأسلوب في البحث عن ضحكات. الفيلم تكاليفه محدودة جداً، ومردوده المادي، على الرغم من ضعفه، حقق بالقياس للتكلفة الرقم المنتظر.
على الرغم من ذلك، فإن تكلفة الفيلم المتواضعة ساهمت مجدداً في تكرار التجربة هذا العام، ومن خلال أيضاً فيلم محدود الميزانية، وهو ما يطلق عليه حالياً في مصر تعبير «مقاولات»، ولا يعنيه سوى أن يتاجر بنكتة أو بموقف أو بأغنية أو برقصة، من أجل جذب الجمهور. أطلقوا على الفيلم اسم «دعدوش»، تصغير «داعش»، وهو الاسم الحركي لبطل الفيلم هشام إسماعيل. كانت هناك محاولات قبل نحو عامين لكي يُصبح هشام نجماً للشباك، ولكن باءت المحاولات بالفشل، وتكررت مرة أخرى في «دعدوش»، وشاركه عدد من الممثلين، مثل مدحت (تيخة)، وهو طبعا اسم شهرة ارتبط به بسبب وزنه الزائد، وكريم أبو زيد، وميريهان حسين، وأمير صلاح الدين. الكل يتحين الفرصة لكي يقفز إلى قطار النجاح وبأي وسيلة، من دون جدوى. هؤلاء الممثلون في العادة هم الأرخص سعراً، ولهذا يتم الاستعانة بهم.
لا أحد أجهد نفسه بالبحث أو بمراجعة أي شيء، كل ما فعلوه أنّهم اعتقدوا أنّ المطلوب هو ترديد بعض القفشات الكوميدية، وكل فنان يقدم ما تيسر له، وتكتشف أنّهم جميعاً بالصدفة انضموا للتنظيم، تحت تأثير أزمة نفسية أو عاطفية أو اقتصادية عارضة، وهكذا ركبوا «أوتوبيساً» على الطريق الصحراوي، متجهاً للصحراء للتدريب على فنون القتال، ولا تدري كيف يحدث ببساطة كل ذلك، وأين هي الدولة التي تسمح بتدريبات مسلحة على أراضيها؟!
وعلى طريقة «إسماعيل ياسين في الجيش» يقدمون تدريبات «داعش» العسكرية، بنفس الأسلوب، عبارة عن مفارقات ضاحكة، أو بالأحرى تسعى لكي تُصبح كذلك، أثناء ممارسة التدريب العسكري، تذكرنا بإسماعيل ياسين، والشخصية المقابلة له في تلك الأعمال السينمائية «الشاويش عطية» التي أداها رياض القصبجي. وفي اللقاء الأول كل منهما يختار زوجة بالصدفة، ولا نجد مثلاً سوى أن هناك صحافية تؤدي دورها ميريهان حسين، كانت تقوم بتحقيق صحافي عن «داعش» فأخذوها معهم. هل من الممكن تصور أن هناك تنظيماً إرهابياً يسمح للصحافة بأن تجري مع أفراده حوارات للنشر، وعلى هذا النحو الذي قدمه الفيلم؟
تستمر أحداث الفيلم في محاولة يائسة لخلق ضحكات، وفي النهاية تطاردهم القوات المسلحة والشرطة وتقضي عليهم، ولا ينسى في منتصف الفيلم أن يقدم نهمهم للنساء والأكل، من خلال أمير الجماعة الذي يطمع حتى في زوجات من هم تحت قيادته، ويقدم مباراة كرة قدم نرى فيها عدداً من القتلى، كل ذلك من أجل تحقيق هدف الضحك، الذي ومن واقع مشاهدتي للفيلم مع الجمهور لم يتحقق، وينتهي الأمر بالحرق، فهل انتهى خطر «داعش»؟
الفيلم يستخف بالقضية، وهكذا شاهدنا «دعدوش» وقبلها «القرموطي»، ولا أستبعد أن يتم السير في هذا الاتجاه، من خلال أفلام ومسلسلات أخرى؛ طالما أنّ هناك من يعتقد أنّ هذه هي الطريقة المثالية لضرب «داعش» والإجهاز نهائياً عليه.
تلك الأفلام وغيرها تؤكد، مع الأسف، أنّ كثيراً من قضايانا، عندما ننظر إليها سينمائياً أو درامياً، نحيلها إلى مشروع تجاري، وفي العادة لا تحقق حتى هذا الهدف المباشر. أغلب ما نعيشه من أحداث يستحق منا أن نقدمه بإبداع وألق، حتى تصل الرسالة للجمهور، بدلاً من أن نحيل كل شيء إلى نوع من السخافة لتحقيق أي مكاسب سريعة، لتصبح وكما يقولون باللهجة المصرية، مجرد «سبوبة»!!.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».