رسائل «خاتون بغداد» تكشف المواقف الحقيقية لشخصيات عراقية

لم تسْلم من الحذف والتلخيص والاختصار وفقاً لمزاج المترجم

مس بيل مع مجموعة من العسكريين في العراق عام 1922
مس بيل مع مجموعة من العسكريين في العراق عام 1922
TT

رسائل «خاتون بغداد» تكشف المواقف الحقيقية لشخصيات عراقية

مس بيل مع مجموعة من العسكريين في العراق عام 1922
مس بيل مع مجموعة من العسكريين في العراق عام 1922

صدرت عن دار E - Kutub بلندن الطبعة الثانية من كتاب «الخاتون، صانعة الملوك» ترجمة عبد الكريم الناصري، إعداد وتحقيق بثينة الناصري، وتعليق المؤرخ عبد الرزاق الحسني. يتمحور الكتاب في مجمله على مجموعة من رسائل المس غيرترود التي كتبتها إلى أبيها السير هيو بيل في الأعوام الثلاثة المحصورة بين 1919 - 1921. لم يدُر بخلد عبد الكريم الناصري في أوائل الستينات أن يترجم هذه المجموعة من الرسائل ترجمة كاملة ولم يفكِّر بإصدارها في كتاب مستقل لكنه ما إن اكتشف أهميتها حتى بدأ بترجمتها على وفق التسلسل المُشار إليه سلفاً، ومع ذلك لم تسْلم هذه الرسائل من الحذف والتلخيص والاختصار القائم على مزاج المترجم، وحجته في ذلك أن الرسائل المُترجَمة أو المُلخَصة تتناول تشكيل الحكومة العراقية، وتتويج فيصل الأول ملكاً على العراق، وما رافق ذلك من أحداث ومواقف مهمة من تاريخ العراق الحديث. كما يعتقد المترجم أن أهمية هذه الرسائل الشخصية تكمن في «الكشف عن أمور قد لا تسمح بها التقارير الرسمية» (ص6). ولعلها تعرّي مواقف بعض الشخصيات السياسية والقَبَلية من المحتل البريطاني وطرقهم الاستخذائية المُذلّة في التعامل مع ضباطه وساسته وجواسيسه. ففي تقرير سرّي قدّمته المس بيل إلى حكومتها نشره السير أرنولد ويلسون في كتابه المعنون «تنازع الولاء» يقول فيه عبد الرحمن النقيب للمس بيل إن «لكم الحق في أن تحكموا العراق لأنكم قد احتللتموه بالقوة المسلّحة» (ص10). وفي الصفحة ذاتها يقترح ناجي السويدي على الإنجليز أن يفرضوا الانتداب على العراق بدلاً من عقد معاهدة معه لأنّ ذلك يتيح لهم سلطاناً أكبر على البلاد!
من الجدير بالذكر أن عدد الرسائل الكاملة والمختصرة التي يشتمل عليها هذا الكتاب هو 44 رسالة بينما بلغ عدد الرسائل التي كتبتها المس بيل لأبيها خلال السنوات الثلاث المذكورة آنفاً هو 123 رسالة. ولعل الرسائل الموجهة إلى زوجة أبيها، وليس إلى أمها كما ورد في كتاب «الخاتون»، لأن أمها ماتت مذ كانت بيل في عامها الثالث، هي بعدد الرسائل الموجهة إلى أبيها أو أكثر ربما. أما عدد الرسائل التي كتبتها بيل طوال حياتها فقد بلغت 1600 رسالة محفوظة كلها في أرشيف غيرترود بيل.
لم يذكر المترجم تاريخ الرسالة الأولى التي بدأ بها كتابه وهي بداية غير موفقة من جهة التوثيق، كما أنّ نصفها أو أكثر بقليل محذوف بحيث بدت الرسالة مبتورة الأحداث. لنقرأ الجملة الاستهلالية التي تقول «إنها أعظم مصدر للراحة لي - ولا أدري ماذا كنت صانعة من دونها -» (ص14) تُرى، منْ هي هذه المرأة التي لا تعرف ماذا ستفعل من دونها؟ إنها بالتأكيد خادمتها «الأرمينية» ماري التي كانت تقوم بواجباتها على أكمل وجه. هذه الرسالة المبتورة والمختصرة وجدتها في أرشيف الرسائل مؤرخة بـ7 ديسمبر (كانون الأول) 1919 وإن أبرز ما فيها هو انتظارها لمجيء والدها إلى بغداد، ثم تخبره بأنها لن تعود معه لأنها لا تستطيع الابتعاد عن هذا البلد الذي يعرفها فيه الناس عن كثب. وفي الرسالة ذاتها وقائع وأحداث كثيرة منها ذهابها للقاء الأميرة الفارسية في الكاظمية، وسقوطها عن صهوة جوادها وإصابتها بجرح عميق في حنكها. وفي القسم الذي يلي الحوار مع الطاهي مهدي تتحدث عن مناسبة المولد النبوي الشريف التي نُظمت في جامع الإمام الأعظم وخرجت منها مرتاحة مسرورة.
تنطوي الرسائل المترجمة على موضوعات متنوعة غير أن الذي يهمّ القارئ العراقي أو العربي هو كشف مواقف الشخصيات المهمة في البلد مثل الساسة، وكبار الضباط، وشيوخ القبائل، ورجال العلم والأدب والفن. وقد أشرنا سلفاً إلى موقفي عبد الرحمن النقيب وناجي السويدي لكن مواقف بعض الضباط كانت صريحة وجليّة، ولا غبار على وطنيتها. ففي حديثٍ للمس بيل مع جعفر العسكري قالت فيه إن «الاستقلال التام هو ما كنّا راغبين في إعطائه. فقال: مولاتي، الاستقلال التام يؤخذ ولا يُعطى» (ص42) فهل هناك من يشكّك بوطنية هذا الضابط وشجاعته ونزاهته؟ وفي لقاء مع نوري السعيد تقول المس بيل: «ما إن رأيته حتى أدركت أن أمامنا قوة كبيرة ومرنة علينا إما استعمالها وإما الاشتباك معها في نزال صعب» (ص67).
كتبت المس بيل إلى أبيها «تشيد بولاء فهد بيك، كبير مشايخ عنزة، للإنجليز» ويتمنى على السير برسي كوكس أن يعتمد عليه في كل ما يتصل بالعشائر العراقية لكنها كانت تميل إلى علي السلمان، شيخ مشايخ الدليم لأنه «رجل قدير، ولديه مشاريع أكثر ملاءمة للظروف الحديثة من مشاريع فهد بيك» (ص40). أما ضاري المحمود، شيخ قبيلة زوبع، فقد قتل المقدّم جيرارد ليتشمان لأنه هذا الأخير أهانهُ بكلمات قاسية لم يتحملها الشيخ فأوعز إلى ابنه سلمان وابنَي عمه أن يطلقوا عليه النار فأردوه قتيلاً وفرّوا إلى المناطق الثائرة في تلك المضارب. وهناك أكثر من رواية لمقتل ليتشمان، القائد السياسي للواء الدليم.
على الرغم من نزاهة وزير المالية حسقيل ساسون وإخلاصه للعراق إلاّ أن المس بيل تُنوّه دائماً بأنه نصحهم «بعدم تعيين أحد من العراقيين ملكاً أو أميرا على العراق على أساس أنه سيثير حسد عراقيين آخرين فيخلقوا متاعب لا تنتهي للإنجليز» (ص68). وكان ساسون يقترح عليها أن يكون ملك العراق أو رئيسه أحد أبناء شريف مكة أو أحد أعضاء الأسرتين المالكتين في مصر وتركيا لكن المس بيل كانت تريد أميرا عربياً للعراق، وكان فيصل بن الحسين يشغل مساحة واسعة من تفكيرها ولذلك لُقبت بـ«الشريفية» رغم أنها كانت تزعم بأن الاختيار الأول والأخير هو للشعب العراقي وحده.
لا تخفي بيل إعجابها بالمثقفين العراقيين الذين كانوا يصفقون كلما وردت كلمة «الاستقلال» في أثناء التمثيل وهي تعرف جيداً أن غالبية العراقيين يقفون ضد كل أشكال الاحتلال أو الوصاية والانتداب التي كان يروّج لها بعض السياسيين العراقيين الذين يلهثون وراء مصالحهم الشخصية الضيقة.
أسهمت عودة الضباط العراقيين من سوريا وعلى رأسهم نوري السعيد باختيار الأمير فيصل ملكاً على العراق حيث مهّدت رؤيته الثاقبة لدعوة الجمعية التأسيسية لأن تقوم بمهامها الأربع الأساسية وهي تعيين مجلس الوزراء، واختيار حاكم للعراق، وتأسيس الجيش، وتصميم علم وطني. وقد نُفذت الخطة المرسومة بذهن المس بيل التي ستحظى بلقب «الخاتون» و«صانعة الملوك» التي هيأت الأوضاع الداخلية والخارجية لترشيح فيصل إلى سُدّة الحكم، لكنه ما إن وصل إلى البصرة في 23 يونيو (حزيران) 1921 حتى هبّ بعض المتنفذين في المدينة مطالبين بمجلس تشريعي مستقل، وشرطة خاصة وما إلى ذلك لكن المس بيل رفضت تأييد هذا الطلب، كما أكد كوكس بأن «حكومة صاحب الجلالة تريد أن ترى عراقاً موحداً» (ص77) لكنه لم يرفض فكرة تمتع البصرة بدرجة من الاستقلال الذاتي.
يمثل تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق ثمرة الجهود الكبيرة التي بذلتها المس حينما تم انتخابه بنسبة 96 في المائة من أبناء ما بين النهرين. وتمّ حفل التتويج بحضور 1500 مدعو، ثم عُزف النشيد الوطني البريطاني لأنه لم يكن هناك سلام جمهوري عراقي، وفي الختام تمت الموافقة على تشكيل الحكومة العراقية التي رأسها عبد الرحمن النقيب كأول رئيس وزراء لمملكة العراق الفتية.



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.