العمل الصحافي بمناطق الحوثيين... السير في حقل ألغام

مخاطر محدقة وأجور متدنية... وتضييق على مصادر المعلومات

اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
TT

العمل الصحافي بمناطق الحوثيين... السير في حقل ألغام

اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)

«أتجول في الشوارع، وأزور المقاهي، وأستقل المواصلات العامة لأسمع أحاديث الناس، وأجالس الكثيرين خلال فترة المقيل، وقد أحظى بعد كل هذا بفكرة لكتابة مادة صحافية، وأستغرق أوقاتاً طويلة للحصول عليها ثم كتابتها بشكلها النهائي، لكني أتجنب قضايا الفساد والنهب والمظالم الجماعية وحتى الفردية؛ للحفاظ على سلامتي رغم استخدام اسم مستعار».

هكذا يلخص أحد الصحافيين المقيمين في العاصمة اليمنية، صنعاء، طريقة عمله للاستمرار في الحصول على مصدر دخل، بعد أن أُغلقت غالبية وسائل الإعلام، ولم تتبقَ سوى وسائل إعلام الجماعة الحوثية، ومنها وسائل الإعلام الرسمية التي تديرها لصالح مشروعها وتوجهاتها، ويشير إلى أنه يقدم نفسه غالباً بصفة «فني مختبرات»؛ تجنباً لأي شبهة قد تلحق به.

تسببت الجماعة الحوثية بتجريف الإعلام والصحافة في اليمن ونزوح الصحافيين (رويترز)

يذكر الصحافي لـ«الشرق الأوسط» أن وسائل الإعلام والمنصات التي يراسلها لم تتقبل فكرة أن يكتب لها بغير اسمه الحقيقي؛ لعدم إدراك القائمين عليها المخاطر التي قد تطاله، خصوصاً أنه يتجنب في المقابل الكتابة حول الفساد والانتهاكات، فلم يقتنع هؤلاء بسهولة أن العمل الصحافي في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية يعد مخاطرة كبيرة حتى في الترفيه.

ويضيف: «العمل الصحافي بحد ذاته أصبح شبه محظور، والصحافيون عادة في دائرة الشبهات. دائماً أتنقل من سكن إلى آخر قبل أن يتعرف جيراني على طبيعة عملي بعد أن أخبرهم بأني فني مختبرات، ولا أستطيع تناول القضايا الخطرة، إلا من طرف بعيد، دون أن أملك فرصة الحصول على المعلومات الكافية بشأنها».

ورغم المخاطر التي تحيط بهم؛ يشتكي الصحافيون المقيمون في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية من تدني الأجور التي تدفعها وسائل الإعلام والمنصات التي يعملون لها، خصوصاً المحلية منها، ولم يعد الصحافيون يحظون بأجور معقولة إلا العاملين في وسائل إعلام الجماعة الحوثية أو بعض مراسلي الإعلام العربي والدولي.

مخاطر كبيرة... وأجور متدنية

بعد معاناته لأكثر من 10 أسابيع في أحد سجون الجماعة، خرج الصحافي مهند جمال، وهو اسم مستعار، ليطالب المنصة التي كان يراسلها بزيادة في الأجر، لكنها رفضت تماماً.

هذا الرفض دفع جمال إلى البحث عن وسيلة إعلام عربية أو دولية للعمل معها، من أجل تحسين وضع عائلته المعيشي، بعد معاناتها خلال فترة اختطافه، إلا أنه لم يوفّق في الحصول على عمل جديد، ويخشى أن يكون عمله، قبل الاختطاف، في وسيلة إعلام رسمية تسيطر عليها الجماعة سبباً في رفض التعامل معه.

وكان جمال يعمل في مؤسسة عمومية تحت سيطرة جماعة الحوثي، ولا يتقاضى سوى نصف راتب كل 6 أشهر مثل غالبية الموظفين العموميين منذ 7 أعوام، وعمل لمدة عامين مراسلاً لوسيلة إعلام محلية محايدة بأجر زهيد، وجرى اختطافه وسجنه من قبل الجماعة بعد منشور له على «فيسبوك» يكشف فيه فساد أحد قادتها.

استولت الجماعة الحوثية على المؤسسات الإعلامية العمومية وجيرت نشاطها لصالحها (إكس)

ويكشف صحافي ثالث عن خطأ بسيط ارتكبه ليتسبب في اختطاف الجماعة الحوثية له واحتجازه لأيام. ويشير إلى الحيلة التي أنقذته من الإخفاء القسري أو السجن طويل الأمد كما يجري لكثير من الصحافيين والناشطين السياسيين والحقوقيين، في سجون الجماعة، حيث كان يعمل مع إحدى الجهات الدولية المعنية بحرية الصحافة حين توقف لالتقاط صورة لمبنى حكومي ضمن مهمته الصحافية.

يقول الصحافي: «كنت حذراً دائماً، إلا أن تلك المرة لم أنتبه إلى ما أفعل، وقفت أمام المبنى ورفعت الكاميرا لالتقاط الصورة، رغم أن عناصر الجماعة الذين يحرسون المبنى يقفون أمامي مباشرة، وعندما انتهيت وخفضت الكاميرا، كانوا يقفون حولي وأمسكوا بي واقتادوني إلى مقرهم، لتبدأ التحقيقات معي».

كانت التهم الجاهزة التي سمعها منهم، «الخيانة، والعمالة، والتقاط صور، وتحديد إحداثيات»، وبعد أن فتشوا هاتفه والكاميرا ومتعلقاته كلها ولم يجدوا ما يبحثون عنه، أبلغهم بأنه يعمل مصوراً لدى جهات سياحية تنشر صوراً ومقالات عن جمال الطبيعة والمدن والعمران، وكان فعلاً لديه بعض الصور المنشورة حول الطبيعة والعمران في اليمن.

اكتفى أفراد الجماعة بإجباره على حذف الصور التي التقطها، وأخذوا ما في حوزته من نقود، ثم أطلقوا سراحه بعد تحذيره من تكرار التصوير في الشوارع أو التقاط صور للمباني العامة، ولحسن حظه أنهم لم ينتبهوا حينها إلى رسائل وصلته من أحد القائمين على الجهة التي يعمل لها لإعطائه تعليمات حول مهمته.

إرهاب مصادر المعلومات

وقع عدد كبير من الصحافيين في قبضة جماعة الحوثي؛ بسبب الوشاية بهم من موالين للجماعة، أو من مسؤولي الأحياء الذين يعرفون بـ«عقال الحارات»، ومنهم مَن جرى اختطافه بعد حملة تفتيش لمقاهي إنترنت، أو فنادق، أو أماكن عامة كانوا يزورونها ويستخدمون الإنترنت فيها لإكمال مهامهم.

مخرج صحافي يمني فقد عمله وتحول لبيع نبتة القات بسبب تضييق الجماعة الحوثية على الصحافة (فيسبوك)

غير أن شاهر غانم، وهو اسم مستعار كذلك، كان أكثر جرأة، ورغم استخدامه اسماً مستعاراً في الكتابة، فإنه كاد يكشف نفسه عندما حصل على معلومات خطرة حول فساد في منشأة صحية، وكان مَن مدّه بتلك المعلومات مِن بين قلة من العاملين في المنشأة ممّن يمكنهم الوصول إلى تلك المعلومات.

ورغم توصية صديق غانم له بعدم نشر كامل المعلومات دفعة واحدة والتحفظ على بعضها؛ فإنه وفي غمرة حماسه نشر كل شيء، الأمر الذي دفع صديقه إلى التغيب عن العمل والتخفي ونقل مقر عائلته استعداداً للهرب خارج مناطق سيطرة الجماعة الحوثية.

إلا أن صراع الأجنحة الحوثية كان سبباً في إنقاذ صديقه وتشجيعه على العودة للعمل وكأن شيئاً لم يكن بعد التذرع بالانشغال بمرض عائلته، حيث جرى عزل القيادي الحوثي المتسبب بواقعة الفساد؛ بسبب خلافات مع قيادات حوثية عُليا حول نهب موارد المنشأة.

ويشعر شاهر بالغضب من نفسه والندم؛ لأن حماسته كادت تؤذي صديقه، إلى جانب أنها أفقدته ثقته به، وكان يمكن أن تؤذيه بالتبعية في حال جرى إجبار صديقه على الكشف عن الصحافي الذي نشر المعلومات.

ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن تخفيه خلف اسم مستعار ربما كان أحد أسباب غفلته عن إدراك عواقب ما قام بنشره، رغم أن ما نشره لم يكن مزيفاً.

ولمرات عدة خلال السنوات الماضية، حلت الجماعة الحوثية في المرتبة الثانية بعد تنظيم «داعش» من حيث الاعتداء على الحريات الصحافية، وممارسة الانتهاكات ضد الصحافيين، وفق تقييم منظمات صحافية دولية معنية بحرية الصحافة، وأدت تلك الممارسات إلى تجريف العمل الصحافي والإعلامي في مناطق سيطرتها، ونزوح جماعي للصحافيين منها.


مقالات ذات صلة

سفينة تنجو من 5 صواريخ في البحر الأحمر... وغارات غربية في تعز

العالم العربي السفينة اليونانية «توتور» الغارقة في البحر الأحمر عقب هجوم حوثي (إ.ب.أ)

سفينة تنجو من 5 صواريخ في البحر الأحمر... وغارات غربية في تعز

غداة قرار جديد لمجلس الأمن الدولي دعا فيه الحوثيين إلى وقف الهجمات ضد السفن، أفادت هيئة بريطانية بحرية، الجمعة، بتعرض سفينة في البحر الأحمر للهجوم بـ5 صواريخ.

علي ربيع (عدن)
العالم العربي الجماعة الحوثية تعتمد سياسة البطش والتنكيل بالسكان لإخضاعهم (إكس)

انقلابيو اليمن يختطفون 70 مدنياً من 5 محافظات 

اعتقلت الجماعة الحوثية أكثر من 70 مدنياً خلال أسبوعين وأودعتهم في سجون محافظات الحديدة وعمران وحجة وإب وذمار، بناء على تُهم ملفقة.

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
العالم العربي تراجع عائدات ميناء عدن بسبب تحويل البضائع إلى الموانئ الخاضعة للحوثيين (إعلام حكومي)

البنك الدولي: نصيب الفرد اليمني من الناتج المحلي ينخفض 54 ‎%‎

أكد البنك الدولي أن اقتصاد اليمن لا يزال يواجه عقبات كبيرة مع تفاقم الصراع المستمر والتوترات الإقليمية والأزمات الاقتصادية والإنسانية.

محمد ناصر (تعز)
العالم العربي السفينة اليونانية «توتور» الغارقة في البحر الأحمر إثر هجوم حوثي (رويترز)

خطر الحوثيين يتفاقم بحرياً وسط ضعف الحزم الدولي

يرى سياسيون يمنيون أن هناك تراخياً دولياً مع الجماعة الحوثية التي باتت هجماتها البحرية خطراً على المنطقة والعالم، حيث بلغ عدد السفن المهاجمة نحو 160 سفينة.

علي ربيع (عدن)
العالم العربي عنصر من ميليشيا الحوثي يفحص رجلاً عند نقطة تفتيش في صنعاء (إ.ب.أ)

​انقلابيو اليمن يضاعفون الرقابة الأمنية على سكان صنعاء

عزّز الحوثيون خلال الأسابيع القليلة الماضية من الرقابة الأمنية بصنعاء على السكان في المباني والأحياء مع ازدياد النقمة ضد الجماعة لعدم صرف المرتبات.

محمد ناصر (تعز)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
TT

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

لا يخفى على أحد مصدر القلق في العاصمة الألمانية برلين من النتائج المحتملة للانتخابات النيابية الفرنسية. فأولاً، هناك الثقل الذي تمثله فرنسا باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. وثانياً، فرنسا هي عضو الاتحاد الأوروبي الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي المتمتع بحق النقض (الفيتو). وثالثاً لأنها تمتلك وحدها القوة النووية.

فضلاً عما سبق، لطالما شكّل محور برلين - باريس الحاضنة للمشروع الأوروبي الذي جاء لقلب سنوات الحروب بين البلدين. وطيلة العقود المنصرمة، شكّل «الثنائي» الألماني - الفرنسي القاطرة التي دفعته إلى الأمام، وأفضت به لأن يضم راهناً 27 دولة أوروبية ويتأهب لفتح ذراعيه أمام أوكرانيا ومولدوفا، وثمة مجموعة دول أوروبية أخرى تنتظر أن يفتح لها الباب لولوج جنة الاتحاد.

القفز إلى المجهول

هذا ليست المرة الأولى التي قرّر فيها رئيس فرنسي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة»، فعل ذلك مرتين، وسار على دربه الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، وتبعه خليفته في قصر الإليزيه، جاك شيراك.

إلا أن ثمة فروقاً تجعل الوضع الراهن مختلفاً إلى حد كبير مع ما عرفته فرنسا في السابق. فخلال العقود المنصرمة، كانت الانتخابات تفضي إمّا إلى فوز اليمين التقليدي متحالفاً مع الوسط أو اليسار المسمّى «حكومي» وعَصَبه الحزب الاشتراكي. وعند فوز الأخير بالرئاسة للمرة الأولى في العام 1981، بناءً على «برنامج حُكم مشترك» يضم كل تلاوين اليسار، بما في ذلك الحزب الشيوعي، لم يتردّد ميتران في ضم وزيرين شيوعيين إلى حكومته مع أن فرنسا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والعالم غارق وقتها في «الحرب الباردة».

ولكن، رغم ذلك، سارت الأمور بسلاسة وبعيداً عن الهزّات لا في الداخل ولا في الخارج.

بعكس ذلك، أحدث قرار ماكرون زلزالاً سياسياً ستكون له تبعات لعقود على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا. واللافت، أن أقرب المقرّبين من ماكرون، مثل رئيس الحكومة غبريال أتال ورئيسة مجلس النواب يائيل براون - بيفيه وشركائه في السلطة ورئيس حكومته السابق أدوار فيليب... كلهم صبّوا جام غضبهم على قراره لأنه «غير مبرّر»، ولأن لا شيء كان يُلزمه بحل البرلمان، وبالأخص، بعد نجاح منقطع النظير لحزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الأوروبية حين حصد ضِعفي ما حصل عليه تحالف الأحزاب الثلاثة الداعمة للعهد والحكومة، أي «تجدد» و«الحركة الديمقراطية» و«هورايزون».

زعيم جبهة اليسار جان لوك ميلونشون (آ ف ب)

قرار ماكرون أحدث صدمة عامة. ولذا؛ سعى غير مرة، لشرح دوافعه وإقناع مواطنيه بصوابية قراره من غير أن يفلح. إذ بينت تقارير صحافية أنه اتخذ قراره بعيداً عن أي تشاور ضارباً عرض الحائط بما ينصّ عليه الدستور، الذي يفرض عليه التشاور مع رئيسي مجلسي النواب والشيوخ، مكتفياً بـ«نصائح» مجموعة ضيقة قريبة من المقربين منه.

رهانات ماكرون الخاطئة

لقد بدا واضحاً في الأيام القليلة التي انقضت بعد حل البرلمان، أن «رهانات» الرئيس الفرنسي جاءت خاطئة. ولفهم قراره، تتعين الإشارة إلى أن الانتخابات النيابية (التشريعية) السابقة لم تعط ماكرون سوى أكثرية نسبية في البرلمان، بعكس ما كانت عليه الأمور في ولايته السابقة حين تمتعت حكوماته المتعاقبة بأكثريات فضفاضة صادقت على كل مشاريع القوانين التي قُدّمت إلى البرلمان.

وحقاً، خلال السنتين المنصرمتين من ولايته الثانية، كان على حكومة إليزابيث بورن ثم حكومة غبرييل أتال التفاوض والمساومة، أحياناً مع اليمين وأحياناً أخرى مع اليسار و«الخضر»، لتوفير الأكثرية اللازمة. وكان «سيف» سحب الثقة منها دائماً قريباً من عنقها لدرجة أنه كان يمكن أن تسقط في حال توافقت المعارضة يميناً ويساراً على التخلص منها.

ولكن رغم هشاشة الوضع السياسي، انقضت سنتان من عمر العهد واستمرت الحياة السياسية على وتيرتها المعتادة. ومن هنا، فإن المحللين السياسيين اعتبروا بادرة ماكرون «متهوّرة» وقائمة على حسابات غير دقيقة. لا، بل إن كثيرين قارنوا بين ما حصل في ألمانيا، حيث حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على النسبة نفسها التي حصل عليها تحالف أحزاب ماكرون، ومع ذلك، لم ينخرط المستشار أولاف شولتس في مغامرة شبيهة بمغامرة ماكرون رداً على القفزة الانتخابية الكبيرة التي حققها حزب «البديل» اليميني المتطرف. وها هي الحياة السياسية في ألمانيا قد عادت إلى سابق عهدها بانتظار الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

جوردان بارديلا... مرشح اليمين المتطرف لرئاسة الحكومة العتيدة (رويترز)

أزمة نظام

يقول العارفون إن ماكرون راهن - في قراره - على أمرين: الأول، الانقسامات العميقة داخل اليسار الفرنسي بين حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون من جهة، وبين المكوّنات الأخرى من جهة ثانية... وتحديداً الحزب الاشتراكي و«الخضر». والآخر، ضَعف اليمين الفرنسي التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» - وريث الديغولية -، واعتباره أن ثمة فرصة لتشكيل «ائتلاف وسطي» يضم الأحزاب الثلاثة الداعمة له تقليدياً، والتي يمكن أن ينضم إليها مرشحون قادمون من اليسار المعتدل ومن اليمين التقليدي.

غير أن الرهانين سقطا: فاليسار نجح خلال زمن قياسي في طي صفحة الخلافات وتشكيل «جبهة شعبية جديدة» مع برنامج انتخابي محدّد. أما اليمين التقليدي، فإن رئيسه أريك سيوتي التحق باليمين المتطرف، في حين رفض أركانه المتبقّون العرض الرئاسي. ثم أن ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية ورئيس حزب ماكرون المسمّى «تجدد»، سارع إلى الإعلان عن أن «الائتلاف الوسطي» سيمتنع عن تقديم منافسين لمرشحي اليمين «الوسطيين» لتسهيل إعادة انتخابهم ولتشجيعهم لاحقاً للتعاون في حكومة قادمة.

خلال الأيام العشرين المنقضية منذ حلّ البرلمان، كانت الدعاية الرئاسية (أي... الرئيس ماكرون نفسه) تركّز على التخويف من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وأيضاً على إبراز التناقضات داخل اليسار، وخصوصاً على «التهويل» بسيطرة حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد عليه... فضلاً عن التنديد بزعيمه ميلونشون الذي اتهمته الدعاية الرئاسية بـ«معاداة السامية» بسبب مواقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة. وبالفعل، تحوّل هذا الاتهام «لازمة»... تتكرّر إلى ما لا نهاية في التجمعات الانتخابية وعلى شاشات التلفزيون.

أنا... أو «الحرب الأهلية»

وهكذا، رست صورة الوضع السياسي في فرنسا على الصورة التالية: ثمة ثلاث مجموعات سياسية تتقدمها مجموعة اليمين المتطرف - أي «التجمع الوطني» - بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا (مرشح «التجمع» لرئاسة الحكومة) التي ترجّح استطلاعات الرأي المتعاقبة على حصولها على 35 في المائة من الأصوات. المرتبة الثانية تحتلها وفق الاستطلاعات «الجبهة الشعبية الجديدة» (اليسار) التي تتأرجح نسبة أصواتها حول 30 في المائة. أما «الائتلاف الوسطي» فقد عجز عن تخطي عتبة الـ20 في المائة.

بيد أن ترجمة هذه النسب إلى مقاعد في البرلمان القادم تبدو بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المؤسسات المتخصصة؛ نظراً للنظام الانتخابي القائم على الدائرة الصغرى. إذ تضم فرنسا 577 دائرة انتخابية لكل منها معطياتها الخاصة، لكن المرجح وفق المعطيات المتوافرة حتى اليوم، أن أياً من المجموعات الثلاث لن تحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان القادم (289 نائباً). وبما أنه يصعب توقع تحالف أي مجموعتين من المجموعات الثلاث للحكم معاً، فإن تشكيل حكومة قادرة على حيازة ثقة البرلمان وتمرير القوانين وقيادة البلاد للسنوات الثلاث المتبقية للرئيس ماكرون في الإليزيه، سيكون بمثابة معجزة.

ينص الدستور الفرنسي على أنه لا يحق لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مرة جديدة إلا بعد مرور سنة على حله للمرة الأولى. وهذا يعني أن ماكرون سيكون مقيد اليدين وعاجزاً عملياً عن إيجاد أكثرية برلمانية مطلقة أو أكثرية نسبية لن يحصل عليها بسبب طغيان اليمين المتطرف و«الجبهة الشعبية الجديدة». وهنا يبدو واضحاً أن فرنسا تسير باتجاه أزمة حقيقية، أبعد من أزمة سياسية. بل هي بالأحرى «أزمة نظام» بسبب الانسداد السياسي المتجهة إليه بسرعة... إلا في حال فوز اليمين المتطرف بالأكثرية المطلقة، وهذا أمر قد يحصل وفق عدد من المحللين.

في رسالة مكتوبة وجهها ماكرون إلى الفرنسيين بداية الأسبوع من خلال الصحافة الإقليمية، فإنه ركّز على أمرين: أحدهما أن برنامج الحكم لليمين المتطرف، ولما يسميه «اليسار المتطرف»، سيشرع الباب أمام فرنسا لولوج أزمات متنوعة. والآخر التأكيد أن لا خلاص لها إلا بتمكين «ائتلاف الوسط» من الحصول على الأكثرية.

بيد أن الرئيس ذهب في اليوم التالي أبعد من ذلك؛ إذ حذر في «بودكاست» من انزلاق فرنسا نحو «الحرب الأهلية» في حال وصل حزب «التجمع الوطني» أو حزب «فرنسا الأبية» (من خلال «الجبهة الشعبية الجديدة») إلى الحكم. فاليمين المتطرف، كما قال، يصنّف المواطنين وفق ديانتهم وأصلهم بينما «فرنسا الأبية» يتبع «نهجاً طوائفياً».

هذا التنبيه استدعى ردود فعل عنيفة اتهمت الرئيس بـ«اللامسؤولية»؛ إذ قال بارديلا إنه «لا يجوز أن يصدر عن رئيس للجمهورية مثل هذا القول»، في حين اتهمه ميلونشون بـ«السعي دوماً لإشعال النار». كذلك، أثار هذا الكلام استغراباً شديداً حتى في صفوف «الماكرونية»؛ إذ اتهمه أحد نوابها بأنه «فقد بوصلته السياسية» وأنه يسعى لإخافة المواطنين المتقدمين في السن لدفعهم للعودة إلى أحضان حزبه.

والواقع، أن استطلاعات الرأي تبيّن أن الانتخابات القادمة ستشكل نوعاً من الاستفتاء على اسم ماكرون الذي أمضى في الحكم، حتى اليوم، سبع سنوات. كما أنها مرجّح أن تفضي الانتخابات إلى مجلس نيابي تحكمه الفوضى بسبب هشاشة السيناريوهات الحكومية التي قد تكون متاحة بناء على نتائج الانتخابات.

...وأخيراً، ثمة أحجية على ماكرون و«ائتلاف الوسط» حلها، وهي تتناول الجولة الانتخابية الثانية يوم الأحد 7 يوليو (تموز)، ومضمون «النصيحة» التي سيقدّمانها لناخبيهما في حال انحصر التنافس بين مرشح يميني متطرف وآخر من «الجبهة الشعبية الجديدة»... وما الذي سيتعين عليهم اختياره «ما بين الكوليرا والطاعون»!