العمل الصحافي بمناطق الحوثيين... السير في حقل ألغام

مخاطر محدقة وأجور متدنية... وتضييق على مصادر المعلومات

اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
TT

العمل الصحافي بمناطق الحوثيين... السير في حقل ألغام

اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)
اختفت الصحافة الورقية في مناطق سيطرة الحوثيين ولم تتبقَ إلا الصحف الموالية لهم (إكس)

«أتجول في الشوارع، وأزور المقاهي، وأستقل المواصلات العامة لأسمع أحاديث الناس، وأجالس الكثيرين خلال فترة المقيل، وقد أحظى بعد كل هذا بفكرة لكتابة مادة صحافية، وأستغرق أوقاتاً طويلة للحصول عليها ثم كتابتها بشكلها النهائي، لكني أتجنب قضايا الفساد والنهب والمظالم الجماعية وحتى الفردية؛ للحفاظ على سلامتي رغم استخدام اسم مستعار».

هكذا يلخص أحد الصحافيين المقيمين في العاصمة اليمنية، صنعاء، طريقة عمله للاستمرار في الحصول على مصدر دخل، بعد أن أُغلقت غالبية وسائل الإعلام، ولم تتبقَ سوى وسائل إعلام الجماعة الحوثية، ومنها وسائل الإعلام الرسمية التي تديرها لصالح مشروعها وتوجهاتها، ويشير إلى أنه يقدم نفسه غالباً بصفة «فني مختبرات»؛ تجنباً لأي شبهة قد تلحق به.

تسببت الجماعة الحوثية بتجريف الإعلام والصحافة في اليمن ونزوح الصحافيين (رويترز)

يذكر الصحافي لـ«الشرق الأوسط» أن وسائل الإعلام والمنصات التي يراسلها لم تتقبل فكرة أن يكتب لها بغير اسمه الحقيقي؛ لعدم إدراك القائمين عليها المخاطر التي قد تطاله، خصوصاً أنه يتجنب في المقابل الكتابة حول الفساد والانتهاكات، فلم يقتنع هؤلاء بسهولة أن العمل الصحافي في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية يعد مخاطرة كبيرة حتى في الترفيه.

ويضيف: «العمل الصحافي بحد ذاته أصبح شبه محظور، والصحافيون عادة في دائرة الشبهات. دائماً أتنقل من سكن إلى آخر قبل أن يتعرف جيراني على طبيعة عملي بعد أن أخبرهم بأني فني مختبرات، ولا أستطيع تناول القضايا الخطرة، إلا من طرف بعيد، دون أن أملك فرصة الحصول على المعلومات الكافية بشأنها».

ورغم المخاطر التي تحيط بهم؛ يشتكي الصحافيون المقيمون في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية من تدني الأجور التي تدفعها وسائل الإعلام والمنصات التي يعملون لها، خصوصاً المحلية منها، ولم يعد الصحافيون يحظون بأجور معقولة إلا العاملين في وسائل إعلام الجماعة الحوثية أو بعض مراسلي الإعلام العربي والدولي.

مخاطر كبيرة... وأجور متدنية

بعد معاناته لأكثر من 10 أسابيع في أحد سجون الجماعة، خرج الصحافي مهند جمال، وهو اسم مستعار، ليطالب المنصة التي كان يراسلها بزيادة في الأجر، لكنها رفضت تماماً.

هذا الرفض دفع جمال إلى البحث عن وسيلة إعلام عربية أو دولية للعمل معها، من أجل تحسين وضع عائلته المعيشي، بعد معاناتها خلال فترة اختطافه، إلا أنه لم يوفّق في الحصول على عمل جديد، ويخشى أن يكون عمله، قبل الاختطاف، في وسيلة إعلام رسمية تسيطر عليها الجماعة سبباً في رفض التعامل معه.

وكان جمال يعمل في مؤسسة عمومية تحت سيطرة جماعة الحوثي، ولا يتقاضى سوى نصف راتب كل 6 أشهر مثل غالبية الموظفين العموميين منذ 7 أعوام، وعمل لمدة عامين مراسلاً لوسيلة إعلام محلية محايدة بأجر زهيد، وجرى اختطافه وسجنه من قبل الجماعة بعد منشور له على «فيسبوك» يكشف فيه فساد أحد قادتها.

استولت الجماعة الحوثية على المؤسسات الإعلامية العمومية وجيرت نشاطها لصالحها (إكس)

ويكشف صحافي ثالث عن خطأ بسيط ارتكبه ليتسبب في اختطاف الجماعة الحوثية له واحتجازه لأيام. ويشير إلى الحيلة التي أنقذته من الإخفاء القسري أو السجن طويل الأمد كما يجري لكثير من الصحافيين والناشطين السياسيين والحقوقيين، في سجون الجماعة، حيث كان يعمل مع إحدى الجهات الدولية المعنية بحرية الصحافة حين توقف لالتقاط صورة لمبنى حكومي ضمن مهمته الصحافية.

يقول الصحافي: «كنت حذراً دائماً، إلا أن تلك المرة لم أنتبه إلى ما أفعل، وقفت أمام المبنى ورفعت الكاميرا لالتقاط الصورة، رغم أن عناصر الجماعة الذين يحرسون المبنى يقفون أمامي مباشرة، وعندما انتهيت وخفضت الكاميرا، كانوا يقفون حولي وأمسكوا بي واقتادوني إلى مقرهم، لتبدأ التحقيقات معي».

كانت التهم الجاهزة التي سمعها منهم، «الخيانة، والعمالة، والتقاط صور، وتحديد إحداثيات»، وبعد أن فتشوا هاتفه والكاميرا ومتعلقاته كلها ولم يجدوا ما يبحثون عنه، أبلغهم بأنه يعمل مصوراً لدى جهات سياحية تنشر صوراً ومقالات عن جمال الطبيعة والمدن والعمران، وكان فعلاً لديه بعض الصور المنشورة حول الطبيعة والعمران في اليمن.

اكتفى أفراد الجماعة بإجباره على حذف الصور التي التقطها، وأخذوا ما في حوزته من نقود، ثم أطلقوا سراحه بعد تحذيره من تكرار التصوير في الشوارع أو التقاط صور للمباني العامة، ولحسن حظه أنهم لم ينتبهوا حينها إلى رسائل وصلته من أحد القائمين على الجهة التي يعمل لها لإعطائه تعليمات حول مهمته.

إرهاب مصادر المعلومات

وقع عدد كبير من الصحافيين في قبضة جماعة الحوثي؛ بسبب الوشاية بهم من موالين للجماعة، أو من مسؤولي الأحياء الذين يعرفون بـ«عقال الحارات»، ومنهم مَن جرى اختطافه بعد حملة تفتيش لمقاهي إنترنت، أو فنادق، أو أماكن عامة كانوا يزورونها ويستخدمون الإنترنت فيها لإكمال مهامهم.

مخرج صحافي يمني فقد عمله وتحول لبيع نبتة القات بسبب تضييق الجماعة الحوثية على الصحافة (فيسبوك)

غير أن شاهر غانم، وهو اسم مستعار كذلك، كان أكثر جرأة، ورغم استخدامه اسماً مستعاراً في الكتابة، فإنه كاد يكشف نفسه عندما حصل على معلومات خطرة حول فساد في منشأة صحية، وكان مَن مدّه بتلك المعلومات مِن بين قلة من العاملين في المنشأة ممّن يمكنهم الوصول إلى تلك المعلومات.

ورغم توصية صديق غانم له بعدم نشر كامل المعلومات دفعة واحدة والتحفظ على بعضها؛ فإنه وفي غمرة حماسه نشر كل شيء، الأمر الذي دفع صديقه إلى التغيب عن العمل والتخفي ونقل مقر عائلته استعداداً للهرب خارج مناطق سيطرة الجماعة الحوثية.

إلا أن صراع الأجنحة الحوثية كان سبباً في إنقاذ صديقه وتشجيعه على العودة للعمل وكأن شيئاً لم يكن بعد التذرع بالانشغال بمرض عائلته، حيث جرى عزل القيادي الحوثي المتسبب بواقعة الفساد؛ بسبب خلافات مع قيادات حوثية عُليا حول نهب موارد المنشأة.

ويشعر شاهر بالغضب من نفسه والندم؛ لأن حماسته كادت تؤذي صديقه، إلى جانب أنها أفقدته ثقته به، وكان يمكن أن تؤذيه بالتبعية في حال جرى إجبار صديقه على الكشف عن الصحافي الذي نشر المعلومات.

ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن تخفيه خلف اسم مستعار ربما كان أحد أسباب غفلته عن إدراك عواقب ما قام بنشره، رغم أن ما نشره لم يكن مزيفاً.

ولمرات عدة خلال السنوات الماضية، حلت الجماعة الحوثية في المرتبة الثانية بعد تنظيم «داعش» من حيث الاعتداء على الحريات الصحافية، وممارسة الانتهاكات ضد الصحافيين، وفق تقييم منظمات صحافية دولية معنية بحرية الصحافة، وأدت تلك الممارسات إلى تجريف العمل الصحافي والإعلامي في مناطق سيطرتها، ونزوح جماعي للصحافيين منها.


مقالات ذات صلة

«اتفاق مسقط» للمحتجزين يفتح نافذة إنسانية وسط تفاؤل يمني حذر

العالم العربي مخاوف يمنية من إفراغ الحوثيين اتفاق تبادل المحتجزين من مضامينه (إعلام حكومي)

«اتفاق مسقط» للمحتجزين يفتح نافذة إنسانية وسط تفاؤل يمني حذر

اتفاق مسقط لتبادل نحو 2900 محتجز ينعش آمال اليمنيين بإنهاء معاناة الأسرى وسط تفاؤل حذر ومطالب بضمانات أممية لتنفيذ «الكل مقابل الكل»

«الشرق الأوسط» (الرياض - صنعاء)
العالم العربي لوحة في عدن تعرض صورة عيدروس الزبيدي رئيس «المجلس الانتقالي الجنوبي» الداعي للانفصال (رويترز)

الرياض ترسم مسار التهدئة شرق اليمن... «خروج سلس وعاجل» لـ«الانتقالي»

يرسم البيان السعودي مسار التهدئة شرق اليمن، داعياً لانسحاب قوات «الانتقالي» من حضرموت والمهرة، وسط ترحيب رئاسي وحكومي وإجماع حزبي ضد التصعيد.

«الشرق الأوسط» (جدة)
وفد سعودي زار حضرموت ضمن مساعي التهدئة وخفض التوتر (سبأ)

حضرموت تتمسك بالشرعية وتحذر من تكلفة «التحركات الأحادية»

جددت سلطة حضرموت دعمها الكامل للشرعية، محذّرة من التحركات العسكرية الأحادية، ومؤكدة أن أمن المحافظة، والحوار السياسي هما السبيل للاستقرار، والتنمية

«الشرق الأوسط» (جدة)
العالم العربي العليمي مستقبلاً في الرياض السفيرة الفرنسية لدى اليمن (سبأ)

العليمي يرفض «تقطيع» اليمن ويؤكد حماية المركز القانوني للدولة

جدّد العليمي رفضه القاطع لأي محاولات لتفكيك الدولة اليمنية أو فرض وقائع أحادية خارج المرجعيات الحاكمة للمرحلة الانتقالية مؤكداً حماية المركز القانوني للدولة

«الشرق الأوسط» (جدة)
خاص نجاح صفقة تبادل الأسرى مرتبط بجدية الحوثيين والوفاء بالتزاماتهم (إعلام حكومي)

خاص «اتفاق مسقط» لتبادل المحتجزين اختبار جديد لمصداقية الحوثيين

يُشكّل الاتفاق الذي أبرمته الحكومة اليمنية في مسقط مع الحوثيين لتبادل 2900 محتجز من الطرفين اختباراً جديداً لمدى مصداقية الجماعة في إغلاق هذا الملف الإنساني

محمد ناصر (تعز)

تقرير: إسرائيل تصدر أوامر إخلاء جديدة في شرق حي التفاح بمدينة غزة

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)
جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)
TT

تقرير: إسرائيل تصدر أوامر إخلاء جديدة في شرق حي التفاح بمدينة غزة

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)
جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق برج دبابة متمركزة في جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

أصدر الجيش الإسرائيلي، مساء اليوم (الخميس)، «أوامر إخلاء» جديدة للمواطنين في شرق حي التفاح بمدينة غزة.

وأفادت مراسلة وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) بأن «جيش الاحتلال أصدر أمر إخلاء لمربع سكني كامل في المنطقة التي يصفها بالآمنة، شرق حي التفاح، تمهيداً لنسفه، ولتوسيع ما يسمى (المكعبات الصفراء) لمسافة إضافية تزيد على 100 متر، وبعرض يزيد على 300 متر».

جنود إسرائيليون في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)

وأضافت «وفا» أن حركة نزوح واسعة بدأت لمئات العائلات من شرق حي التفاح.

وذكرت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أن الجيش قال إن القوات في شمال قطاع غزة «أطلقت النار على عنصر إرهابي، وقتلته بعد أن عبر خط وقف إطلاق النار، واقترب من القوات»، ما شكّل ما وصفه الجيش بأنه «تهديد مباشر».


موسكو تعلن تقديم «اقتراح» لباريس بشأن باحث فرنسي سجين

الباحث الفرنسي لوران فيناتييه المسجون في روسيا (أ.ب)
الباحث الفرنسي لوران فيناتييه المسجون في روسيا (أ.ب)
TT

موسكو تعلن تقديم «اقتراح» لباريس بشأن باحث فرنسي سجين

الباحث الفرنسي لوران فيناتييه المسجون في روسيا (أ.ب)
الباحث الفرنسي لوران فيناتييه المسجون في روسيا (أ.ب)

أعلنت موسكو، الخميس، أنها قدمت لباريس «اقتراحاً» بشأن الباحث الفرنسي لوران فيناتييه المسجون في روسيا منذ يونيو (حزيران) 2024، الذي يواجه احتمال المحاكمة بتهمة التجسس.

ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، يأتي الإعلان بشأن فيناتييه في وقت تتبادل روسيا وفرنسا تصريحات علنية بشأن الحاجة إلى حوار مباشر بين الرئيسين فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون، بعدما بلغت العلاقة بين البلدين أدنى مستوياتها عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا مطلع عام 2022.

وقال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في مؤتمره الصحافي اليومي الذي حضرته «وكالة الصحافة الفرنسية»: «جرت اتصالات ملائمة بيننا وبين الفرنسيين».

وأضاف: «قدمنا لهم اقتراحاً بشأن فيناتييه... الكرة الآن في ملعب فرنسا»، ممتنعاً عن تقديم تفاصيل إضافية لأن «هذا مجال شديد الحساسية».

وفي باريس، قال مكتب ماكرون إن الرئيس «يبذل قصارى جهده» مع بقية أجهزة الدولة المعنيّة لتأمين الإفراج عن فيناتييه «في أسرع وقت ممكن»، مشدداً على أن الباحث محتجز «بشكل تعسفي».

وأعربت عائلة الباحث على لسان محاميها، عن أملها أن يُفرج عنه خلال فترة الأعياد التي تنتهي في السابع من يناير (كانون الثاني)، يوم تحيي الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الشرقي عيد الميلاد.

وقال المحامي فريدريك بولو لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن العائلة «متفائلة بحذر»، مضيفاً «لدينا ملء الثقة بالدبلوماسية الفرنسية التي تقوم بكل ما في وسعها».

وأمل أن يُبحث مصير فيناتييه في أي اتصال قد يجري بين بوتين وماكرون.

وكان بوتين قال خلال مؤتمره الصحافي السنوي الأسبوع الماضي، إنه ليس مطلعاً على القضية ويسمع بها للمرة الأولى، وذلك رداً على سؤال من مراسل فرنسي.

وأضاف: «أعدكم بأنني سأستوضح الأمر. وإذا توافرت أدنى فرصة لحل هذه المسألة إيجاباً وإذا أجازت القوانين الروسية ذلك، فسنفعل ما في وسعنا».

وقضت محكمة روسية في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 بسجن فيناتييه ثلاثة أعوام لعدم تسجيل نفسه كـ«عميل أجنبي»، بينما كان يجمع «معلومات عسكرية» قد تستخدم ضد «أمن» روسيا.

وأقر المتهم بالوقائع، لكنه دفع بجهله بما كان يتوجب عليه القيام به.

وفي أغسطس (آب)، مثل فيناتييه أمام محكمة روسية ليواجه تهم «تجسس» قد تؤدي في حال إدانته، إلى تشديد عقوبته. وقال في حينه إنه لا يتوقع «أي أمر جيد، ولا أي أمر إيجابي».

وقال والداه لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» في حينه إن نجلهما «سجين سياسي» تستخدمه روسيا بمثابة «بيدق» من أجل «الضغط».

وألقت روسيا القبض على عدد من الرعايا الأجانب لأسباب شتى منذ بدأت الحرب في أوكرانيا مطلع عام 2022، وأجرت خلال الأشهر الماضية عمليات تبادل أسرى مع الولايات المتحدة.

وفيناتييه البالغ 49 عاماً، باحث متخصص في ملف الفضاء ما بعد الحقبة السوفياتية، وكان يعمل على الأراضي الروسية مع مركز الحوار الإنساني، المنظمة السويسرية غير الحكومية التي تتوسط في النزاعات خارج الدوائر الدبلوماسية الرسمية.


5 قفزات في الذكاء الاصطناعي الطبي عام 2025

قلب مطبوع من خلايا المريض تحت إشراف الذكاء الاصطناعي
قلب مطبوع من خلايا المريض تحت إشراف الذكاء الاصطناعي
TT

5 قفزات في الذكاء الاصطناعي الطبي عام 2025

قلب مطبوع من خلايا المريض تحت إشراف الذكاء الاصطناعي
قلب مطبوع من خلايا المريض تحت إشراف الذكاء الاصطناعي

في الشهر الأخير من عام 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي الطبي فكرة تُناقَش في المؤتمرات، ولا وعداً تُسوّقه الشركات الناشئة، فقد أصبح شريكاً صامتاً في العيادة، يجلس إلى جانب الطبيب، يقرأ ما لا تراه العين، ويتنبأ بما لم يبدأ بعد.

من «الاختبار البحثي» إلى «القرار السريري»

هذا العام تحديداً، شهد انتقال الذكاء الاصطناعي من مرحلة «الاختبار البحثي» إلى «القرار السريري»؛ حيث بدأت الخوارزميات لا تشرح المرض فقط، بل تسبق ظهوره، وتُعيد تعريف معنى التشخيص المبكر والعلاج الدقيق.

خوارزمية تكتشف السرطان من صورة الرنين خلال ثوانٍ

قفزات الذكاء الاصطناعي

وفيما يلي خمس قفزات موثّقة نُشرت نتائجها في 2025، تُظهر كيف تحوّل السيليكون إلى أداة إنقاذ حقيقية.

1.حين يكتشف الذكاء الاصطناعي السرطان قبل أن ينهض المريض

في الولايات المتحدة، قدّم باحثون نموذجاً جديداً يُعرف باسم بي - كانسر (P - Cancer)، قادراً على تحليل صور الرنين المغناطيسي للبروستاتا خلال 12 ثانية فقط. ولا يكتفي النظام برصد وجود الورم، بل يميّز بين السرطان البطيء، وذلك الذي يُعدّ خطراً سريرياً، بدقة بلغت 94 في المائة، متفوّقاً على اختصاصي الأشعة بفارق 75 في المائة.

والأهم أن تقرير الخوارزمية يصل إلى الطبيب، قبل أن يغادر المريض سرير الفحص، مختصراً أسابيع الانتظار إلى دقائق، ومغيّراً إيقاع التشخيص من الترقّب إلى القرار.

ذكاء اصطناعي يتنبأ بالنوبة القلبية قبل ظهور الأعراض

القلب والطب الوقائي

2.قلبٌ يبوح بمستقبله... قبل أول ألم

في كليفلاند كلينك، تجاوز الذكاء الاصطناعي قراءة صور القلب إلى استشراف مستقبله الصحي.

ويدمج هذا النموذج المتقدّم بين تصوير الرنين المغناطيسي للقلب والبيانات الوراثية، ونجح في التنبؤ بحدوث أحداث قلبية كبرى خلال السنوات الخمس المقبلة بدقة قاربت 90 في المائة. ولا تعني هذه القفزة تشخيص المرض فحسب، بل اعتراضه قبل أن يتجسّد، فاتحة الباب أمام طب وقائي يُكتب فيه الدواء قبل ظهور العرض.

3.قلب مطبوع... وخوارزمية تراقب نبضه

أواخر عام 2025، أعلن أحد المعاهد البحثية العالمية عن إنجاز بدا أقرب إلى الخيال العلمي: قلب بشري مطبوع ثلاثي الأبعاد بالكامل من خلايا المريض نفسه.

لكن القلب لم يُترك للصدفة. خوارزميات تعلّم عميق راقبت عملية الطباعة لحظة بلحظة، وضبطت تدفّق الدم الرقمي داخل النموذج؛ ما أسهم في خفض خطر التجلّط بنسبة 38 في المائة. هنا لم يعد الذكاء الاصطناعي أداة تحليل أو دعم قرار، بل أصبح جزءاً من فيزيولوجيا العضو نفسه.

دمج صورة العين والسجل الطبي لتخصيص علاج السكري

علاج السكري.. وتشخيص الخرف

4.حين تلتقي صورة العين بسطرٍ في الملف الطبي

في الولايات المتحدة، برز هذا العام نموذج ديب - دايبيت (Deep - Diabetes) كأحد أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي نضجاً في علاج السكري من النوع الثاني.

ويدمج النظام بين صورة شبكية العين والمعلومات النصية في ملف المريض، ليقترح خطة علاج وتغذية مصممة بدقة لكل فرد.

وأظهرت تجربة سريرية شملت أكثر من 50 ألف مريض، تحسّناً إضافياً في مستوى الهيموغلوبين السكري (HbA1c) (أو ما يسمى بمعدل السكر التراكمي) بمقدار 0.9 في المائة مقارنة بالرعاية التقليدية، وهو رقم قد يبدو متواضعاً، لكنه كبير الأثر في ميزان المضاعفات.

تشخيص الخرف من شبكية العين في دقيقة واحدة

5.الخرف يُرى في العين... لا في الذاكرة

في كندا، طُوّر جهاز محمول يُعرف باسم لومي - نيرو (Lumi - Neuro)، قادر على تصوير ترسّبات بروتين الأميلويد في شبكية العين، دون حقن أو أي تدخل جراحي.

وخلال دقيقة واحدة فقط، يقدّر الجهاز خطر الخرف المبكر بدقة بلغت 88 في المائة، وبتكلفة تقل عن 20 دولاراً للفحص.

وبروتين الأميلويد هو بروتين يتكوّن طبيعياً في الجسم، لكن عند اختلال آلية التخلص منه يبدأ بالتراكم على شكل ترسّبات لزجة بين خلايا الدماغ. ويعطّل هذا التراكم التواصل العصبي ويُعدّ من العلامات البيولوجية المبكرة المرتبطة بمرض ألزهايمر وأنواع من الخرف، وغالباً ما يبدأ قبل ظهور الأعراض بسنوات طويلة.

بهذه البساطة، انتقل تشخيص الخرف من العيادات المتخصصة إلى العيادات المتنقلة، ومن الانتظار الطويل إلى الكشف المبكر.

السعودية... الذكاء الاصطناعي من البحث إلى القرار الصحي

في المملكة العربية السعودية، شهد عام 2025، تسارعاً لافتاً في توظيف الذكاء الاصطناعي داخل المنظومة الصحية، من التشخيص المبكر إلى دعم القرار السريري؛ فقد أُطلقت منصات وطنية لتحليل الصور الطبية والسجلات الصحية الضخمة، وأسهمت خوارزميات محلية في تحسين دقة الكشف عن أمراض القلب والسكري والأورام، ضمن إطار تنظيمي تقوده الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا SDAIA).

بهذا الانتقال، لم تعد المملكة مستهلكة للتقنية، بل شريك في صياغة نموذج عربي للطب الذكي، يوازن بين الابتكار، الحوكمة، وخصوصية المريض.

ما بعد 2025: حين تسبق الأخلاقياتُ الخوارزميةَ

ورغم هذه القفزات، لم يكن عام 2025 خالياً من الأسئلة. فقد كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة «نيتشر ميديسن» (Nature Medicine) عن تحيّزات مرتبطة بالعرق وبالاختلافات بين الرجال والنساء في بعض نماذج تشخيص السرطان، ما أعاد إلى الواجهة مفهوم عدالة الخوارزمية، والحاجة إلى حوكمة صارمة للبيانات الطبية، وشفافية واضحة في اتخاذ القرار السريري.

فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من الدقة، لا يتجاوز كونه مرآة لمن صممه... ودقته الأخلاقية لا تقل أهمية عن دقته الحسابية.

الخلاصة: فرصة لا تُكرر

ما كشفه عام 2025 أن الذكاء الاصطناعي الطبي لم يعد وعداً مؤجّلاً، بل لحظة حاضرة في قلب الممارسة اليومية.

هو طبّ يعيد ترتيب الزمن: يسبق المرض إلى جذوره، ويمنح الطبيب ما كان ينقصه دائماً... وقتاً للفهم، ومساحة للرحمة.

أما العالم العربي؛ فهو يقف اليوم عند عتبة تاريخية نادرة، فإمّا أن يكتفي بقراءة هذه التحوّلات من بعيد، أو أن يشارك في كتابتها، مساهماً في صياغة طبٍّ ذكي لا يُقصي الإنسان، بل يعيده إلى مركز المعادلة.

فالفرص الكبرى لا تتكرر... بل تُدرك حين يحسن أصحابها الإصغاء لنداء الزمن

وكما أدرك ابن سينا منذ قرون، فإن جوهر الطب ليس في الأدوات، بل في فهم الإنسان قبل علّته... وكل تقنية لا تخدم هذا الفهم، تبقى ناقصة، مهما بلغت دقّتها.