منذ عززت السعودية من الانتباه إلى ثروتها من التراث والآثار، وهي تحقق تقدماً في اكتشاف غنى المناطق السعودية وما تحتفظ به من سجلات أثرية تاريخية، ومن ذلك التراث العمراني الذي يمثل شاهداً حيّاً على الحكايات الاجتماعية، ووسيلة لفهم الماضي، ومساعداً في اتخاذ قرارات واعية بشأن المستقبل، على اعتبار أن كل مبنى عمراني، وطراز هندسي، أو موقع تاريخي، يسهم في إعادة تشكيل الإدراك لهوية المكان، وتوجيه سياسات الحماية والترميم.
ومن بيوت الطين إلى الأحياء القديمة، ومن الأبواب المزخرفة والمشربيات العتيقة، والعديد من صور الإرث المعماري، بدأت السعودية العمل على إعادة استكشاف الأماكن، وتوثيق التفاصيل، وتطوير سجلها الوطني للتراث العمراني، الذي انضمت إليه الآلاف من مواقع التراث العمراني، تعزيزاً لحماية هذه المواقع من التعديات أو الإهمال، وضماناً لصونها للأجيال القادمة.

أكثر من 36 ألف موقع للإرث المعماري
أعلنت هيئة التراث، الاثنين، عن تسجيل دفعة جديدة من مواقع التراث العمراني، بلغت 2748 موقعاً تراثياً عمرانياً جديداً، تنضم إلى سابقاتها في السجل الوطني للتراث العمراني، ليرتفع بذلك إجمالي عدد المواقع المسجلة إلى 36919 موقعاً، ما يعكس تنوع النسيج المعماري التراثي في مناطق المملكة، وثراء المكونات العمرانية المرتبطة بالهوية الوطنية.
وشملت قائمة التسجيل الجديدة عدداً من مناطق المملكة، تتقدمها منطقة مكة المكرمة بـ635 موقعاً، و8 مواقع في المنطقة الشرقية، و1729 موقعاً في منطقة عسير، وموقع واحد في منطقة حائل، و35 موقعاً في منطقة الحدود الشمالية، إلى جانب 340 موقعاً في منطقة الباحة.

وثيقة وطنية مهمة لتوثيق التراث المعماري
ويُعد السجل الوطني للتراث العمراني، وثيقة وطنية مهمة لحفظ وتوثيق التراث المعماري، وتصنيف مواقع التراث في السعودية، ليحوّل المباني من مجرد مواقع إلى ذاكرةٍ حيّة تعكس هوية المكان وتاريخه.
ويُعنى السجل الوطني بتوثيق المواقع التراثية وتسجيلها وتصنيفها حسب نظام الآثار والتراث العمراني ولوائحه التنفيذية، وإسقاطها على خرائط رقمية تمكِّن من تسهيل إدارتها وحمايتها والمحافظة عليها، وبناء قاعدة بيانات مكانية للمواقع التراثية المسجلة، وحفظ وتوثيق الأعمال التي تجري فيها، وأرشفة وثائق وصور مواقع التراث الثقافي، إضافة إلى إيجاد حلول تطبيقية لإدارة أعمال قطاع التراث الوطني، وتوفير المعلومات المساندة التي تعين على اتخاذ قرارات حفظ وصيانة المواقع التراثية، وإتاحة المعلومات للباحثين والمختصين؛ للاطلاع عليها بيسرٍ وسهولة.
ويمثل تسجيل المواقع، المبنيّ على الأنظمة المتعلقة بالآثار والتراث العمراني، والصلاحيات الممنوحة لهيئة التراث السعودية في اعتماد تسجيل المواقع التراثية، خطوة مهمة لتوسيع نطاق الحماية القانونية للمواقع التراثية، وتمكين تأهيلها واستثمارها بما يبرز قيمتها التاريخية والعمرانية، ويعزز من دورها في تنمية الوعي بالتراث الوطني وتكريس الهوية الثقافية للسعودية.
وقال الباحث علي الحضريتي إن التراث العمراني لا يتوقف عند كونه مجرد هياكل ومبانٍ قديمة، آيلة للاندثار والنسيان، بل هو شاهد على منظومات اجتماعية وثقافية، انعكست في أنماط البناء وتفاصيله الهندسية ووظائفه المعيشية.
وأشار الحضريتي، الذي يعكف على إنجاز دراسة في الحكايات الشفهية في مناطق جنوب غرب السعودية، إلى أن التراث العمراني في السعودية يحظى بتنوع وثراء كبيرين، ويتأثر التنوع فيه حسب البيئة والمجتمع والنظام الثقافي السائد، مؤكداً أن الكثير من أبعاد التراث لا تزال مجهولة وغائبة، وينقصها التوثيق والدراسة المتعمقة، وأن السجلات الوطنية التي تبنتها هيئة التراث في مجالات مختلفة، ستحافظ على الإرث وتستبقيه، لتشجيع الباحثين والدارسين لتتبع تفاصيله واستلهامه في نتائجهم وجهودهم البحثية المهمة.
وتابع الحضريتي: «في عملي لتوثيق السرديات الاجتماعية من خلال الروايات الشفهية، دائماً ما تتقاطع الحكاية الاجتماعية مع المكان، وأجد أنماط العمارة وهندسة البيوت كاشفة عن أبعاد المنظومة الاجتماعية كلها، وهذا يتطلب من أجل توسيع فهمنا لدراسة تراثنا الثقافي من المنظور العلمي، إدارة هذا التراث والحفاظ على الأصول الثقافية، نظراً لقيمتها العلمية في إغناء العمل البحثي وتعزيز النتيجة الدراسية».
ويضيف: «في مناطق السعودية المتعددة، تتجول كباحث بين الأزقة العتيقة، والبيوت التقليدية، والقرى التراثية، وكأنك تسمع همس مَن سكنها، وعمّرها، ثم تركها شاهداً على عبق الماضي وذاكرة الزمن الجميل، ويحظى الكثير من مناطقنا ببيوت وقرى وقلاع تقف بثبات، رغم وطأة السنين، وتنطوي في تفاصيلها على الذكريات وروح المكان».
وناشد الحضريتي، جهات الاختصاص في السعودية الاستمرار في ترميم وتأهيل العديد من المباني التراثية، إتماماً لخطوتها في الإحصاء والتوثيق والتصنيف، والدأب على «حمايتها من الاندثار، للحفاظ على المخزون الأثري والإرث المعماري السعودي، وإدارة الموارد الثقافية، واستثمارها بما يعزز الهوية الوطنية ويصون الإرث للأجيال القادمة».





