صعدت نوال الزغبي إلى مسرح «بيروت هول» لتجسيد الصورة التي كرَّست حياتها للحفاظ عليها: فنانة متألّقة، امرأة حاضرة، أنثى أنيقة، وشخصية راسخة ليس من الإنصاف أن يُنكر أحد مكانتها. بدا فستانها الأسود الجلديّ شريكها في التمرُّد على حرارة أغسطس (آب) اللاهبة، تماماً كما تتمرَّد أغنياتها على الرحيل والنسيان. اشتكت من الحرّ رغم أجهزة التكييف، لكن ربما كانت تلك الحرارة هي دفء اللقاء مع جمهور حضر ليحتفل معها بإطلاق ألبومها الجديد «يا مشاعر». غنَّت منه، فإذا بالأحبّة يحفظون الكلمات ويردّدونها، كأنّ جديدها جزء قديم من ذاكرتهم. ارتفعت أصوات تُخبرها أنها تعشقها، فردَّت الودَّ، مؤكدة أنّ قلبها يتّسع لكلّ وفاء شكَّل دافعاً لبقائها.

لم تتكئ على لمعان اسمها لإنجاح الحفل، ولم تنطلق من حقيقة أنها نوال الزغبي، وهذا يكفي ليغفر الجمهور أيَّ تهاون في التحضيرات. جاءت مُستعدّة، كأنها تؤكد أنّ المجد يحتاج دائماً إلى جهد. اعتمدت استراتيجية واضحة: أغنية جديدة تتبعها أغنية من أرشيفها المُذهَّب، فاختلط الحاضر بالماضي في الأذن والقلب. وربما ليست الفنانة المفضّلة لدى الجميع؛ فالأذواق مُتباينة، لكن لا أحد ينكر مكانتها في ذاكرة الأغنية العربية. منذ «عايزة الرد» في التسعينات، فـ«ماندم عليك» و«الليالي» و«بيلبقلك»... أثبتت أنها تعرف كيف تواكب تحوّلات الموسيقى وتمزج بذكاء بين البوب الشرقي والإيقاعات العالمية.

في الحفل البيروتي، ذكَّرت الأغنيات بأنها لا تتألَّف فقط من لحن وكلمة وصوت. هي صور وحنين وذكريات. الأغنية التي تهزّ القلب هي تلك التي تُخرج منّا نسخة قديمة لا تزال حاضرة من أيام ولّت، ومن عطر نُسيَ، ومن طفولة لم نعد نذكرها. أغنيات نوال أعادت فتح أبواب مقفلة في الذاكرة، وأيقظت نسخاً من ذواتنا دفنّاها تحت ركام الحياة. ومع كلّ أغنية من أرشيفها، بدا كأنّ زمناً كاملاً ينهض من سباته.
ذكَّر الحفل أيضاً بأنّ الاستمرار أصعب من الصعود. كثيرون لمعوا ثم خفتوا، فيما بريق نوال لا يزال يتوهَّج بعد 30 عاماً. تعرف كيف تُحافظ على إشراقتها: بالإطلالة والحرص عليها. بروح الشباب العصيّة على الانطفاء. وبقدرتها على تحويل الألم إلى ضوء، واليأس إلى رفض مُعلن للهزيمة. كانت على المسرح تُمثّل هذه الخيارات؛ بالضحكة والتمايُل المألوف الذي تشهد عليه ذاكرة جمهورها، وبنورٍ يُعلن أنّ الحياة ستظلّ تُخبّئ لنا المفاجآت.

حتى حين ارتدت الجِلْد الأسود في عزّ الصيف، فعلت ذلك لأنها لا تقبل بأقل من كمال الإطلالة. منذ بداياتها، أدركت أنّ الموضة هوية، فكانت من أوائل الفنانات اللواتي مزجن بين الجرأة والأناقة. وهكذا تحوّلت إطلالاتها إلى امتداد لأغنياتها وترسيخ لصورة رسمتها بيدها واحتفظت بها مثل وعد لا يُخان.
بهذا الوعي، رسمت مسارها: فنانة متجدّدة لا تسمح للزمن بأن يحدّها، وامرأة ساطعة تعرف أنّ الأناقة قرار. وبين التجدُّد والسطوع، لم تُقدّم نوال الزغبي الصلابة النسائية في أغنية واحدة وانتهى الأمر؛ قدَّمتها على أنها مسار شخصي وفنّي. ففي هذا الصنف الغنائي، صالحت مرآتها. تشظَّت وظلَّت تبتسم لهذه المرآة. خُذلت وصُفعت؛ فرقصت على وَقْع الصَّفْع والخذلان.

كانت كلّ ذلك في الحفل: مجد واستمرارية، وجع الماضي وابتسامة جميع الأيام، حضور وكاريزما، وأناقة ومسار غنائي طويل. بدت كأنها تقول إنّ الفنّ الحقيقي حكاية عمر، وكلّ أغنية تحمل قدراً من الصبر والفرح. وفي بيروت؛ المدينة التي تعلَّمت كيف تلمح في كلّ انكسار ولادة، بدت نوال الزغبي صورتها الموازية: امرأة تُدرك، مثل مدينتها، أنّ النهوض أسلوب حياة؛ فتُحوّل الندوب إلى زِينة، والعثرات إلى درب يقود نحو عودة أقوى.



