ارتبطت احتفالات رمضان في مصر على مر الأزمنة بألوان موسيقية ذات طابع خاص، ومن أبرزها موسيقى الفلكلور والحكي الشعبي على آلة الربابة العتيقة في مجالس السمر بالريف والمدن، سواء من جانب الأفراد، أو فرق الفنون الشعبية المستقلة والحكومية في المهرجانات التراثية والسياحية والخيام الرمضانية.
ولا تزال ليالي رمضان في القرى والأحياء القديمة في المدن على السواء تشهد اهتماماً خاصاً بهذه الآلة كما هي حاضرة دوماً في المناسبات السعيدة في شهور أخرى، وشهدت القاهرة موسيقاها والعزف المصاحب لها في الأحياء القديمة مثل السيدة زينب، والجمالية، فضلاً عن بعض المراكز الثقافية المستقلة مثل ساقية الصاوي في الزمالك.
وخلال الشهر الحالي، قُدمت على مسارح الدولة عبر حفلات فرقة «أولاد النيل» المستقلة في (مسرح البالون)، والتي اجتذبت الجمهور بشكل لافت. وداخل المسرح كان الرجل السبعيني ماهر عبد المنعم، يصغي للأغاني المصاحبة للربابة: «تعيدني هذه الموسيقى إلى نشأتي الريفية في جنوب مصر، حيث ارتبط الشهر الفضيل باحتفالات خاصة، تحتل فيها الربابة مساحة كبيرة».
ويتابع: «كانت المظاهر الاحتفالية تبدأ في الغالب بعد صلاة التراويح، وتستمر حتى السحور كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل».
بينما يعتبر صديقه إبراهيم صلاح أن الاستماع للفلكلور الشعبي والأغاني الروحانية من الطقوس الأساسية التي اعتاد عليها منذ طفولته؛ حيث الحاجة لتهذيب الروح، ويقول: «إن شجن موسيقى الربابة هو نوع من تطهير النفس، والمساعدة على الرجوع إلى السلام الروحي المفقود وسط ضغوطات الحياة، التي نحاول التخفف منها خلال شهر رمضان».
وتُعد آلة الربابة من أقدم وأشهر الآلات التي عرفها المصريون، بحسب الدكتور محمد شبانة أستاذ الموسيقى الشعبية بأكاديمية الفنون المصرية، مشيراً إلى أنه «حتى في الدراسات العلمية المرتبطة بعلم الآلات يطلق عليها «الرباب المصري»؛ وذلك تمييزاً لها عن الرباب الموجود في منطقة الشام، أو الجزيرة العربية».
ويقول شبانة لـ«الشرق الأوسط»: «الرباب في مصر نوعان، الأول (رباب الشاعر) وهو يشبه رباب القدح ذي الوتر الواحد والموجود في الجزيرة العربية، والآخر هو (رباب المغني) وهو أعلى في إمكانياته؛ إذ يتمتع بوترين، ويصنع من جوز الهند».
و يتابع: «آلة الربابة هي في واقع الأمر (آلة كونية)؛ لأنها موجودة بأشكال كثيرة في مختلف أنحاء العالم، وإن كانت في مصر لها أهمية خاصة للغاية؛ إلى حد أن منشدي السيرة الشعبية كالسيرة الهلالية والسير الأخرى يعتبرونها آلة ذات قدسية، وهو ما يفسر سر أن شاعر السيرة وعازف الربابة على حسب أقوال الرواة كان ينبغي للواحد منهما أن يتوضأ قبل البدء في الغناء أو العزف عليها؛ من فرط احترامهما وتقديسهما لها».

ويوضح شبانة قائلاً: «الربابة آلة مهمة وحاضرة في الثقافة المصرية، وبشكل أساسي في الصعيد، وهي ذات امتدادات كبيرة في الجيزة، وبعض المحافظات الأخرى من مصر»، مشيراً إلى أنها «في رمضان تصبح أكثر انتشاراً؛ فهي موجودة بشكل مكثف دائماً سواء في القاهرة أو المحافظات».
وتصاحب الربابة الحكي الشعبي والسيرة الهلالية على وجه الخصوص، وذلك ما يبرره شبانة قائلاً: «يرجع ذلك إلى صوتها الناعم الشجي الحنون، وما يحمله من إحساس قوي بالأحزان والأفراح، فهي ليست صارخة الصوت، لكنها في الوقت نفسه تسمح بالألحان البطيئة والسريعة، وطويلة الوزن أو قصيرة الوزن؛ مما جعلها ملائمة لما تحمله السيرة والحكي من دروس وعبر ومواقف حزينة أو مفارقات الحياة».
وارتبط الحضور الطاغي للربابة في المناطق الريفية المصرية منذ القدم من خِلال المداحين، ورواة السِير الشعبية، وفِرق الفنون الفلكلورية، التي لها مستمعوها ومريدوها في الموالد، والاحتفالات الصوفية، والليالي الرمضانية؛ حيث تروى الحكايات والملاحم الشعبية، وفق إبراهيم القط عازف الربابة الصعيدي ومدير فرقة «أولاد النيل».

ويتابع القط: «تستطيع أن تستمع على موسيقاها إلى قصة عنترة بن شداد، وأسطورة الزير سالم، وبطولات أبو زيد الهلالي، كما تجدها حاضرة في كثير من الأفراح والأعراس الشعبية».
لكن القط يخشى على الربابة من الاندثار بسبب قلة عدد العازفين التقليديين الذين توارثوا العزف عليها وصناعتها عن آبائهم وأجدادهم، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «نعتز بها كثيراً؛ فقد ترسخ داخلنا أنها آلة تعود إلى أجدادنا المصريين القدماء، حيث تعلو رسومات لها جدران بعض المقابر والمعابد، في المناطق الأثرية بميت رهينة وأبو سمبل ودهشور».
ويأمل القط أن يتم الاهتمام بها من جانب الدولة؛ باعتبارها آلة عريقة مرتبط بالذاكرة الموسيقية المصرية، ويقول: «من جهتي قمت بالعمل على تطويرها من حيث الشكل والصوت معاً؛ لتصبح أكثر عصرية وتجتذب شباب العازفين».
ويتابع: «زودتها بـ(مفتاح ترس)، كما قمت بإضافة الصدف والقشرة؛ من أجل مظهر أكثر أناقة وحداثة، وذلك من دون المساس بهويتها وشخصيتها الأصيلة»، وفق عازف الربابة الصعيدي.