تارسيلا دو أمارال... الفنانة المتمردة التي رسمت البرازيل

معرض شامل لأعمالها في متحف لوكسمبورغ

الطبيعة بريشة الفنانة البرازيلية (متحف لوكسمبورغ)
الطبيعة بريشة الفنانة البرازيلية (متحف لوكسمبورغ)
TT

تارسيلا دو أمارال... الفنانة المتمردة التي رسمت البرازيل

الطبيعة بريشة الفنانة البرازيلية (متحف لوكسمبورغ)
الطبيعة بريشة الفنانة البرازيلية (متحف لوكسمبورغ)

مع صقيع الشمال الأوروبي، يأتي معرض الرسامة البرازيلية تارسيلا دو أمارال، في متحف دوقية لوكسمبورغ، ليشيع دفئاً لاتينياً جنوبياً يأخذ زواره إلى بقاع تحب الألوان الحارة والإيقاعات البدائية والرقصات الصاخبة. وإذا كان الكثيرون يتعرَّفون على هذه الفنانة للمرة الأولى ويكتشفون ريادتها على أكثر من صعيد، فإنها ثمرة ثقافتين، برازيلية وفرنسية، وُلدت أواخر القرن التاسع عشر، وأدركت ثلاثة أرباع القرن العشرين.

عاشت تارسيلا 86 عاماً، وكانت من المجددين في الفن التشكيلي والملتزمين بفن لا يكتفي بالنهل من ثراء المشهد الطبيعي في بلادها، بل وحركة المواطن في المجتمع ودوره في الأحداث السياسية. وُلدت لأسرة ثرية تتاجر بمحصول البن، لكنها اكتفت باسمها الأول وابتعدت عن وسطها الاجتماعي وتناست لقبها. خرجت من نمط العيش المريح الذي كان متاحاً لها، وانخرطت في الحركات السياسية، تتقلب مع تقلباتها. كان أسلوبها يتحول ويتطور تبعاً للتيارات التي تعاقبت على المشهد الفني. لكنها حافظت على هدف لم تحد عنه، هو أن تكون مرآة لثقافة البرازيل من خلال لوحات عملاقة وألوان متماهية تشبه الأحلام.

كادت الديكتاتوريات تمسخ الهويات، لكن الفنانة رسمت عالماً يشبهها، يتداخل فيه الواقع بالخيال. وتشرح سيسيليا براسكي، أمينة المعرض قائلة في تقديمها له: «لا يمكن لهذا المعرض الأوروبي الاستعادي أن يتجاهل انعكاس مفاهيم من نوع (العولمة) و(الترابط الثقافي) و(حقبة ما بعد الكولونيالية) وتأثيرها في تاريخ الفن، ولا مساهمة دراسات النوع الاجتماعي التي أنعشت الخطابات النقدية والتاريخية إلى حد كبير في العقود الأخيرة».

انتمت الفنانة إلى «مجموعة الخمسة» التي مثَّلت الحداثة البرازيلية في الفن التشكيلي، وضمّت أنيتا مالفاتي، ومينوتي ديل بيشيا، والأخوين أوزوالد وماريو دي أندراد. تعلمت الفرنسية منذ الصغر ودرست الفن في سان باولو، لكنها قرَّرت، في سن الثامنة والثلاثين، أن تنتقل إلى باريس. كانت العاصمة الفرنسية في عشرينات القرن الماضي قبلة فناني العالم. يقصدونها للتعلم والتحرر وتجريب أنماط ثورية في الرسم والنحت والأزياء والموسيقى والمسرح. وفي باريس التحقت الرسامة البرازيلية بدورات تعليمية لعدد من كبار الفنانين، منهم فرنان ليجيه. وخلال إقامتها في الخارج كان الفن في بلادها يأخذ منحى تجديدياً. وتَمثَّل ذلك في «أسبوع الفن المعاصر» الذي أُقيم عام 1922 احتفالاً بمرور 100 عام على استقلال البرازيل. كان مهرجاناً أسس للقطيعة مع المدارس الأكاديمية التقليدية.

حافظت تارسيلا على ما تراه مناسباً لها، وأنجزت كثيراً من الأعمال في عقد العشرينات من القرن الماضي، دون أن تنال حفاوة ذات بال؛ لأن الكل كان مسحوراً بالسوريالية. كان يروق لها أن تخالف نظرة الأوروبيين لثقافة بلدها. وأن ترسم لوحات من الفن الفطري الذي لا يشبه تصورات الجمهور الفرنسي عن البدائية اللاتينية. وفي تلك الفترة كانت الفنانة الوحيدة من أميركا اللاتينية التي تشارك في «صالون المستقلين» في باريس. تمسّكت بأسلوب واقعي ينسجم مع توجهها السياسي وانتمائها للحزب الشيوعي. كانت الشيوعية موضةً بين كثير من المثقفين الطليعيين، وقد سايرت مرحلتها وانتظرت سنوات طوالاً قبل أن تترك ريشتها ترتاد فضاءات الخيال والفانتازيا. وقد وصفها باولو هركنهوف، مدير متحف الفنون الجميلة في سان باولو بأنها «بارومتر المجتمع البرازيلي في العقود الأولى من القرن العشرين».

أول وآخر معرض شخصي لتارسيلا في باريس أُقيم عام 2006 في «بيت أميركا اللاتينية». وها هو معرض لوكسمبورغ يأتي ليعيد التذكير بفنانة متفردة ذات أسلوب خاص، غمست ريشتها في الثقافة الشعبية، ووجدت إلهامها في معتقدات السكان الأصليين للقارة، رغم أنها كانت امرأة بيضاء وأرستقراطية. ويرى بعض النقاد أن من الوهم اعتبار تارسيلا شخصيةً تمثل المصالحة الوطنية وتجميع فتات الهوية البرازيلية، في سياق قضايا الهويات التي تجد سوقاً اليوم. لكن من المؤكد أنها تبقى فنانةً على قدر من الأهمية.

ويضم المعرض 150 لوحة معلَّقة على جدران مطلية بالأصفر والأخضر والأزرق، ألوان علم البرازيل. وهناك كثير من اللوحات التي تعبِّر عن جماليات الطبيعة وتنوع أزهارها وأشجارها، بخطوط واضحة وأصباغ تبدو وكأنها مستلة من أشعة الشمس. لكن زائر المعرض لا يملك سوى التوقف مطولاً عند لوحتين كبيرتين أخاذتين: الأولى «بورتريه» ذاتي، والثانية لوحة عارية لامرأة سمراء تحمل في طيات جسدها الهائل بؤس حياة قاسية. كانت تارسيلا مناضلة نسوية أيضاً، خالفت توجهات النظام الذي حرص على أن يرسم للمرأة صورة تبسيطية ودوراً جمالياً يتحدد بحدود البيت.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق عمل للفنان مصطفى سنوسي (الشرق الأوسط)

حضور تشكيلي سعودي بارز في مهرجان «ضي للشباب العربي» بمصر

بات «مهرجان ضي للشباب العربي» الذي يطلقه «أتيليه العرب للثقافة والفنون» في مصر كل عامين، يشكل تظاهرة ثقافية تحتفي بالمواهب العربية الشابة في الفنون التشكيلية.

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق مشهد من معرض «آدم حنين... سنوات باريس» (مكتبة الإسكندرية)

روائع آدم حنين الباريسية ترى النور للمرة الأولى في مصر

تعكس أعماله الفنّية سمات ميَّزت آدم حنين في التصوير والنحت، إذ تكشف غلبة التجريد على لوحاته التصويرية، وسعيه إلى الوصول نحو آفاق روحية بالغة السمو والإنسانية.

حمدي عابدين (القاهرة)
يوميات الشرق ضمَّن الفنان السوري محمد حافظ فنّه لوعة تعذُّر النسيان (موقعه الإلكتروني)

«الوطن في حقيبة»... مطالبة فنّية برفع الحظر عن الانتماء

سنوات مرَّت ومحمد حافظ سوريٌّ جداً، في عزّ إمكان بزوغ الخيار الآخر؛ كأنْ يتغاضى مثلاً، أو يُشفى بعض الشيء من مرارة الأوطان. فنُّه عزاء لروحه المشتاقة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الغناء والرقص الشعبي في لوحات الفنان محسن أبو العزم (الشرق الأوسط)

«منمنمات شعبية»... معرض فني يرصد «الروح المصرية المبهجة»

«بائع العرقسوس»، و«طقوس الأفراح»، و«المولد»، و«الغناء الشعبي»... بهذه اللوحات أو اللقطات المأخوذة من الشارع المصري جسّد معرض «منمنمات شعبية» مشاهد حياتية مميزة.

محمد الكفراوي (القاهرة )

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)
المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)
TT

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)
المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

تنظّم «هيئة الأدب والنشر والترجمة» السعودية، أول نسخة من «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير (شباط) 2025؛ سعياً لإبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة، وتعزيز الحركة الأدبية والفكرية والعلمية في البلاد.

ويشمل المعرض الذي يأتي ضمن فعاليات موسم «شتاء جازان 25»، برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع؛ حيث يضم مشاركات مميّزة من دور نشر محلية ودولية، وندوات أدبية، وورشات عمل متخصصة. كما يُقدّم أنشطة تفاعلية تناسب جميع الفئات العمرية، مع التركيز على الأطفال والشباب، وعروض فنية وتراثية تعكس التنوع الثقافي وأصالة منطقة جازان. كما يتيح فرصة التعرّف على أحدث الإصدارات الأدبية والفكرية، مما يعزّز التبادل الثقافي بين المشاركين.

جاء هذا الحدث ضمن جهود «الهيئة» لتعزيز الحراك الثقافي في السعودية، وتحقيق مستهدفات «رؤية 2030»، من خلال نشر قيم المعرفة والإبداع، وتحفيز صناعة النشر المحلية.

ويُعد «معرض جازان للكتاب 2025» دعوة مفتوحة لكل عشاق الثقافة للاحتفاء بالفكر والأدب، واستكشاف عوالم الإبداع والابتكار التي تُثري الهوية الوطنية.