لبنان سعيد عقل... أملٌ بين الركام

جوقة «فيلوكاليا» توَّجت إحياء ذكرى رحيله بافتتاح صالونها الأدبي

حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)
حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)
TT

لبنان سعيد عقل... أملٌ بين الركام

حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)
حمل سعيد عقل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة (فيلوكاليا)

بإعلان «جمعية ومعهد فيلوكاليا» افتتاح صالون أدبي يستعيد إرث مَن أثروا بعطاءاتهم مشوار الإنسانية، تنتقل إلى ما يتجاوز كونها جوقة تُضفي بديع النغمات، لتنعم بتعدُّد الدور. توَّج الإعلان حفلَ إحياء الذكرى السنوية العاشرة لغياب شاعر لبنان سعيد عقل. ففي «دير الزيارة» التاريخي في منطقة عينطورة بقضاء كسروان اللبناني المُتّكئ بين الشجر والبحر، أُقيم التكريم للغائب الكبير. شعراء وإعلاميون وشخصيات حضروا ندوات تُحاكي ولعه الفريد بلبنانه الهوية والفكرة.

في كل مرة تنظّم «فيلوكاليا» أمسية، تنهمك رئيستها الأخت مارانا سعد بتتبُّع التفاصيل والحرص على الأناقة. تقول لـ«الشرق الأوسط» إنّ حجم الحضور بدا مفاجئاً، ولفتها اهتمام جيل الشباب بإرث الشاعر: «وسط الجوّ المشحون وتفاقُم التحدّيات، يمثّل ذلك الحضور لحظة أمل. لا تُدمّر الحرب أبنية وشوارع فقط. الحروب تعطُب النفوس. ألحَّت حاجةٌ لاستعادة أفكار كبار تمسّكوا بالهوية اللبنانية وشكّلوا إلهاماً للإنسانية. الذكرى العاشرة لرحيل سعيد عقل فرضت التغنّي بما ترك».

تنهمك الأخت مارانا سعد بتتبُّع التفاصيل والحرص على الأناقة (فيلوكاليا)

المبادرة ثقافية أدبية، أدارها الشاعر هنري زغيب، وأحيتها أوبرالياً جوقة «فيلوكاليا» بقيادة المايسترا مارانا سعد. بثوبها الأسود اللاهوتي، ووجهها المضيء بنور الداخل، وقفتْ تُلقي كلمة. تحدّثت عن سعيد عقل «أحد أعمدة الفكر والأدب والفلسفة، الذي حمل في قلبه وعقله روح لبنان الخالدة ورسم بكلماته دروباً صوب المجد والجمال». وأمام الحضور، تابعت: «اجتماعنا ليس مجرّد وقفة على عتبة الذكرى، وإنما تأكيد على أنّ إرث سعيد عقل الأدبي والفكري لا يزال حياً، يُلهمنا ويُحفّزنا على اكتشاف مزيد من جمال لغتنا وهويتنا».

10 سنوات، ولم تنطفئ شعلته، فتتساءل الأخت مارانا عن كيفية انطفاء شعلات أضاءت أفق الفكر اللبناني. تدرك تعذُّر غياب مَن تستطيع كلمتهم أن تكون وطناً، وتؤكد أنّ الاحتفاء بالإرث «عودة إلى السموّ، ودعوة للانتماء إلى الجمال في عالم يضجّ بالقبح؛ وللإبداع في زمن تراجُع الإيمان بالقدرة على التغيير».

أقيم تكريم سعيد عقل في «دير الزيارة» التاريخي بمنطقة عينطورة (فيلوكاليا)

يحملنا الحديث إلى أثر التكنولوجيا في المرء، فتُكمل كلامها عن تضاؤل الابتكار الصافي: «ساعد الذكاء الاصطناعي والتوسُّع التكنولوجي في التقدُّم لكنهما شكَّلا لهواً للفكر والرؤية. جميعنا يُركّز على الأرقام. لم نعد نميّز الألوان. كلماتنا تطفو على السطح مغادرةً الأعماق بلا عودة. التأمُّل يتلاشى ويتدهور واقع القراءة. الندوات التي تمنح روّداها الإلهام والحنين تُصاب بالندرة، ودورنا يقتضي التحرُّك».

تقرن النية بالفعل بإعلانها افتتاح صالون «فيلوكاليا» الأدبي وانطلاق ندواته الشهرية بإشراف هنري زغيب في يناير (كانون الثاني) تزامناً مع مئوية ولادة منصور الرحباني: «واحة أدبية وفنّية وشعرية لكلّ مبدع لبناني، ولارتقاء الثقافة وإحياء نتاج أعلامٍ لبنانيين رسموا خطّهم وغابوا ليظلّوا حاضرين بيننا». تفتّش عن الأمل بين الركام، وتستذكر كلمات المُحتفى به وهي «ترتفع فوق الألم وتمنح الإيمان بأنّ لبنان لن يُهزَم، ولغتنا وفكرنا وحضارتنا لا تُقهر».

المبادرة ثقافية أدبية أدارها الشاعر هنري زغيب (فيلوكاليا)

تُعلي رسالة سعيد عقل أحلاماً لا تعرف حدوداً، وحباً لا يجيد الخوف، ومستحيلاً يُطوّعه الممكن. تمهّلت الندوة الأولى أمام «لبنانه»، فتحدَّث فيها الشاعر سهيل مطر عن مُحتفى به يمثّل «كلاً لا يتجزّأ في جميع كتبه ومحاضرته»، متسائلاً: «هل مات سعيد عقل؟»، ليحسم: «لا، وهو القائل: (أقول الحياة العزم، حتى إذا أنا انتهيتُ تولَّى القبرُ عزميَ من بعدي)».

ثم سلَّم الكلام للشاعر حبيب يونس، فمرَّ على ثلاثة، خاتماً الندوة الأولى: «ثالوث لبنان القصيدة»، (من ملحمة «قدموس» إلى قصائد المنابر، فقصائده في وطنه الذي أحبَّ، وكلُّ بيت منها تاريخ ومدرسة وطريق حياة)، و«ثالوث لبنان البدايات الثلاث»، (العنبر، وقانا، والأبجدية)، و«ثالوث الشخصية الأُمَّويَّة اللبنانية»، (من خلال ثالوث الأُمَّويَّة واللغة والحرف).

الحاجة ملحَّة لاستعادة أفكار كبار تمسّكوا بالهوية اللبنانية (فيلوكاليا)

الجانب اللاهوتي في شعر المُكرَّم، تناولته الندوة الثانية، فدخل الآباء المحاضرون في العمق إلى فكره المُرتكز على معرفة الله، الكمال المطلق والجمال المطلق والحبّ المطلق؛ وهو ما ظهر في معظم قصائده المنفصلة، ومقاطع من رائعته «قدموس»، ومنها في صلاة مِرى: «أعطنا ربِّ قبل كل عطاء أن نحطَّ التفاتة في سناكا... كلُّ ما دون وجهك الجَم وهْمٌ، أعطِنا ربِّ، أعطِنا أن نراكَ».

ثم استطلعت الندوة الأخيرة رأي الشباب بالشاعر: هل قرأوه؟ هل تأثّروا به؟ فيها، تحدَّثت جنى سلوم عن فكره السياسي، وكيف شاء بناء لبنان على أُسس وطيدة. وتحدَّث المحامي جان بيار خليفة عن الاقتصاد السياسي في كتابات سعيد عقل ومحاضراته. وختمت الأكاديمية باميلا شربل متحدِّثةً عن تدريسها فكره التعليمي والتربوي، وكيف يعمل على نحت العقل وتجويد المعرفة.

بعد الشعر، موسيقى؛ فغرفت «فيلوكاليا» من ينابيع المُكرَّم «قصائد من دفترها»، و«أجراس الياسمين»، و«رندلى»؛ صاغ ألحانها المدير الفنّي في الجوقة المؤلّف الموسيقي إِياد كنعان، وأدّتها السوبرانو هيفاء يغيايان مع زينة العلم على البيانو. وأطربت الجوقة بقيادة رفقة يوسف، الحاضرين بـ«عم بحلمك يا حلم يا لبنان»؛ كتبها سعيد عقل ولحَّنها إلياس الرحباني وأهداها صوت ماجدة الرومي للذاكرة الخالدة.


مقالات ذات صلة

صفعات وضرب بالهواتف والمأكولات... بعض هدايا جمهور الحفلات إلى المغنِّين

يوميات الشرق المغنية الأميركية بيبي ريكسا مصابة بجرح في الحاجب بعد أن رماها معجب بهاتفه (إنستغرام)

صفعات وضرب بالهواتف والمأكولات... بعض هدايا جمهور الحفلات إلى المغنِّين

بعد أن كان نجوم الغناء يُرمَون بالورود خلال حفلاتهم، باتوا يُرشَقون بالأغراض المؤذية التي تنتج عنها إصابات. ما خلفيَّة هذه الظاهرة المستجدة؟

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق تشغيل موسيقى هادئة أثناء تناول الطعام يمكن أن يمنعك من الأكل بشراهة (رويترز)

الاستماع للموسيقى الهادئة أثناء تناول الطعام يمنعك من الأكل بشراهة

أشارت دراسة جديدة إلى أن تشغيل موسيقى هادئة أثناء تناول الطعام يمكن أن يمنعك من الأكل بشراهة.

«الشرق الأوسط» (روما)
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون المطرب أحمد عدوية (أرشيفية - وسائل إعلام مصرية)

وفاة المطرب الشعبي المصري أحمد عدوية عن 79 عاماً

توفي المطرب المصري أحمد عدوية، اليوم الأحد، عن عمر ناهز 79 عاماً، بعد أن ظل متربعاً على قمة الغناء الشعبي لعقود.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق حسام حبيب في ألبومه الجديد (إنستغرام)

حسام حبيب يروّج لألبومه الجديد بأغنية «كدابة»

عاد الفنان حسام حبيب إلى الساحة الغنائية بإعلان قرب إطلاق ألبومه الجديد، ونشر عبر صفحاته بموقعي التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«إنستغرام» مقاطع من أغنية.

محمد الكفراوي (القاهرة)

لماذا يرفض مصريون إعادة تمثال ديليسبس لمدخل قناة السويس؟

تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
TT

لماذا يرفض مصريون إعادة تمثال ديليسبس لمدخل قناة السويس؟

تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)
تمثال ديليسبس بمتحف قناة السويس (فيسبوك)

في الوقت الذي يشهد تصاعداً للجدل حول إعادة تمثال ديليسبس إلى مكانه الأصلي في المدخل الشمالي لقناة السويس، قررت محكمة القضاء الإداري بمصر الثلاثاء تأجيل نظر الطعن على قرار إعادة التمثال لجلسة 21 يناير (كانون الثاني) الحالي، للاطلاع على تقرير المفوضين.

وتباينت الآراء حول إعادة التمثال إلى موقعه، فبينما رأى معارضو الفكرة أن «ديليسبس يعدّ رمزاً للاستعمار، ولا يجوز وضع تمثاله في مدخل القناة»، رأى آخرون أنه «قدّم خدمات لمصر وساهم في إنشاء القناة التي تدر مليارات الدولارات على البلاد حتى الآن».

وكان محافظ بورسعيد قد أعلن أثناء الاحتفال بالعيد القومي للمحافظة، قبل أيام عدة، بأنه طلب من رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، إعادة تمثال ديليسبس إلى مكانه في مدخل القناة بناءً على مطالبات أهالي المحافظة، وأن رئيس الوزراء وعده بدراسة الأمر.

ويعود جدل إعادة التمثال إلى مدخل قناة السويس بمحافظة بورسعيد لعام 2020 حين تم نقل التمثال إلى متحف قناة السويس بمدينة الإسماعيلية (إحدى مدن القناة)، حينها بارك الكثير من الكتاب هذه الخطوة، رافضين وجود تمثال ديليسبس بمدخل قناة السويس، معتبرين أن «المقاول الفرنسي»، بحسب وصف بعضهم، «سارق لفكرة القناة وإحدى أذرع التدخل الأجنبي في شؤون مصر».

قاعدة تمثال ديليسبس ببورسعيد (محافظة بورسعيد)

ويعدّ فرديناند ديليسبس (1805 - 1894) من السياسيين الفرنسيين الذين عاشوا في مصر خلال القرن الـ19، وحصل على امتياز حفر قناة السويس من سعيد باشا حاكم مصر من الأسرة العلوية عام 1854 لمدة 99 عاماً، وتقرب من الخديو إسماعيل، حتى تم افتتاح القناة التي استغرق حفرها نحو 10 أعوام، وتم افتتاحها عام 1869.

وفي عام 1899، أي بعد مرور 5 سنوات على رحيل ديليسبس تقرر نصب تمثال له في مدخل القناة بمحافظة بورسعيد، وهذا التمثال الذي صممه الفنان الفرنسي إمانويل فرميم، مجوف من الداخل ومصنوع من الحديد والبرونز، بارتفاع 7.5 متر، وتم إدراجه عام 2017 ضمن الآثار الإسلامية والقبطية.

ويصل الأمر بالبعض إلى وصف ديليسبس بـ«الخائن الذي سهَّل دخول الإنجليز إلى مصر بعد أن وعد عرابي أن القناة منطقة محايدة ولن يسمح بدخول قوات عسكرية منها»، بحسب ما يؤكد المؤرخ المصري محمد الشافعي.

ويوضح الشافعي (صاحب كتاب «ديليسبس الأسطورة الكاذبة») وأحد قادة الحملة التي ترفض عودة التمثال إلى مكانه، لـ«الشرق الأوسط» أن «ديليسبس استعبد المصريين، وتسبب في مقتل نحو 120 ألف مصري في أعمال السخرة وحفر القناة، كما تسبب في إغراق مصر بالديون في عصري سعيد باشا والخديو إسماعيل، وأنه مدان بالسرقة والنصب على صاحب المشروع الأصلي».

وتعد قناة السويس أحد مصادر الدخل الرئيسية لمصر، وبلغت إيراداتها في العام المالي (2022- 2023) 9.4 مليار دولار، لكنها فقدت ما يقرب من 50 إلى 60 في المائة من دخلها خلال الشهور الماضية بسبب «حرب غزة» وهجمات الحوثيين باليمن على سفن في البحر الأحمر، وقدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الخسائر بأكثر من 6 مليارات دولار. وفق تصريح له في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي.

في المقابل، يقول الكاتب المصري علي سعدة، إن تمثال ديليسبس يمثل أثراً وجزءاً من تاريخ بورسعيد، رافضاً ما وصفه في مقال بجريدة «الدستور» المصرية بـ«المغالطات التاريخية» التي تروّجها جبهة الرفض، كما نشر سعدة خطاباً مفتوحاً موجهاً لمحافظ بورسعيد، كتبه مسؤول سابق بمكتب المحافظ جاء فيه «باسم الأغلبية المطلقة الواعية من أهل بورسعيد نود أن نشكركم على القرار الحكيم والشجاع بعودة تمثال ديليسبس إلى قاعدته».

واجتمع عدد من الرافضين لإعادة التمثال بنقابة الصحافيين المصرية مؤخراً، وأكدوا رفضهم عودته، كما طالبوا فرنسا بإزالة تمثال شامبليون الذي يظهر أمام إحدى الجامعات الفرنسية وهو يضع قدمه على أثر مصري قديم.

«المهندس النمساوي الإيطالي نيجريلي هو صاحب المشروع الأصلي لحفر قناة السويس، وتمت سرقته منه، بينما ديليسبس لم يكن مهندساً، فقد درس لعام واحد في كلية الحقوق وأُلحق بالسلك الدبلوماسي بتزكية من والده وعمه وتم فصله لفشله، وابنته نيجريلي التي حصلت على تعويض بعد إثباتها سرقة مشروع والدها»، وفق الشافعي.

وكانت الجمعية المصرية للدراسات التاريخية قد أصدرت بياناً أكدت فيه أن ديليسبس لا يستحق التكريم بوضع تمثاله في مدخل القناة، موضحة أن ما قام به من مخالفات ومن أعمال لم تكن في صالح مصر.

في حين كتب الدكتور أسامة الغزالي حرب مقالاً يؤكد فيه على موقفه السابق المؤيد لعودة التمثال إلى قاعدته في محافظة بورسعيد، باعتباره استكمالاً لطابع المدينة التاريخي، وممشاها السياحي بمدخل القناة.

وبحسب أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس المصرية والمحاضر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، الدكتور جمال شقرة، فقد «تمت صياغة وثيقة من الجمعية حين أثير الموضوع في المرة الأولى تؤكد أن ديليسبس ليس هو صاحب المشروع، لكنه لص سرق المشروع من آل سان سيمون». بحسب تصريحاته.

وفي ختام حديثه، قال شقرة لـ«الشرق الأوسط» إن «ديليسبس خان مصر وخدع أحمد عرابي حين فتح القناة أمام القوات الإنجليزية عام 1882، ونرى بوصفنا مؤرخين أنه لا يستحق أن يوضع له تمثال في مدخل قناة السويس».