«سيلَما»... روحٌ تائهة في صالات طرابلس المَنسيّة وبين ركامها

فيلم هادي زكّاك يحرّك عقارب الزمن المعلّق والجولة العالمية انطلقت من الجونة

حمل المخرج هادي زكاك كاميرته وذهب يبحث عمّا تبقّى من سينما طرابلس (صوَر زكّاك)
حمل المخرج هادي زكاك كاميرته وذهب يبحث عمّا تبقّى من سينما طرابلس (صوَر زكّاك)
TT

«سيلَما»... روحٌ تائهة في صالات طرابلس المَنسيّة وبين ركامها

حمل المخرج هادي زكاك كاميرته وذهب يبحث عمّا تبقّى من سينما طرابلس (صوَر زكّاك)
حمل المخرج هادي زكاك كاميرته وذهب يبحث عمّا تبقّى من سينما طرابلس (صوَر زكّاك)

اسمُها «سيلَما» وهي بطلة فيلم هادي زكّاك الجديد. ليست «سيلَما» امرأةً جميلة ولا شخصيةً حُبكت لها قصةٌ مثيرة. إنها ببساطة، السينما، كما كان يحلو للطرابلسيين أن يسمّوها.

المخرج اللبناني المخضرم، وهو أحد روّاد الفيلم الوثائقي في العالم العربي، مسكونٌ بالسينما؛ ليس صناعةً فحسب إنّما روحاً. لا يكتفي منها بصوَرِها وأصواتها وحكاياتها، بل تسحره السينما كمكان بقاعاته الدامسة ومقاعده النبيذيّة وجدرانه المخمليّة. تندهُ زكّاك أجيالٌ من البشر الذين عبروا تلك الصالات، تاركين خلفهم تاريخاً لم يأخذ نصيبَه من التأريخ.

«سيلَما» هي التسمية التي يطلقها الطرابلسيون على السينما (صوَر زكّاك)

بعدما أيقنَ المخرج أن صالات بيروت اندثرت إلى الأبد تحت الحجارة الجديدة لمشروع إعادة الإعمار، انتقل إلى طرابلس عام 2014. قصد عاصمة الشمال اللبناني بحثاً عن الوقت الضائع، لكنه وصل متأخراً على ما يخبر «الشرق الأوسط». لم يبقَ سوى واحدة من دُور المدينة التي كانت 42 في ماضٍ مضى، وتلك الناجية الوحيدة تُستخدم اليوم كمسرحٍ وليس كسينما.

يحدث أن تراه في إحدى لقطات الوثائقي، واقفاً مع كاميرته وسط ركامٍ وعشبٍ كثيف. «تلك كانت قاعة سينما وما عادت»، يقول زكّاك. إلا أن الحطام، والغبار الذي استوطن المقاعد، والشاشات التي انطفأت إلى غير رجعة، والحروف التي سقطت من أسماء الصالات بداعي الزمن والإهمال، لم تُثنِه عن استكمال مشروعه الذي استغرق العمل عليه 8 سنوات.

استغرق العمل على وثائقي «سيلَما» 8 سنوات (صوَر زكّاك)

هو عائدٌ للتوّ من مهرجان الجونة السينمائي، حيث جرى العرض الأول لـ«سيلَما». يعتبر أن مصر محطة أساسية خصوصاً أنّ «للسينما المصرية حضوراً وازناً في الفيلم، وقد استوقف المصريين كم أن سينما بلادهم فعلت فعلها في تطوّر المجتمع اللبناني خصوصاً والعربي عموماً، لا سيّما في موضوع صورة المرأة وحقوقها».

تسلك المعالجة التوثيقية التي اعتمدها زكّاك 3 خطوطٍ تاريخية، أوّلها فني يواكب رحلة صعود السينما، من تلك الصامتة، إلى الـ«سينما سكوب» مروراً بالأفلام المتعددة الجنسيات، وليس انتهاءً بالأفلام المستقلّة. يسير هذا الخط بالتوازي مع سيرة المدينة الباحثة أبداً عن هويةٍ لها؛ من الناصريّة إلى المقاومة الفلسطينية، والحرب الأهليّة، ثم الوصاية السوريّة، وصولاً إلى ثورة عام 2019. أما الخط الثالث فمجتمعيّ يوثّق التحوّلات التي مرّت على المجتمع الطرابلسي، وقد شكّلت «السيلَما» مرآةً لتلك التحوّلات، فكانت الصالات المغلقة وأماكن العروض في الهواء الطلق، محطات لقاءٍ بين الناس وأماكن نُسجت العلاقات الاجتماعية والإنسانية فيها.

حب الطرابلسيين للسينما عابرٌ للأزمنة وليست العروض في الهواء الطلق غريبة عن المدينة (صوَر زكّاك)

مع أنّ وجوههم لا تظهر في الوثائقي، إلا أن الناس هم روح العمل ومحرّكه. مكث زكّاك فترة طويلة في المدينة حيث لمس شوقاً لدى أهلها ومثقّفيها للكلام عن ذكرياتهم السينمائية فيها، وهو بنى علاقاتٍ إنسانية صادقة معهم.

يسمع المُشاهد أصواتهم وحكاياتهم وشهاداتهم عن تاريخ السينما في طرابلس، يرافقها ضجيج المدينة وأجزاء صوتيّة من أفلام كلاسيكية. يقول زكّاك إنه أخفى الوجوه عمداً لأنه أراد «أن تكون السينما هي البطلة التي في الواجهة أما المتحدّثون من أهل المدينة والمهنة، فبمثابة الحكواتيين الذين يسردون السيرة».

لم يُظهر المخرج وجوه ضيوف الوثائقي الـ40 فمنح أحاديّة البطولة للسينما (صوَر زكّاك)

يوضح المخرج أن «الصوت يعمل بعكس الصورة، فالأخيرة تخبر الكثير عن الموت، فيما يحمل الصوت الحياة إلى الفيلم». واللافت أنّ زكّاك اعتمد الصورة الفوتوغرافية الثابتة على امتداد الدقائق الـ90 من الوثائقي، على اعتبار أنها تجسيدٌ للزمن المتوقّف في صالات سينما المدينة. وقد تنوّعت الصور ما بين تلك المستقاة من الأرشيف وتلك التي التقطها زكّاك خلال رحلة التصوير الطويلة.

لم يسلب هذا الجمادُ «سيلَما» المعاني التاريخية والثقافية والإنسانية، إذ سلكت السيرة دربَها بسلاسة من دون أن تتحوّل إلى درسٍ في التاريخ؛ وقد شكّل هذا الأمر التحدّي الأكبر بالنسبة إلى زكّاك الذي لم يُرِد أن يرتدي ثوب المؤرّخ، ولا أن يبدوَ كسائحٍ متحسّرٍ يقف على أطلال المدينة وصالاتها السينمائية.

الفيلم مبني على الصور الفوتوغرافية وليس تلك المتحركة كتجسيد للزمن المتوقف (صوَر زكّاك)

نقّب زكّاك عن الجمال والأصالة والنوستالجيا في قلب الركام. اقتحم صالاتٍ عشّش فيها النسيان وجيَف الزواحف. «أوبرا»، «روكسي»، «ريفولي»... وغيرها من الأسماء التي صنعت المجد الثقافيّ، لمدينةٍ ما عاد في وسع أبنائها اليوم أن يشاهدوا فيلماً في قاعة سينما، إذا ما رغبوا في ذلك. «كان عملاً يدوياً شاقاً وشبيهاً بالبحث عن الآثار»، يتذكّر زكّاك المرحلة الأصعب من إنجاز الوثائقي.

طرق كذلك أبواب أشخاصٍ يشكّلون الذاكرة السينمائية للمدينة. فتّش بين ذكرياتهم عن صورٍ ووثائق نادرة، تخبر عن ماضٍ قريب، لكنه يبدو بعيداً جداً الآن لفرط ما لحقَ بسينما طرابلس من أضرار. من دون أن يتحوّل إلى مَرثيّة، يصوّر الفيلم النزول إلى الهاوية بعد سنوات الضوء. فهذه «السيلَما» ذاقت طعم العزّ وكانت القلب النابض للمدينة، قبل أن تتحوّل إلى مرتعٍ لمسلّحي الشوارع، ولاحقاً إلى قاعاتٍ تُنظّم فيها المهرجانات الحزبية، لتكون النهاية بإطفاء الأنوار وإقفال الأبواب أو حتى الهدم.

ملصق الفيلم الوثائقي «سيلَما» لهادي زكّاك

يدرك المخرج أن فيلماً وثائقياً، حتى وإن جال مهرجانات العالم، لن يحيي العظام وهي رميمُ ولن يستبدل صورَ «زعماء» طرابلس بملصقات أفلام وبمواعيد عروض جديدة. لكن في «سيلَما» يفعل زكّاك ما استطاعت عدسته، يغوص في الذكريات محاولاً تحصين ذاكرة المدينة الذهبيّة ضدّ الزوال.

لتلك الغاية، هو لم يكتفِ بالفيلم بل أرفقَه بكتابٍ حمل عنوان «العرض الأخير: سيرة سيلَما طرابلس»، كان قد صدر عام 2021 بموازاة الإعداد للوثائقي. ولأنه ليس من هواة السوداويّة، فهو يفتح نافذةً في ختام حديثه ليذكّر بأنّ السينما ما زالت حيّة في طرابلس، رغم موت أماكنها الأصليّة. فالمدينة على موعدٍ سنويّ مع مهرجانٍ للأفلام يتّسم بطابعٍ شبابيّ عابرٍ للحدود العربية، كما أنها شرّعت أبواباً جديدة لمشاريع ثقافية تضرب مواعيدَ دَوريّة مع العروض السينمائية.


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
TT

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)
عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)

قال الفنان المصري عمرو سعد إن غيابه عن السينما في السنوات الأخيرة جاء لحرصه على تقديم أعمال قوية بإمكانات مادية وفنية مناسبة، وأكد أنه يعود للسينما بأحدث أفلامه «الغربان» الذي قام بتصويره على مدى 4 سنوات بميزانية تقدر بنصف مليار جنيه (الدولار يساوي 49.73 جنيه)، وأن الفيلم تجري حالياً ترجمته إلى 12 لغة لعرضه عالمياً.

وأضاف سعد خلال جلسة حوارية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الخميس، أنه يظهر ضيف شرف لأول مرة من خلال فيلم «الست» الذي يروي سيرة سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وتقوم ببطولته منى زكي وإخراج مروان حامد، ومن إنتاج صندوق «بيج تايم» السعودي و«الشركة المتحدة» و«سينرجي» و«فيلم سكوير».

وعرض سعد لقطات من فيلم «الغربان» الذي يترقب عرضه خلال 2025، وتدور أحداثه في إطار من الحركة والتشويق فترة أربعينات القرن الماضي أثناء معركة «العلمين» خلال الحرب العالمية الثانية، ويضم الفيلم عدداً كبيراً من الممثلين من بينهم، مي عمر، وماجد المصري، وأسماء أبو اليزيد، وهو من تأليف وإخراج ياسين حسن الذي يخوض من خلاله تجربته الطويلة الأولى، وقد عدّه سعد مخرجاً عالمياً يمتلك موهبة كبيرة، والفيلم من إنتاج سيف عريبي.

وتطرق سعد إلى ظهوره ضيف شرف لأول مرة في فيلم «الست» أمام منى زكي، موضحاً: «تحمست كثيراً بعدما عرض علي المخرج مروان حامد ذلك، فأنا أتشرف بالعمل معه حتى لو كان مشهداً واحداً، وأجسد شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، ووجدت السيناريو الذي كتبه الروائي أحمد مراد شديد التميز، وأتمنى التوفيق للفنانة منى زكي والنجاح للفيلم».

وتطرق الناقد رامي عبد الرازق الذي أدار الحوار إلى بدايات عمرو سعد، وقال الأخير إن أسرته اعتادت اصطحابه للسينما لمشاهدة الأفلام، فتعلق بها منذ طفولته، مضيفاً: «مشوار البدايات لم يكن سهلاً، وقد خضت رحلة مريرة حتى أحقق حلمي، لكنني لا أريد أن أسرد تفاصيلها حتى لا يبكي الحضور، كما لا أرغب في الحديث عن نفسي، وإنما قد أكون مُلهماً لشباب في خطواتهم الأولى».

عمرو سعد في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (إدارة المهرجان)

وأرجع سعد نجاحه إلي «الإصرار والثقة»، ضارباً المثل بزملاء له بالمسرح الجامعي كانوا يفوقونه موهبة، لكن لم يكملوا مشوارهم بالتمثيل لعدم وجود هذا الإصرار لديهم، ناصحاً شباب الممثلين بالتمسك والإصرار على ما يطمحون إليه بشرط التسلح بالموهبة والثقافة، مشيراً إلى أنه كان يحضر جلسات كبار الأدباء والمثقفين، ومن بينهم الأديب العالمي نجيب محفوظ، كما استفاد من تجارب كبار الفنانين.

وعاد سعد ليؤكد أنه لم يراوده الشك في قدرته على تحقيق أحلامه حسبما يروي: «كنت كثيراً ما أتطلع لأفيشات الأفلام بـ(سينما كايرو)، وأنا أمر من أمامها، وأتصور نفسي متصدراً أحد الملصقات، والمثير أن أول ملصق حمل صورتي كان على هذه السينما».

ولفت الفنان المصري خلال حديثه إلى «أهمية مساندة صناعة السينما، وتخفيض رسوم التصوير في الشوارع والأماكن الأثرية؛ لأنها تمثل ترويجا مهماً وغير مباشر لمصر»، مؤكداً أن الفنان المصري يمثل قوة خشنة وليست ناعمة لقوة تأثيره، وأن مصر تضم قامات فنية كبيرة لا تقل عن المواهب العالمية، وقد أسهمت بفنونها وثقافتها على مدى أجيال في نشر اللهجة المصرية.

وبدأ عمرو سعد (47) عاماً مسيرته الفنية خلال فترة التسعينات عبر دور صغير بفيلم «الآخر» للمخرج يوسف شاهين، ثم فيلم «المدينة» ليسري نصر الله، وقدمه خالد يوسف في أفلام عدة، بدءاً من «خيانة مشروعة» و«حين ميسرة» و«دكان شحاتة» وصولاً إلى «كارما»، وقد حقق نجاحاً كبيراً في فيلم «مولانا» للمخرج مجدي أحمد علي، وترشح الفيلم لتمثيل مصر في منافسات الأوسكار 2018، كما لعب بطولة عدد كبير من المسلسلات التلفزيونية من بينها «يونس ولد فضة»، و«ملوك الجدعنة»، و«الأجهر»، بينما يستعد لتصوير مسلسل «سيد الناس» أمام إلهام شاهين وريم مصطفى الذي سيُعْرَض خلال الموسم الرمضاني المقبل.