أثار هدم قبة مدفن «مستولدة محمد علي باشا» الشهير بمدفن «حليم باشا» بجبَّانة الإمام الشافعي في القاهرة التاريخية موجة واسعة من الغضب بعد نشر ناشطين ومهتمين بالتراث والآثار صوراً توثق عملية هدم القبة التي كانت تتميز بطراز معماري فريد ونقوش مميزة. وذلك بعد أيام من هدم مدفن إبراهيم النبراوي، مع مدافن أخرى وُصفت بأنها «تراثية يستحيل تعويضها».
وعلَّق فنانون وإعلاميون من بينهم خالد النبوي على هدم مدافن في جبانة القاهرة، قائلاً عبر حسابه على «فيسبوك»: «عمرها آلاف السنين... عاوزين تخلوا عمرها صفر ليه؟».
كما انتقدت الإعلامية لميس الحديدي، هدم قبة «حليم باشا» عبر حسابها على منصة «إكس»، مساء الثلاثاء، قائلةً: «وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي... ووقفوا بعد دهر ينظرون كيف يهدم أبنائي تاريخي وذاكرة السنين... هكذا تتحدث مصر عن نفسها».
ورأت الحديدي في منشور لها العام الماضي أن «الإقدام على هدم المقابر يؤثر بالسلب على ترشيح خالد العناني وزير السياحة والآثار الأسبق لرئاسة اليونيسكو»، مضيفةً: «أول سؤال سوف يُسأل فيه: ماذا فعلت في التراث؟»، على حد تعبيرها.
وقالت الأثرية مونيكا حنا: «إلى متى يستمر الانتقام من الماضي... مدينة الألف مئذنة تحولت إلى مدينة الألف بلدوزر». وعلَّق زيزو عبده، مؤسس مبادرة «سيرة القاهرة»، على هدم القبة قائلاً: «هذه الصورة مفجعة... وقفت كثيراً عندها وتلجم اللسان الذي يريد أن يقول أشياء كثيرة غير لماذا وكيف تم الهدم؟». وفق تعبيره.
كما انتقد الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة هدم مدفن «حليم باشا» عبر حسابه على «فيسبوك» قائلاً: «أنقذوا مصر»، فيما تقدم النائب عبد المنعم إمام، رئيس حزب العدل، بطلب إحاطة موجه إلى وزيري السياحة والآثار، والتنمية المحلية، بشأن هدم قبة مستولدة محمد علي باشا، التي عدّها «جزءاً مهماً من التراث الثقافي والتاريخي لمصر».
وأشار إلى «أن القبة تحمل قيمة معمارية وأثرية لا تقدَّر بثمن» معتبراً أن «هدم القبة يمثل تهديداً للمواقع الأثرية والتراثية التي تشكل جزءاً كبيراً من الهوية المصرية».
كما علقت النائبة مها عبد الناصر على هدم القبة قائلةً: «تجاهُل القيمة التاريخية والتراثية لهذه المواقع يشكل خسارة كبيرة لا يمكن تعويضها»، مطالبةً بوقف أعمال الهدم، وعمل مراجعة شاملة من جميع الجهات المعنية لكل الأعمال لحماية ما تبقى من هذه الثروات الحضارية.
في المقابل، قال الدكتور مجدي شاكر، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، إن هذه القبة ليست أثراً وغير مسجلة ضمن قائمة الآثار، مشيراً إلى أنه «يتم تسجيل المباني التاريخية مباني أثرية منذ صدور قانون رقم 117 لعام 1983م والتي مر عليها 100 عام».
لكنَّ الدكتور أحمد سلامة، مدرس الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر، يؤكد أن تاريخ المدفن يعود إلى القرن التاسع عشر ويزيد عمره على 155 عاماً، وهو نفس تاريخ إنشاء مقابر «حوش الباشا» أو مقابر أسرة محمد علي، والمسجلة ضمن قوائم الآثار والقريبة من قبة حليم باشا.
ويرى سلامة أن «طراز القبة التي تم هدمها أهم من طراز مقابر حوش الباشا، لأنها تعد نموذجاً فريداً يحاكي الطرز المملوكية، أما قباب حوش الباشا فهي تعد حديثة نسبياً».
وانتقد سلامة تصريحات شاكر التي تبرَّأ فيها من كون قبة حليم باشا أثرية، وقال: «إذا لم تكن أثرية فلماذا لم تسجلها ضمن قوائم الآثار لا سيما أن قانون الآثار يوجب ضم أي مبنى مر على إنشائه أكثر من مائة عام إلى قائمة الآثار؟».
ويعبّر سلامة عن حزنه الكبير لهدم القبة: «دخلتها كثيراً وكنت أستمتع بنقوشها وزخارفها وتصميمها البديع، وأشعر بالصدمة وعدم القدرة على الحديث بعد رؤية صور هدمها».
وهو نفس ما تشعر به الدكتورة سهير حواس، أستاذة العمارة والتصميم العمراني بقسم الهندسة المعمارية بجامعة القاهرة، التي تقول لـ«الشرق الأوسط»: «أشعر بغصّة في حلقي، ويتملكني الحزن بسبب هدم قبة حليم باشا، فقد أفنيت عمري في حماية التراث، لكنني راهناً أرى المدافن التراثية والمسجَّلة بقوائم التراث ضمن جهاز التنسيق الحضاري تُهدَم من دون أي تعليق أو توضيح».
وترى حواس أن «تصريحات شاكر غير موفقة وتُدينه، لأنه يبدي اهتماماً بإجراء تسجيل الآثار بوصفه إجراءً روتينياً ووظيفياً، لكنه لا يكترث لأهمية المباني التراثية المعبِّرة عن الحضارة المصرية والمفترض أن يحميها».
وتنصلت وزارة السياحة والآثار المصرية في أكثر من مناسبة من «مسؤوليتها عن أعمال هدم مدافن في قرافة الإمام الشافعي والسيدة عائشة»، وقالت إنها ليست أثرية، وهو ما انتقده أثريون من بينهم الدكتور محمد عبد المقصود، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار.
وتتساءل حواس: «كيف يتم هدم كل هذه المدافن والقباب البديعة من دون تدخل اللجنة الدائمة لحصر المباني التابعة لمحافظة القاهرة؟»، مضيفةً أنه تم «رفع عشرات المدافن من قائمة التراث الحضاري لتسهيل هدمها خلال الفترة الماضية».
وفي بداية الشهر الجاري، انتقد علاء مبارك، نجل الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، إقدام السلطات المصرية على إزالة مدفن عائلة «ثابت» -عائلة والدته سوزان مبارك- بمنطقة الإمام الشافعي، وكتب عبر حسابه على «إكس»: «مدفن عائلة ثابت بالإمام الشافعي ضمن مدافن أخرى يتم نقل رفات الموتى منها مع إزالة المدفن»، ووصف الأمر بأنه «محزن ومؤلم»، منتقداً «إزالة مدافن تجاوز عمرها المائة والعشرين عاماً من أجل تنفيذ مشاريع توسعية من دون أي مراعاة لحرمة الموتى»، على حد تعبيره.
وتسعى الحكومة المصرية لإنشاء محاور مرورية جديدة للربط بين شرق وجنوب القاهرة عبر هذه الجبانة التاريخية، المسجَّلة في قوائم تراث «اليونيسكو».
وشارك في إنشاء مدافن القاهرة عدد من كبار المعماريين الأجانب، منهم المهندس الإيطالي إرنستو فيروتشي، كبير المهندسين في السرايات الملكية، وصاحب تصميم قصر رأس التين، ومبنى معهد الموسيقى العربية، وإضافات قصر عابدين.
وتضم جَبَّانة القاهرة بين جوانبها مقابر بعض الشخصيات الشهيرة، أمثال الإمام ورش، صاحب «قراءة ورش» القرآنية، ومقام الإمام وكيع مقرئ الإمام الشافعي، والشيخ محمد رفعت، وعبد الخالق باشا ثروت، والشمسي باشا، وعثمان مصطفى، ومحمد نسيم توفيق.
كما تضم رفات فنانين مشاهير، من بينهم يوسف وهبي، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وأسمهان، وفريد الأطرش، وهند رستم، وصلاح ذو الفقار.