جلسة علاج نفسي لاستيعاب المشاعر السلبية وفَهْم «الصدمة اللبنانية»

شعور الذنب مُبرَّر وواقع الأمان المقتول تؤجّجه الحرب

مساحة بوح هي بعض ما يُنقذ (أ.ب)
مساحة بوح هي بعض ما يُنقذ (أ.ب)
TT

جلسة علاج نفسي لاستيعاب المشاعر السلبية وفَهْم «الصدمة اللبنانية»

مساحة بوح هي بعض ما يُنقذ (أ.ب)
مساحة بوح هي بعض ما يُنقذ (أ.ب)

تتوالى الصدمات النفسية على لبناني لم يسترح منذ سنوات. مُحارب بلا وقفة. حلَّ حراك الشارع وقُتل. معه شُلَّ بلد وأُرسلت أحلام إلى الإعدام. وتوالت سلسلة القهر. تُبرّر المعالجة النفسية المتخصّصة بالسلوك العلاجي المعرفي للشباب والبالغين وكبار السنّ، ماري روز نجم، تضخُّم المشاعر وبلوغها الذروة المقلقة. فالشعور اليوم مُثبت بوقائع، وليس مما يُصوّره العقل لاختراع تراجيديا. تُشخِّص الحالات بتفاوت وفق متانة البنى النفسية وما يجرّه الأشخاص من أحمال الماضي وأثقال الذاكرة. المشترك بينهم واقعية الضغوط وحقيقة أنها عميمة.

حديث المديرة العامة لعيادات «كون» مع «الشرق الأوسط» تفكيكي علاجي. تفسّر التأجّج الداخلي وغليان الشعور، وتتمهّل أمام مراحل التقبّل وبديهيّ أنّ النكران من بينها، والإحساس بالذنب، والتقلّب بالأسئلة الصعبة. كيف تشرح ذلك الذنب وهو يؤلم «الناجين» وتشمل عذاباته مَن هم أيضاً على مسافة؟ وماذا تقول عن إسكات المشاعر وغياب الحضن؟ جلسة علاج هي هذه السطور، ورغبة في فَهْم التصدُّع المتواصل.

المعالجة النفسية المتخصّصة بالسلوك العلاجي المعرفي للشباب والبالغين وكبار السنّ ماري روز نجم

تُفضّل سرد المجريات بصوت عالٍ، فيسمع العقل ما يردّده اللسان: «روتين الأيام تعرَّض للتقلّب الحاد، فثمة مَن غادروا المنازل وهجروا الأسرَّة وفارقوا أصدقاء. الاعتراف بهذا التحوُّل يساعد في فهمه. ثم تبرُز أهمية الاحتضان، بالجسد لدى المُستطاع، أو بالإصغاء والإفساح للبوح. تشارُك المشاعر والأفكار يُهدّئ عنفها ويهوِّن التعامل معها. المرء ليس وحيداً حين يجد مَن يصغي إليه. أتحدّث هنا عن الشخص المُستوعِب، بلا أحكام ولا استخفاف بالآخر».

ولم تغيّر الحرب أسرّةً ومخدّات تُلقى عليها الرؤوس المُتعبة، وإنما أيضاً، وفق المُعالِجة، «غيَّرت مسار القلق». تشرح أنه يُضاف إلى القلق المتراكِم، ما استجدّ مثل الخوف على الأحبة والتوجُّس حيال المكان الآمن، واحتمال انقطاع دواء أو تفاقم وباء أو خسارة السقف المنزلي. ذلك يترافق مع الذنب، وهو لا يطارد أبناء الاشتعال في ديارهم فحسب، وإنما يؤرقهم في الغربة: «السؤال الأكثر تداولاً في عيادتي اليوم هو كيف أكون بخير وآخرون في خطر؟ كيف أنعم بسريري وآخرون يتكدّسون في غرفة؟ استكثار النجاة يُحرّك الذنب، فيتشتّت المغترب كما المقيم، وتعزّ عليهما الطمأنينة».

استيعاب صدمة المشهد يهدّئ بعض الروع (أ.ف.ب)

«ماذا بعد الحرب؟ ماذا عن مصائرنا؟»؛ تُسأل. «أصرفهم عما ليس في اليد، وأذكّرهم بأهمية الحاجات الأساسية: طعام وشراب ونوم ودواء واستحمام. ولأنّ تأمينها على نحو يليق متعذّر للبعض، يتعمّق الذنب. هنا، يعجز المتضرّر عن إنجاز عمله بالوتيرة السابقة لتشتُّت ذهنه وارتباك أفكاره. وعلى العكس، ثمة هاربون من واقعهم بمضاعفة ساعات العمل واختراع مُتنفَّس لصبّ التركيز عليه. الحالتان مبرَّرتان».

يستوقفها شَرْح فقدان السيطرة على الواقع: «لسنا مَن يتحكّم بالحرب ومدّتها. فقدان السيطرة هنا واقعي، لحدوث عامل خارجي طارئ. استعادة السيطرة تقتصر على دائرتنا الصغرى: ماذا سآكل؟ كيف سيمضي النهار؟ وتمسّكنا بإنجاز العمل اليومي. الحفاظ على هذا الروتين يُساعد. تتعزّز المساعدة بخَلْق فسحة للبوح خارج الخوف. إعلان مشاعر الغضب والرفض، بلا فلتر، ضرورة للتعامل مع هذه الخشونة».

الخشونة والمجهول (أ.ف.ب)

تُصنِّف مرحلة النكران بأول ما يختبره المرء بعد الصدمة: «تحدُث حين يعجز العقل عن تقدير حجم الضرر واستيعاب الظرف. يعقب ذلك تشغيل وضعية الصمود. Survival mode on. هنا، ينهمك العقل باجتراح حلّ لتمرير الأصعب».

وكل حدث يستدعي مشاعر خاصة: «احتمال طول الحرب يخلق شعوراً مغايراً عما تأجّج مع اندلاعها. تستجدّ مشاعر اختناق وتذمّر من ثقل الوقت. هنا، لا يقرأ العقل الأحداث بطريقة واحدة، وإنما وفق المجريات».

نستوقفها عند ما يتردّد في المحن ويُشبِه بتأثيره المُخدِّر: الصمود. أهو كذبة أم حقيقة؟ تحايُل على الآلام أم ميزة شعب؟ تجيب أنّ توالي الصدمات وتناقلها بين الأجيال عزّزا هذه الـ«Resilience» وحوّلاها أنشودة: «تدرّبنا على الصمود في الأزمات والنهوض بعد السقوط. أقنعنا أنفسنا بأننا أقوياء وقدرُنا المعاندة. وكلّما عمَّ الخراب، ردّدنا أنها ليست المرة الأولى، وسنستمرّ. هذا مهم على مستوى الأمل. إبقاؤه متوهّجاً ينقذ من الضياع. لكنّ تفاقم الصدمات امتصّ من سُلطة هذه المرونة على اللبنانيين. عند البعض، تحوَّلت نكراناً. الصامد قد يبدو لآخرين منسلخاً عن الواقع».

تصعب هذه الأحوال وتقسو على القلب (رويترز)

وهل التخطّي أيضاً خدّاع؟ هل يحدُث بقرار منّا، أو أنه مسار شاق؟ ردُّها: «يتفاوت وفق الحالات. ثمة لبنانيون لم يتخطّوا بعد نهب المصارف لأموالهم، وتشظّي مدينتهم بالانفجار الكبير، وعزلة الوباء. هم أمام واقع اشتدَّ عام 2019 واتّخذ مساره التصاعدي الحادّ. ذلك كثَّف عدم الأمان وعمّق مساحاته في الدواخل المضطربة. تأتي الحرب لتفاقم الاهتزاز، فيتراءى الخروج من المنزل تهديداً شخصياً. تضغط الحرب على هذه المشاعر فتكثّفها. حام عدم الأمان حول شكل الغد وجدوى الاستثمارات مثلاً. اليوم يمسّ بوجودنا».

يجرّ أفرادٌ ماضيهم وعلاقتهم بالعائلة وزملاء العمل ومشاعرهم العاطفية، معهم إلى عيادة ماري روز نجم. لكنهم، اليوم، يُغلّبون حديث الحرب على الأوجاع العتيقة. يأتون مُحمّلين بذنب ليس مردّه تألّمهم أقل من الآخرين فحسب، وإنما أيضاً لأنهم يملكون فسحة للبوح بينما تتقلّص لكثيرين. تُخبرهم أن يعاملوا النفس برأفة: «أقول لهم: كفّوا عن لومها. إن تململتْ أمام أقصى العطاء المهني أو مسَّها العجز، فلا بأس. المرحلة طارئة. المناعة النفسية لا تتناقض مع البكاء والخوف. ذلك ليس ضعفاً. سماع مشاعرنا وتقبّلها بداية الشفاء».


مقالات ذات صلة

إعلام عبري: رئيس «الشاباك» زار مصر لبحث اتفاق بخصوص الرهائن

شؤون إقليمية أفراد من عائلات الأسرى الإسرائيليين لدى «حماس» يتظاهرون للمطالبة بالعمل على إطلاقهم فوراً في تل أبيب الخميس (رويترز)

إعلام عبري: رئيس «الشاباك» زار مصر لبحث اتفاق بخصوص الرهائن

صعّد منتدى عائلات الرهائن الإسرائيليين لدى «حماس» مطالباته للحكومة بإبرام صفقة لتبادل المحتجزين، بينما زار رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) القاهرة لبحث الملف.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق تحوّل رمزاً للتضحية وهو يتنقّل فوق الركام ويُنقذ ما تبقّى (حسابه الشخصي)

يوسف الملاح... عمرٌ من العمل الجبّار

لا يُصادر يوسف الملاح الجهود لنَسْبها حصراً إلى نفسه، وإنما يُشدّد على أنها جماعية؛ وبشيء أقرب إلى الإفراط في التواضع، يضيف أنه أقل مستحقّي التقدير بين الآلاف.

فاطمة عبد الله (بيروت)
الاقتصاد عدّاء يركض أمام مصفاة فيليبس في منطقة ويلمنغتون في لوس أنجليس (أ.ب)

ارتفاع النفط بعد انخفاض مفاجئ في مخزونات الخام الأميركية

ارتفعت أسعار النفط في التعاملات الآسيوية المبكرة، اليوم (الخميس)، لتقلص الخسائر الحادة التي تكبدتها على مدار الجلستين الماضيتين.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
الاقتصاد عمال الإنقاذ يعملون في موقع تضرر جراء غارة إسرائيلية في قانا جنوب لبنان (رويترز)

البنك الدولي يخفض مجدداً توقعاته للشرق الأوسط نتيجة الصراع

خفض البنك الدولي مجدداً توقعاته لنمو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 2.2 في المائة هذا العام من 2.4 في المائة في توقعاته السابقة في يونيو (حزيران).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد منصات الحفر في منطقة إنتاج النفط والغاز الطبيعي في حوض بيرميان بمقاطعة ليا في نيومكسيكو (رويترز)

النفط يعاود ارتفاعه بعد تراجعات كبيرة... واستمرار عدم اليقين بالشرق الأوسط

ارتفعت أسعار النفط في التعاملات الآسيوية المبكرة اليوم (الأربعاء) مع استمرار حالة عدم اليقين بشأن الصراع في الشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)

معرض شعبي في المتحف الفرنسي للفنون المتواضعة

الأميرة وحيدة القرن لروبن كوني (دليل المعرض)
الأميرة وحيدة القرن لروبن كوني (دليل المعرض)
TT

معرض شعبي في المتحف الفرنسي للفنون المتواضعة

الأميرة وحيدة القرن لروبن كوني (دليل المعرض)
الأميرة وحيدة القرن لروبن كوني (دليل المعرض)

في مدينة سيت، جنوب شرقي فرنسا، يقع متحفٌ لا يشبه غيره من المتاحف. إن القائمين عليه لا يجمعون اللوحات والمنحوتات الباهرة التي تكشف عن مواهب فنية مقترنة بحرفية عالية وأفكار عميقة، بل تلك التي يمكن أن تصادفك على جدران صالونات الحلاقة أو غرف المراهقين. هذا ما يسمّونه بالفن الاستهلاكي الواسع. وهو ينسجم مع عصر صار فيه الاستهلاك ظاهرة اجتماعية واقتصادية بارزة.

متحف الفنون المتواضعة (دليل المعرض)

سيت مدينة بحرية مهمة، يقصدها السياح، وبالأخص الفنانون من أنحاء العالم. ففي خريف عام 2000 خطر في بال الفنان هيرفيه دي روزا افتتاح مكان يجمع الأعمال التشكيلية التي لا ترقى إلى مجموعات المتاحف التاريخية الكبرى، بل هي أقرب إلى الفن الذي يجد صداه في ذائقة عموم أبناء الشعب، أي الجماهير. ولقيت الفكرة دعماً من وزارة الثقافة ومن بلدية المحافظة، وأيضاً من متبرعين أثرياء من أبناء المنطقة. وقع الاختيار على قبو عتيق للنبيذ غاطس في الطبيعة الخضراء، يبدو للزائر من الخارج كأنه منزل ريفي لقوم بوهيميين. وتولى المهندس باتريك بوشان ترميمه وتجهيزه ليكون صالات للعرض الفني. كما اهتمت مصمّمة المساحات النباتية ليليان بوتا بتحويل الباحة الداخلية إلى «حديقة للمزروعات المتواضعة».

لوحة لجيوفاني براغولان (دليل المعرض)

حمل المكان، بكل تواضع، اسم متحف الفنون المتواضعة. هل هذا يعني أن المعروضات هنا ليست ذات قيمة؟ كلا بالتأكيد، فهي لوحات لفنانين من مختلف الجنسيات، حازت شهرة عند تقديمها في المعارض وكان لها معجبون وهواة وجدوا فيها غايتهم عند تزيين مكاتبهم وحجرات نومهم وصالونات بيوتهم. وبالتأكيد فإن من الاستحالة على عموم الناس اقتناء أعمال باهظة الأثمان، أو من غير المحبذ الاكتفاء بطبعات مصورة ومنسوخة عن اللوحات الشهيرة، لذلك فلا بأس من لوحة أنسب سعراً لفنان أو فنانة أقل شهرة.

اليوم، بعد ربع قرن تقريباً على تأسيسه، تحول المتحف الفريد من نوعه إلى مختبر مفتوح أمام أجيال مختلفة ومشارب متعددة، وصار له صيت عالمي، حيث يجمع أعمالاً لأكثر من 1000 فنان من كل الأعمار والجنسيات والمدارس الفنية. وقد كان سباقاً في احتضان الفنون الهامشية وتسليط الضوء على تجارب تجريبية وتجديدية. ويواصل القائمون عليه مساءلة الحدود المفترضة بين أشكال الفنون المعاصرة. بل إن معارضه خرجت من جدرانه وتوزعت على صالات يهمّها هذا النوع من الفن الجماهيري أو الشعبي، إن صح التعبير. وبفضل هذه الحماسة لفناني الهامش بات متحف الفنون المتواضعة يمتلك شراكة مع كبريات متاحف العالم، مثل متاحف الفن المعاصر في نيويورك «موما»، ولشبونة «مات»، ومركز بومبيدو في باريس، ومجموعة الفن الخام في لوزان.

«بنت صغيرة من مدريد» لمرغريت كين (دليل المعرض)

يطغى على اللوحات الأسلوب التصويري. وهي من النوع الذي كان القصد منه أن يُعاد إنتاجه بأعداد كبيرة مرغوبة من عامة الناس. لذلك نجد أن الموضوع المفضل هو صور الأطفال والنساء، ومن بعده صور الطبيعة. هل تذكرون لوحة الطفل دامع العينين التي انتشرت نسخها في ملايين البيوت حول العالم؟ إن من يتجول في الأحياء السياحية في باريس ويدخل دكاكين الهدايا التذكارية يجد فناً لا يمتّ بصلة لذلك المعروض في مهرجانات الفنون والمعارض الموسمية. إنه فن له تُجّاره وموزعوه. كما أن له رساميه الذين لا يملّون ولا يكلّون. وهي تجارة رائجة تراعي ميزانية السائح الذي يسعده أن يعود من باريس بلوحة أصلية زهيدة الثمن وتحمل توقيع صاحبها، كائناً من كان. وفي السنوات الأخيرة صارت تلك الأعمال تأتي من الصين، حيث تنجز في فترات قياسية وبالأطنان وبطريقة الإنتاج الصناعي الواسع. وساهم في تسهيل العملية دخول التقنيات الإلكترونية الحديثة وسرعة الاستنساخ بألوان وخلفيات متغيرة في كل مرة.

من مجموعة الموسيقيين المهرجين لبرنار بوفيه (دليل المعرض)

يستضيف المتحف حالياً معرضاً بعنوان «الطيب والسيئ والقبيح»، نسبة إلى الفيلم الأميركي الشهير الذي يحمل الاسم ذاته. وعند زيارة المعرض نتأكد أن هذا المتحف لا يجد غضاضة في الاحتفاء بالنوع التجاري من الأعمال، دون أن يتوقف عندها بل يمضي لاكتشاف طرائق جديدة وصيغ تجريبية لا يعرف أصحابها طريق صالات العرض الرسمية. هناك، مثلاً، لوحة زيتية للفنان المعروف برنار بوفيه (1928 ـ 1999) من سلسلة لوحات «الموسيقيون المهرجون». كما يجد الزائر لوحة لفلاديمير تريشيكوف (1913 ـ 2006) الذي تخصّص في رسم لوحات تصوّر نساءً في أوضاع رومانسية. وتريشيكوف هو أول رسام باع نسخ لوحاته في المتاجر الكبيرة للأغذية «السوبرماركت». ومثله وجدت الفنانة مرغريت كين (1927 ـ 2022) سوقاً متعطشة لفنّها باعتبارها تخصّصت في رسم الأطفال ذوي الأعين الحزينة، ومنها لوحة «البنت الصغيرة من مدريد». وبلغ من رواج أعمال كين في ستينات القرن الماضي أن مبيعات لوحاتها المنسوخة كانت تحقق مليوني دولار في العام. كما أُنتج فيلم روائي عن سيرتها.