عام 1942، أصدر السورياليون بيانهم الشهير. كان ذلك بمثابة الإعلان الرسمي لإطلاق حركة جديدة في الفنّ التشكيلي سرعان ما أصبحت مدرسة لها أتباعها في فرنسا والعالم. وبعد 100 عام على ذلك التاريخ، يقف مركز «جورج بومبيدو» الثقافي في باريس ليؤدّي لها تحية مُستحقة: «صباح الخير أيتها السوريالية». ذلك أن نهارها لم ينقضِ بعد، وما زال لها مريدون، تقف أمام لوحاتهم وتحاول أن تفهم المقصود منها.
هذا الاحتفاء هو الحدث الفنّي الأبرز في الخريف الباريسي الحالي. عدا عن أهميته، فهو آخر معرض كبير تستضيفه قاعات مركز «بومبيدو» قبل إغلاقها الوشيك للترميم. وهو حدث ضخم حدّ أنه يجمع 140 ألف عمل، ما بين رسم ولوحة ونصّ وفيلم ومنحوتة. وهذا هو ما يُسمَّى «تعدُّد السياقات».
في الطبقة السادسة من المركز، صالة رقم «1»، تُعرض الأعمال الأكثر شهرة لكبار السورياليين. وقد نُظِّمت القاعة على شكل متاهة مستوحاة من تلك التي رسمها مارسيل دوشان عام 1947. بهذا، فإنها دعوة للزائر للضياع ما بين اللوحات ضمن مسار يدخل فيه، وقد لا يعرف كيف يخرج منه. سيجد نفسه غارقاً في تلك الخطوط المموَّهة وبقع الألوان الحارّة والفوّارة لفنانين انعتقوا من التصوير الواقعي والأنماط المعروفة وأطلقوا لأنفسهم حرية التعبير. ترى لوحة بعنوان كرسي، لكن الشكل المرسوم فيها ليس الكرسي كما تعرفه أنت أو كما تعارف عليه الناس، بل كما يهجس به الرسام في داخله.
تدلّ لفظة «سوريالية» على ما هو فوق الواقع أو ما يخرج عنه ويتخطّاه. وهي لا تقتصر على الرسم، وإنما تتعدّاه إلى جميع فنون التعبير، حتى الموسيقى والسينما والأدب شعراً ونثراً وروايات. وهي انبثقت في الأصل عن «الدادائية»، نسبة إلى حركة رافضة سابقة نشرت «البيان الأدبي» الذي وُزِّع على شكل مناشير في برلين.
فـ«السوريالية» انقلاب إبداعي على أنماط التعبير التقليدية التي كانت سائدة قبل الحرب العالمية الأولى. لم يعد العالم بعد أهوال تلك الحرب يشبه ما قبله. لقد تراكمت في النفوس كوابيس وهواجس واحتجاجات تحتاج إلى وسائل مختلفة للتعبير الإبداعي عنها. راح الفنان يستخدم كل قواه في تقديم رؤاه الجديدة. إنها تنشأ في الأحلام واللاوعي، وتتشكل أعمالاً تعبيرية.
في البيان التأسيسي، قال أندريه بريتون (1896 - 1966) معرِّفاً «السوريالية» بأنها «آلية نفسية خالصة، نقترح من خلالها التعبير الشفاهي أو المكتوب أو بأي طريقة أخرى، عن الأداء الحقيقي للفكر في غياب أي سيطرة يمارسها العقل، وخارج أي اهتمام جمالي أو أخلاقي».
يتمحور المعرض بشكل حلزوني حول قطعة هي اللبّ والأصل، تتمثّل في المخطوطة الأصلية لأندريه بريتون، واستُعيرَت لهذه المناسبة من المكتبة الوطنية الفرنسية. والمعرض يضيء على الوثيقة المهمّة في تاريخ الفنّ من خلال عرض سمعي بصري مؤثر.
معرض جريء في تكوين فريد يستعرض 45 عاماً من تاريخ الفنّ، من عام 1924 إلى عام 1969. يقف الزائر فيه أمام أعمال شهيرة لبيكاسو ودالي وميرو، والعشرات الذين غابوا وتركوا وراءهم إرثاً لا يُثمَّن. ويرافقه إصدار مجلّد ينقسم إلى 13 فصلاً، يستحضر الشخصيات الأدبية التي ألهمت الحركة «السوريالية»، مثل لويس كارول، الموجود بشكل خاص في أعمال ليونورا كارينغتون والأساطير التي تُشكّل خيالها الشعري.