لماذا تصبح أكثر حكمة مع تقدمك في العمر؟

رجلان مسنان يلعبان الشطرنج الصيني بحديقة في بكين (أ.ف.ب)
رجلان مسنان يلعبان الشطرنج الصيني بحديقة في بكين (أ.ف.ب)
TT

لماذا تصبح أكثر حكمة مع تقدمك في العمر؟

رجلان مسنان يلعبان الشطرنج الصيني بحديقة في بكين (أ.ف.ب)
رجلان مسنان يلعبان الشطرنج الصيني بحديقة في بكين (أ.ف.ب)

أكدت دراسة جديدة نشرت في مجلة «ساينتفك أميركان» أن المتعارف عليه عن كبار السن أنهم يبدأون للتحول إلى مفكرين بطيئين ومتبلدين مع التقدم في العمر، إلا أنهم يصبحون أكثر مهارة في حل المشكلات وأكثر استقراراً عاطفياً.

فأدمغتهم الناضجة تعني أن لديهم المزيد لتقديمه أكثر من أي وقت سابق في حياتهم.

وتقول لورا كارستنسن، المديرة المؤسسة لمركز ستانفورد لطول العمر إن «الملخص حول كبار السن هو أنهم جميعاً متشابهون إلى حد ما، وأنهم يرتعشون، وأن الشيخوخة هي هذا المنحدر المستمر إلى الأسفل، وهذه النظرة هي سوء فهم كبير للواقع».

وبينما لا شك أن بعض كبار السن يتباطأون في الوظيفة التنفيذية، حيث يُظهر عدد منهم علامات الارتباك أو الخرف نحو نهاية حياتهم، ولكن البعض يعانون من العكس، وفقاً لما ذكرته صحيفة «التليغراف» البريطانية.

ويقول جون رو، أستاذ السياسة الصحية والشيخوخة في جامعة كولومبيا: «من بين الأفراد الذين شاهدتهم، والذين بلغ متوسط ​​أعمارهم 77 عاماً، أظهر ثلاثة أرباعهم ممن لم يُعانوا من الخرف القليل من التدهور المعرفي أو لم يظهروا أي تدهور إدراكي على الإطلاق»، وأكمل: «لقد وجدنا بوضوح شديد أن الأمور تتحسن مع تقدم العمر. على سبيل المثال، تتعزز القدرة على حل النزاعات. كما ترتبط الشيخوخة برفاهية عاطفية أكثر إيجابية إضافة للاستقرار العاطفي».

ويأتي هذا في أعقاب دراسة أجريت عام 2010 ونشرت في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم البريطانية، حيث أظهرت أن البالغين الذين تزيد أعمارهم على 60 عاماً كانوا أكثر عُرضة للاعتراف بوجهات النظر المتعددة، والتنازل، والاعتراف بحدود معرفتهم، إذن ما الأسباب وراء ذلك؟

نمو «الحكمة العاطفية»

توضح عالمة النفس سوزان كويليام (74 عاماً)، وهي أيضاً مؤلفة وخبيرة في العلاقات، ولديها أكثر من 40 عاماً من الخبرة في مجالها، أنه «منذ ستينات القرن العشرين، كنا نعيش في عصر يتميز بالشباب، ولكن لم يكن الأمر كذلك دائماً. لمدة عشرة آلاف عام تقريباً عرفنا أن كبار السن لديهم معرفة أكبر للنجاح في الحياة، ولحُسن الحظ يدرك الناس أن (شيخ القرية) لا يزال لديه الكثير ليقدمه».

وتوضح كويليام أنه مع تقدمنا ​​في السن، يبدأ عنصر المخاطرة في دماغنا في التلاشي، ونصبح أقل سيطرة على إملاءات هرموناتنا، ويتم استبدال هذا من خلال حدة ذهنية أكثر تطوراً، وتقول: «نعرف المزيد، ونصبح أكثر تأملاً، ونعوض عن انخفاض قوتنا البدنية بالوعي بالعالم والحكمة العاطفية».

وتتفق ماجي (65 عاماً) وهي ضمن كثير من كبار السن الذين شاركوا في الدراسة، مع هذا الرأي. وتقول: «أحياناً أنسى الأسماء، لذا أشكر الله على الجوالات الذكية. ولكن هذا يعوضني عن الحكمة التي اكتسبتها من مجرد مراقبة الناس في الحياة؛ إذ ترى الأنماط، وتفهم كيف تتطور الأمور».

القدرة على حل المشكلات والتعلم

يجاهد كبار السن أحياناً في تذكر الأسماء أو استخدام التكنولوجيا الجديدة، ولكنهم غالباً ما يجدون أنفسهم أكثر مهارة في حل المشكلات العميقة مقارنة بما كانوا عليه عندما كانوا أصغر سناً.

وتقول كويليام: «هذا يرجع إلى الخبرة، يتعلم البشر تطوير استراتيجيات التعامل، ففي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء ما، نجد أنه مشكلة، ولكن في المرة الثانية، نردد: لقد تغلبت على هذا، وهذا ما تعلمته».

وتقول جين التي تبلغ من العمر 70 عاماً: «أصبحت أقل تشتيتاً مما كنت عليه في الماضي. أحب تعلم اللغات، وأبلي بلاءً حسناً مقارنة بما كنت عليه في العشرينات من عمري؛ لأنني أعرف كيف تتم عملية التعلم، وأين تكمن الصعوبات، وما الأدوات التي يجب استخدامها للتعامل معها»، وفقاً لما ذكرته صحيفة «التليغراف» البريطانية.

ويتفق آخرون أن تجربتهم الحياتية جلبت لهم الهدوء، مما يسمح لهم بالتركيز على أشياء أخرى.

ويقول أوليفر، الذي يبلغ من العمر الآن 65 عاماً: «نظراً لأنني تخليت عن المشتتات غير المفيدة مثل (المقارنة واليأس)، فقد أصبحت لدي الآن مساحة أكبر في دماغي لتقدير الفن والأدب والثقافة. وأستطيع التركيز بشكل أفضل وتذكر المزيد».

الشعور بمزيد من الاستقرار العاطفي

وتقول جوديث: «لقد بلغت الآن سن الثانية والسبعين، واختفى كثير من مخاوفي. فما كان يُطلق عليه في السابق افتقاري إلى اللباقة يُنظر إليه الآن على أنه شجاعة، ويرى بعض الناس أنني دبلوماسية، وهي صفة لم أتمتع بها قط في شبابي».

وتؤيد كويليام فكرة أن كبار السن يميلون إلى التمتع بمزيد من الاستقرار العاطفي، وأوضحت: «نجد في النهاية مكاناً لا تطغى عليه مشاعرنا. نتعلم من النجاة من المواقف الصعبة، ونصبح أقل خوفاً عندما نواجه ظروفاً مماثلة. وكما كُنا آباء وأجداداً وموظفين، فنحن أيضاً أفضل في حل النزاعات».

وتوضح أن كبار السن يرون العالم أقل بالأبيض والأسود، «كلما زاد عدد الأشخاص الذين قابلناهم، وكلما زاد عدد المواقف التي وجدنا أنفسنا فيها، ندرك أن هناك موضوعات وسياقات مختلفة. نتعلم دروساً في الحياة، مثل هذا أيضاً سيمر».

وتشير إلى أن أولئك الذين لديهم خبرة هم أيضاً أكثر ثقة في أنفسهم وأقل تأثراً بوجهات النظر السائدة في المجتمع. وتقول لويز (68) عاماً: «لا أهتم كثيراً بما يعتقده الناس عني. لستُ خالية من كل الطموحات، لكن طموحاتي تغيرت بالتأكيد لتصبح أكثر تحديداً فيما يهمني بالفعل بدلاً مما قد يثير إعجاب الآخرين. أصبحت أقل انتقاداً للآخرين».

وتضيف: «أحب العمل مع الشباب والتعرف عليهم، لكنني لا أرغب في أن أكون واحدة منهم».

الشعور برفاهية أكبر

تقول كويليام إن «الفترة من الستينات إلى الثمانينات من عمرك هي وقت رائع لإعادة ترتيب الأولويات، فالناس لا يعتمدون عليك كما كانوا من قبل، وتتخلص من الأعباء ويمكنك الاعتناء بنفسك».

وبينما تعترف بأن الناس سيحتاجون إلى دعم الأسرة والأصدقاء مع تقدمهم في السن وتعرضهم للخطر، تقول إن هناك فترة ذهبية يمكن الاستمتاع بها في وقت لاحق من الحياة.

وتشير: «في سن (74 عاماً) أجد نفسي أكثر سعادة وامتناناً لكل شيء، أعتز بكل رحلة خارجية، وكل برنامج تلفزيوني وكل اتصال بشخص آخر. أعلم أن وقتي محدود أكثر، لذلك أجد قيمة أكبر في كل شيء».

وتعتقد كويليام بأنه بمجرد أن يدرك الناس أن لديهم سنوات أكثر (خلفهم) مما لديهم (أمامهم)، فإنهم غالباً ما يبدأون في تقييم الأمور بهذه الطريقة الإيجابية.

وتوافق جيني، 63 عاماً، على أن هذا المنظور جلب لها السعادة وتقول: «كان بلوغي سن الستين نقطة تحول كبيرة بالنسبة لي. لقد أدركت فجأة أن وقتي على الأرض أصبح محدوداً للغاية الآن، ما لم يتم اختراع معجزة مضادة للشيخوخة قريباً، أصبحت على الفور أكثر حزماً فيما يتعلق بما يجب أن أفعله وما لا يجب أن أفعله».

وتضيف: «بعض الأشياء الجيدة في كوني بهذا العمر هي أنى أشعر بثقة أكبر في أفكاري من أي وقت مضى، وأعطي الآخرين فرصة الشك أكثر مما تعودت عليه في السابق، وأتحمل المزيد من المخاطر في إطلاق النكات. لم تعد لسعة اللحظات المحرجة تدوم طويلاً الآن بعد أن أصبحت أكبر سناً، وأضحك على نفسي بحرية كبيرة».

ويجد ميك، 72 عاماً، راحة في عدم الاضطرار إلى الركض على آلة العمل والإنجاز المهني وقال: «في النهاية، هناك هدوء، مما يجلب معه الاستعداد لاتخاذ وجهة نظر أفضل».

ويكمل: «مهما كانت المصاعب اليومية التي يواجهها أطفالي وأحفادي، فإنني أستطيع أن أرى أنهم سيكونون على ما يرام على المدى الطويل. إنهم محبوبون ولديهم الموارد، لذلك أشعر بالاطمئنان. ولعل هذا هو ما يقصده الناس عندما يتحدثون عن حكمة العصر».


مقالات ذات صلة

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

يوميات الشرق الاكتئاب يُعد أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً على مستوى العالم (جامعة أوكسفورد)

العلاج لا يصل لـ91 % من مرضى الاكتئاب عالمياً

كشفت دراسة دولية أن 91 في المائة من المصابين باضطرابات الاكتئاب بجميع أنحاء العالم لا يحصلون على العلاج الكافي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

وجدت دراسة جديدة أجراها فريق من الباحثين، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق تحتاج بعض المهن إلى الوقوف فترات طويلة (معهد الصحة العامة الوبائية في تكساس)

احذروا الإفراط في الوقوف خلال العمل

السلوكيات التي يغلب عليها النشاط في أثناء ساعات العمل قد تكون أكثر صلة بقياسات ضغط الدم على مدار 24 ساعة، مقارنةً بالنشاط البدني الترفيهي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق من المهم مراقبة مسارات تطوّر تنظيم المشاعر لدى الأطفال (جامعة واشنطن)

نوبات غضب الأطفال تكشف اضطراب فرط الحركة

الأطفال في سنّ ما قبل المدرسة الذين يواجهون صعوبة في التحكُّم بمشاعرهم وسلوكهم عبر نوبات غضب، قد يظهرون أعراضاً أكبر لاضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
صحتك أشارت دراسة أميركية جديدة إلى أن النساء المصابات ببطانة الرحم المهاجرة أو بأورام ليفية في الرحم ربما أكثر عرضة للوفاة المبكرة (متداولة)

دراسة: بطانة الرحم المهاجرة والأورام الليفية قد تزيد خطر الوفاة المبكرة

تشير دراسة أميركية موسعة إلى أن النساء المصابات ببطانة الرحم المهاجرة أو بأورام ليفية في الرحم ربما أكثر عرضة للوفاة المبكرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
TT

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

كل 10 دقائق تُقتل امرأةٌ عمداً في هذا العالم، على يد شريكها أو أحد أفراد عائلتها. هذا ليس عنواناً جذّاباً لمسلسل جريمة على «نتفليكس»، بل هي أرقام عام 2023، التي نشرتها «هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة» عشيّة اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة، الذي يحلّ في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام.

ليس هذا تاريخاً للاحتفال، إنما للتذكير بأنّ ثلثَ نساء العالم يتعرّضن للعنف الجسدي، على الأقل مرة واحدة خلال حياتهنّ، وذلك دائماً وفق أرقام الهيئة الأمميّة. وفي 2023، قضت 51100 امرأة جرّاء التعنيف من قبل زوجٍ أو أبٍ أو شقيق.

كل 10 دقائق تُقتَل امرأة على يد شريكها أو فرد من عائلتها (الأمم المتحدة)

«نانسي» تخلّت عن كل شيء واختارت نفسها

من بين المعنَّفات مَن نجونَ ليشهدن الحياة وليروين الحكاية. من داخل الملجأ الخاص بمنظّمة «أبعاد» اللبنانية والحاملة لواء حماية النساء من العنف، تفتح كلٌ من «نانسي» و«سهى» و«هناء» قلوبهنّ المجروحة لـ«الشرق الأوسط». يُخفين وجوههنّ وأسماءهنّ الحقيقية، خوفاً من أن يسهل على أزواجهنّ المعنّفين العثور عليهنّ.

جسدُ «نانسي» الذي اعتادَ الضرب منذ الطفولة على يد الوالد، لم يُشفَ من الكدمات بعد الانتقال إلى البيت الزوجيّ في سن الـ17. «هذا التعنيف المزدوج من أبي ثم من زوجي سرق طفولتي وعُمري وصحّتي»، تقول الشابة التي أمضت 4 سنوات في علاقةٍ لم تَذُق منها أي عسل. «حصل الاعتداء الأول بعد أسبوع من الزواج، واستمرّ بشكلٍ شبه يوميّ ولأي سببٍ تافه»، تتابع «نانسي» التي أوت إلى «أبعاد» قبل سنتَين تقريباً.

تخبر أنّ ضرب زوجها لها تَركّزَ على رأسها ورجلَيها، وهي أُدخلت مرّتَين إلى المستشفى بسبب كثافة التعنيف. كما أنها أجهضت مراتٍ عدة جرّاء الضرب والتعب النفسي والحزن. إلا أن ذلك لم يردعه، بل واصل الاعتداء عليها جسدياً ولفظياً.

غالباً ما يبدأ التعنيف بعد فترة قصيرة من الزواج (أ.ف.ب)

«أريد أن أنجوَ بروحي... أريد أن أعيش»، تلك كانت العبارة التي همست بها «نانسي» لنفسها يوم قررت أن تخرج من البيت إلى غير رجعة. كانا قد تعاركا بشدّة وأعاد الكرّة بضربها وإيلامها، أما هي فكان فقد اختمر في ذهنها وجسدها رفضُ هذا العنف.

تروي كيف أنها في الليلة ذاتها، نظرت حولها إلى الأغراض التي ستتركها خلفها، وقررت أن تتخلّى عن كل شيء وتختار نفسها. «خرجتُ ليلاً هاربةً... ركضت بسرعة جنونيّة من دون أن آخذ معي حتى قطعة ملابس». لم تكن على لائحة مَعارفها في بيروت سوى سيدة مسنّة. اتّصلت بها وأخبرتها أنها هاربة في الشوارع، فوضعتها على اتصالٍ بالمؤسسة التي أوتها.

في ملجأ «أبعاد»، لم تعثر «نانسي» على الأمان فحسب، بل تعلّمت أن تتعامل مع الحياة وأن تضع خطة للمستقبل. هي تمضي أيامها في دراسة اللغة الإنجليزية والكومبيوتر وغير ذلك من مهارات، إلى جانب جلسات العلاج النفسي. أما الأهم، وفق ما تقول، فهو «أنني أحمي نفسي منه حتى وإن حاول العثور عليّ».

تقدّم «أبعاد» المأوى والعلاج النفسي ومجموعة من المهارات للنساء المعنّفات (منظمة أبعاد)

«سهى»... من عنف الأب إلى اعتداءات الزوج

تزوّجت «سهى» في سن الـ15. مثل «نانسي»، ظنّت أنها بذلك ستجد الخلاص من والدٍ معنّف، إلا أنها لاقت المصير ذاته في المنزل الزوجيّ. لم يكَدْ ينقضي بعض شهورٍ على ارتباطها به، حتى انهال زوجها عليها ضرباً. أما السبب فكان اكتشافها أنه يخونها واعتراضها على الأمر.

انضمّ إلى الزوج والدُه وشقيقه، فتناوبَ رجال العائلة على ضرب «سهى» وأولادها. نالت هي النصيب الأكبر من الاعتداءات وأُدخلت المستشفى مراتٍ عدة.

أصعبُ من الضرب والألم، كانت تلك اللحظة التي قررت فيها مغادرة البيت بعد 10 سنوات على زواجها. «كان من الصعب جداً أن أخرج وأترك أولادي خلفي وقد شعرت بالذنب تجاههم، لكنّي وصلت إلى مرحلةٍ لم أعد قادرة فيها على الاحتمال، لا جسدياً ولا نفسياً»، تبوح السيّدة العشرينيّة.

منذ شهرَين، وفي ليلةٍ كان قد خرج فيها الزوج من البيت، هربت «سهى» والدموع تنهمر من عينَيها على أطفالها الثلاثة، الذين تركتهم لمصيرٍ مجهول ولم تعرف عنهم شيئاً منذ ذلك الحين. اليوم، هي تحاول أن تجد طريقاً إليهم بمساعدة «أبعاد»، «الجمعيّة التي تمنحني الأمان والجهوزيّة النفسية كي أكون قوية عندما أخرج من هنا»، على ما تقول.

في اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة تحث الأمم المتحدة على التضامن النسائي لفضح المعنّفين (الأمم المتحدة)

«هناء» هربت مع طفلَيها

بين «هناء» ورفيقتَيها في الملجأ، «نانسي» و«سهى»، فرقٌ كبير؛ أولاً هي لم تتعرّض للعنف في بيت أبيها، ثم إنها تزوّجت في الـ26 وليس في سنٍ مبكرة. لكنّ المشترك بينهنّ، الزوج المعنّف الذي خانها وضربها على مدى 15 سنة. كما شاركت في الضرب ابنتاه من زواجه الأول، واللتان كانتا تعتديان على هناء وطفلَيها حتى في الأماكن العامة.

«اشتدّ عنفه في الفترة الأخيرة وهو كان يتركنا من دون طعام ويغادر البيت»، تروي «هناء». في تلك الآونة، كانت تتلقّى استشاراتٍ نفسية في أحد المستوصفات، وقد أرشدتها المعالجة إلى مؤسسة «أبعاد».

«بعد ليلة عنيفة تعرّضنا فيها للضرب المبرّح، تركت البيت مع ولديّ. لم أكن أريد أن أنقذ نفسي بقدر ما كنت أريد أن أنقذهما». لجأت السيّدة الأربعينية إلى «أبعاد»، وهي رغم تهديدات زوجها ومحاولاته الحثيثة للوصول إليها والطفلَين، تتماسك لتوجّه نصيحة إلى كل امرأة معنّفة: «امشي ولا تنظري خلفك. كلّما سكتّي عن الضرب، كلّما زاد الضرب».

باستطاعة النساء المعنّفات اللاجئات إلى «أبعاد» أن يجلبن أطفالهنّ معهنّ (منظمة أبعاد)

«حتى السلاح لا يعيدها إلى المعنّف»

لا توفّر «أبعاد» طريقةً لتقديم الحماية للنساء اللاجئات إليها. تؤكّد غيدا عناني، مؤسِسة المنظّمة ومديرتها، أن لا شيء يُرغم المرأة على العودة إلى الرجل المعنّف، بعد أن تكون قد أوت إلى «أبعاد». وتضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مهما تكن الضغوط، وحتى تهديد السلاح، لا يجعلنا نعيد السيّدة المعنّفة إلى بيتها رغم إرادتها. أما النزاعات الزوجيّة فتُحلّ لدى الجهات القضائية».

توضح عناني أنّ مراكز «أبعاد»، المفتوحة منها والمغلقة (الملاجئ)، تشرّع أبوابها لخدمة النساء المعنّفات وتقدّم حزمة رعاية شاملة لهنّ؛ من الإرشاد الاجتماعي، إلى الدعم النفسي، وتطوير المهارات من أجل تعزيز فرص العمل، وصولاً إلى خدمات الطب الشرعي، وليس انتهاءً بالإيواء.

كما تصبّ المنظمة تركيزها على ابتكار حلول طويلة الأمد، كالعثور على وظيفة، واستئجار منزل، أو تأسيس عملٍ خاص، وذلك بعد الخروج إلى الحياة من جديد، وفق ما تشرح عناني.

النساء المعنّفات بحاجة إلى خطط طويلة الأمد تساعدهنّ في العودة للحياة الطبيعية (رويترز)

أما أبرز التحديات التي تواجهها المنظّمة حالياً، ومن خلالها النساء عموماً، فهي انعكاسات الحرب الدائرة في لبنان. يحلّ اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في وقتٍ «تتضاعف فيه احتمالات تعرّض النساء للعنف بسبب الاكتظاظ في مراكز إيواء النازحين، وانهيار منظومة المساءلة». وتضيف عناني أنّ «المعتدي يشعر بأنه من الأسهل عليه الاعتداء لأن ما من محاسبة، كما أنه يصعب على النساء الوصول إلى الموارد التي تحميهنّ كالشرطة والجمعيات الأهليّة».

وممّا يزيد من هشاشة أوضاع النساء كذلك، أن الأولويّة لديهنّ تصبح لتخطّي الحرب وليس لتخطّي العنف الذي تتعرّضن له، على غرار ما حصل مع إحدى النازحات من الجنوب اللبناني؛ التي لم تمُت جرّاء غارة إسرائيلية، بل قضت برصاصة في الرأس وجّهها إليها زوجها.