«درب خلاص» مارون الحكيم... الصلاة بالفنّ

معرض للتشكيلي اللبناني يُجسِّد النزف الكوني والهلاك الإنساني

لوحات الصَلْب تُبرِّد مشاعر التشكيلي اللبناني القلقة حيال الفيض الدموي (مارون الحكيم)
لوحات الصَلْب تُبرِّد مشاعر التشكيلي اللبناني القلقة حيال الفيض الدموي (مارون الحكيم)
TT

«درب خلاص» مارون الحكيم... الصلاة بالفنّ

لوحات الصَلْب تُبرِّد مشاعر التشكيلي اللبناني القلقة حيال الفيض الدموي (مارون الحكيم)
لوحات الصَلْب تُبرِّد مشاعر التشكيلي اللبناني القلقة حيال الفيض الدموي (مارون الحكيم)

يتناول الفنان التشكيلي مارون الحكيم في معرضه، «درب الخلاص»، ما يتراءى بعيداً، وصعب المنال. يلحُّ على متأمِّل لوحاته تساؤلٌ حول أي خلاص تُجسّده، والظلام محيق والإنسان في المهالك؟ يختار المقولة الأيقونية «ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل» لشرح الدافع. بفكرة الصَلْب والبذل العظيم، يُقارب المقتلة الكونية المُتجسِّدة في فظاعة الارتكاب البشري والصفح المُستبعَد.

المعرض يقارب المقتلة الكونية المُتجسِّدة في فظاعة الارتكاب البشري (لوحات مارون الحكيم)

لوحاتٌ تمثِّل المسيح المصلوب وآلام التحمُّل، يستضيفها متحف جامعة «الروح القدس- الكسليك» من 10 سبتمبر (أيلول) حتى 27 منه. هي ليست وليدة الآن، بل مسارها امتدّ لفترات متباعدة، من 1991 إلى 2024، مما يمنح رسمها وتصويرها أسباباً مختلفة باختلاف الزمن والأحداث المُرافقة له. يؤكد الرسّام والنحّات اللبناني لـ«الشرق الأوسط» أنه من الخطأ ربط جميع الأعمال بالراهن فقط، مع العلم بأنّ جديده تطرَّق إلى مآسي الشرق والمنطقة، وقد ربطه أيضاً بموضوع الصَلْب بلمسة أسلوبية تميّز المعالجة داخل أعماله التشكيلية.

أي خلاص تتوق إليه اللوحة بتجسيد رمز الفداء في الديانة المسيحية، والحروب تستعر، والطفولة تتضرَّج بدمائها، والمقابر جماعية؟ يردُّ السؤال بآخر: «ما حيلة الفنان أمام تطوُّر أحداث الزمن وغدره، سوى التعبير من منظار شخصيّ يعكس غالباً أحوال الآخرين وتوجّهاتهم حيال المهالك الوجودية المتلاحقة؟». ذلك ليقول إنّ إعلاء الأمل ومناشدة الخلاص قد يخفّفان المعاناة ويبلسمان الوجع، «شرط أن يتضمّن العمل الفنّي كامل مستلزمات الجمالية الفنّية من تأليف وتقنيات ذات جودة عالية. فجلال الموضوع وحده لا يصنع فنّاً متكاملاً من دون الصياغة التشكيلية المتفرّدة والمؤثّرة».

عبر فكرة الصَلْب تطرَّق إلى مآسي الشرق والمنطقة (لوحات مارون الحكيم)

سجَّل تحت إحدى اللوحات خلاصةَ فلسفة الصَلْب القائلة: «ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». ولكن، أليست «طوباوية» بعض الشيء فكرة البذل أو القربان في ظلّ النزعة الفردانية؟ وفي المقابل، كيف تُقاربها اللوحة وأنهر الدم تعمُّ الخرائط؟ يدرك أنّ فكرة الشرّ أو الانتقام قد تبدو أقوى من أفكار الخير والتسامح، فيقول: «في مفهوم البشر، يبدو أنّ التنازل للآخر مسألة لا تمرّ بسهولة، والأكثرية الساحقة تنحاز إلى فكرة الانتقام. من هنا تنشأ النزاعات على مستويات الأفراد والشعوب والدول. فمنذ ولادة الإنسان وبدائيته، لم تتغيَّر طباعه، بل تعاظم البطش والتفنُّن في اختراع أدوات الموت. دور الفنّ والفنّانين هو التحفيز على الإنسانية. وذلك بنشر السلام والإخاء، ونجدة الشعوب المقهورة بتضميد بعض جراحها».

لوحاتٌ تمثِّل الصلب وآلام التحمُّل (مارون الحكيم)

تنطق اللوحات برؤية مارون الحكيم للحياة: «لولا الفنّ والثقافة، لأصبح الإنسان وحشاً!» هي خلاصه من قسوة العالم. والشعاع القادر على تبديد هواجس الليل الحالك. تستوقفه «تهمة» الطوباوية في مسألة الخلاص، فيؤكد أنها حاضرة لدى كثير من البشر: «أليست الشهادة في سبيل الأوطان فكرة طوباوية؟ ومع ذلك نرى مَن يبذلون النفوس من أجل الأفكار والمثل العليا». يتابع أنّ لوحاته لا تدّعي حلاً للنزاعات ووقف الشلال الأحمر. يراها عزاء للمنكسرين والمقهورين، وتكريماً للأبطال المناضلين، وتبريداً لمشاعره القلقة حيال الفيض الدموي.

ما دلالات مسيح اللوحات في هذا الواقع المتألِّم بالصَلْب؟ يشرح: «الهدف الأول من معالجة حضور المسيح في بعض أعمالي تأكيدٌ لإدراكي العميق أنه رفيق حياتي. ما أعمالي سوى صلوات وأناشيد بتعدُّد اختباراتها وتقنياتها وموضوعاتها». بتأمّل الكون والطبيعة وروعة التكوين، يدّعي مارون الحكيم بلوغ فَهم فكرة الخَلْق للوصول إلى الله والشعور بعظمة إبداعاته وسخائه بخيرات الأرض ونِعَم السماء.

إعلاء الأمل ومناشدة الخلاص يخفّفان المعاناة ويبلسمان الوجع (لوحات مارون الحكيم)

هذه المناجاة المتصاعدة من روح اللوحة؛ هذه الـ«آه»، والنظرة إلى السماء، والأنّة الصامتة، مَن يشاء أن يسمعها؟ الصلاة من خلال الفنّ، مسموعة؟ يحسم، بمجرَّد تشكُّل «الآهات» من صميم لوحاته، وصولَ الرسالة الفنّية: «هنا، لا تعود اللوحة بحاجة إلى مطوّلات لتفسيرها. لوحتي تحاكي كل إنسان مُرهف على هذه الأرض، خصوصاً شعوب منطقتنا. لا حدود جغرافية لانتشار الفنون. المتحلّون بحسّ فنّي عميق، وصواب البصر والبصيرة، لا بدّ لهم من وعي أهدافها والتأثّر بها».

دور الفنّ والفنّانين هو التحفيز على الإنسانية (لوحات مارون الحكيم)

فلنتحدّث عن الصَلْب المُتراكم في الداخل. عن مارون الحكيم، أهو «مصلوب يُصلَب كل يوم»، كما عنونَ إحدى اللوحات لكونه شاهداً على فظاعة العالم؟ ردُّه أنّ عمله الفنّي بأنواعه وأساليبه هو المُتنفَّس الوحيد. به ينتشي، يفرح، يحزن، يصرخ، يصلّي، يناجي، ويجد حرّيته. لذا يرى نفسه «ناطقاً ومختزلاً لضمير أمّة بشعبها وأرضها». يقول: «أعيش أوجاع الناس اليومية وقلقهم الوجودي. الصَلْب هو المعاناة والذوبان مع الآخرين بآلامهم وأفراحهم. العمل الفنّي يُخرِج إلى العلن مكنوناتي بوصفي شاهداً على السلام المفقود والشعوب المصلوبة بالظلم والحقد واللامساواة. رسمتُ المسيح وصَلْبه في أزمنة المجازر والفظاعات لرغبتي في ربط ما ارتكبوه به قبل ألفَي عام بما يكرّرون ارتكابه مع شعب بريء».

لوحاته لا تدّعي حلاً للنزاعات ووقفاً لشلال الدم (مارون الحكيم)

و«الأمومة المكسورة»، كما تسمّيها اللوحة، رمزية الحضن النازف واللمَّة المستحيلة. لافتة الأم في المجموعة، تُجسِّد أقسى أصناف الآلام والتشظّي في الروح والجسد. يُصوِّر الفنان التشكيلي مريم العذراء مذهولة أمام الصَلْب كذروة للعذاب والتفحُّم. يراها «أمثولة لجميع أمهات الشهداء الذين يسقطون نتيجة العنف واللاعدل والمؤامرات على شعوبنا المستضعفة بهدف سلب أرضهم وخيراتهم».

مسيح اللوحات يلغي بشهادته وفدائه كل الأعمال غير اللائقة بإنسانية الإنسان (مارون الحكيم)

منذ عام 1975، بداية احترافه الفنّ، تسارعت أحداث لبنان وتشابكت مع تعقيدات القضايا من حوله. عاصر مارون الحكيم الحرب الأهلية بكل عنفها وبشاعاتها. ثم توالت الأحداث ولا تزال؛ فتكرَّست مشهديات من العنف والقسوة جرّاء انقسام اللبنانيين وتضارُب مصالحهم. يُنهي مَن يرى الفنّ صرخة تلحُّ لتخرج: «كان بديهياً أن أعالج الموضوعات الوطنية بشكلها الإنساني بما يعكس مشاعري الرافضة لما يحصل بين أبناء الأرض. لبنان المصلوب لوحةٌ عبَّرتُ من خلالها عن إعدام الوطن صلباً بحضور فريقَيْن من الأخوة المتخاصمين، المزهوَّين بتباعدهما القسري».


مقالات ذات صلة

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
لمسات الموضة كان حب إيلي صعب الإنسان الخيط الذي جمع كل الفنانين الذين حضروا الاحتفالية (رويترز)

5 أشياء تدين بها صناعة الموضة العربية لإيلي صعب

المهتمون بالموضة، من جهتهم، يكنون له الاحترام، لرده الاعتبار لمنطقة الشرق الأوسط بوصفها تملك القدرة على الإبهار والإبداع.

جميلة حلفيشي (لندن)

حفر صينية عملاقة تحبس الزمن في باطنها... وتجذب السياح

اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
TT

حفر صينية عملاقة تحبس الزمن في باطنها... وتجذب السياح

اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)
اكتشاف عالم الغابات القديمة داخل حفرة على عمق 630 قدماً في الصين (يونيلاد نيوز)

على عمق يتخطى 100 متر تحت الأرض (328 قدماً) ثمة عالم مفقود من الغابات القديمة والنباتات والحيوانات. كل ما يمكنك رؤيته هناك قمم الأشجار المورقة، وكل ما تسمعه صدى أزيز حشرة الزيز وأصوات الطيور، الذي يتردد على جوانب الجروف، حسب «بي بي سي» البريطانية .على مدى آلاف السنين، ظل ما يعرف بـ«الحفرة السماوية» أو «تيانكنغ»، كما تُسمى باللغة المندرينية، غير مكتشفة، مع خوف الناس من الشياطين والأشباح، التي تختبئ في الضباب المتصاعد من أعماقها. إلا أن طائرات الدرون وبعض الشجعان، الذين هبطوا إلى أماكن لم تطأها قدم بشر منذ أن كانت الديناصورات تجوب الأرض، كشفت عن كنوز جديدة، وحوّلت الحفر الصينية إلى معالم سياحية. ويُعتقد أن ثلثي الحفر، التي يزيد عددها عن 300 في العالم، توجد في الصين، منتشرة في غرب البلاد، منها 30 حفرة، وتضم مقاطعة «قوانغشي» في الجنوب أكبر عدد من هذه الحفر، مقارنة بأي مكان آخر. وتمثل أكبر وأحدث اكتشاف قبل عامين في غابة قديمة تحتوي على أشجار يصل ارتفاعها إلى 40 متراً (130 قدماً). تحبس هذه الحفر الزمن في باطنها، ما يحفظ النظم البيئية الفريدة والدقيقة لقرون. ومع ذلك، بدأ اكتشافها يجذب السياح والمطورين، ما أثار المخاوف من أن هذه الاكتشافات المدهشة والنادرة قد تضيع إلى الأبد.

بوجه عام، تعد هذه الحفر الأرضية نادرة، لكن الصين، خاصة «قوانغشي»، تضم كثيراً منها بفضل وفرة الصخور الجيرية. جدير بالذكر هنا أنه عندما يذيب نهر تحت الأرض الصخور الجيرية المحيطة ببطء، تتكون كهوف تتمدد صعوداً نحو الأرض. وفي النهاية، تنهار الأرض تاركة حفرة واسعة، ويجب أن يكون عمقها وعرضها لا يقل عن 100 متر حتى تُعدّ حفرة أرضية. وبعض الحفر، مثل تلك التي جرى اكتشافها في «قوانغشي» عام 2022، أكبر من ذلك، مع امتدادها لمسافة 300 متر في الأرض، وعرضها 150 متراً.

من وجهة نظر العلماء، تمثل هذه الحفر العميقة رحلة عبر الزمن، إلى مكان يمكنهم فيه دراسة الحيوانات والنباتات، التي كانوا يعتقدون أنها انقرضت. كما اكتشفوا أنواعاً لم يروا أو يعرفوا عنها من قبل، بما في ذلك أنواع من أزهار الأوركيد البرية، وأسماك الكهوف البيضاء الشبحية، وأنواع من العناكب والرخويات. وداخل محميات من الجروف الشاهقة، والجبال الوعرة، والكهوف الجيرية، ازدهرت هذه النباتات والحيوانات في أعماق الأرض.