رحيل بسّام شبارو بعد مغامرة نصف قرن في الطباعة والنشر

مؤسس «الدار العربية للعلوم» و«نيل وفرات»

بسام شبارو (موقع الدار العربية للعلوم ناشرون)
بسام شبارو (موقع الدار العربية للعلوم ناشرون)
TT

رحيل بسّام شبارو بعد مغامرة نصف قرن في الطباعة والنشر

بسام شبارو (موقع الدار العربية للعلوم ناشرون)
بسام شبارو (موقع الدار العربية للعلوم ناشرون)

غادرنا بسّام شبارو، رئيس مجلس إدارة «الدار العربية للعلوم - ناشرون»، أحد أكثر الناشرين حيوية وإنتاجاً في لبنان، والعصامي الذي لم ينطلق من إرث، ولم يتكئ على رصيد في عالم الكتب. كانت بالنسبة له «مطبعة المتوسط» التي بدأ العمل بها عام 1973 هي النواة الأولى، لكن الرجل مع إخوته الأربعة عماد، وغسان، وجهاد، وبشار، وقاد المركب باعتباره أكبرهم سناً، لم يتوقف هنا. فقد أسس «مركز أبجد غرافيكس» عام 1979 المتخصص في التصميم والإخراج.

وتُحسب لبسام شبارو شجاعته وإقدامه، في أثناء الحرب اللبنانية، حيث لم يتوقف عن إطلاق المشاريع الطموحة، فأسس «الدار العربية للعلوم» عام 1986. وإن كانت البداية متواضعة، فإن هذه الدار أصدرت إلى اليوم ما يربو على 6 آلاف كتاب. وهو رقم مهول، خصوصاً أن نصفها مترجم عن لغات أجنبية.

فقد كان الهاجس منذ البداية نقل العلوم، ثم كانت الدار من أوائل المهتمين بنقل المعارف التكنولوجية، والتواصل مع شركات وازنة، فتعاونت مع «مايكروسوفت برس»، و«سيبكس»، و«أدوبي برس»، وغيرها من دور النشر في مختلف أنحاء العالم. وبناء على اتفاقات ثنائية، قامت «الدار العربية للعلوم - ناشرون» بترجمة ونشر أهم وأحدث الكتب العلمية التي تصدر عن هذه الدور، في مجال الكمبيوتر والإنترنت والبرمجة، والعلوم الطبيعية والاختراعات العلمية، والإدارة والمهارات الإدارية، والصحة والرشاقة والعناية بالطفل والأسرة، والناشئة، والسفر والرحلات، والرياضة، ومواضيع أخرى عديدة.

ولم تكن الدار سبّاقة إلى نشر وترجمة الكتب التكنولوجية والعلمية فقط، بل بحدسه أحسّ بسام شبارو بأن المستقبل سيكون صينياً، فكان من أوائل الناشرين العرب الذين عنوا بالنقل عن الصينية، قبل أكثر من عشرين عاماً. ومن أواخر مشاريعه استثمار، عام 2015، في شركة شقيقة للترجمة (من الصينية إلى العربية) تدعى «مأمون»، ومقرها بكين.

ولم تنسَ الصين له الفضل، فمنحته جائزة الكتاب الخاصة بها، تكريماً لجهوده في نقل الكتب الصينية إلى العربية، وتوثيق العُرى بين الثقافتين.

بسام شبارو كانت له رؤية بانورامية واضحة. فلإنجاز هذا الكمّ من الترجمات، عمل على إنشاء مركز التعريب والبرمجة عام 1992 المتخصص في التعريب، وتطوير البرامج والمنشورات الإلكترونية.

ولا بد من الاعتراف للحاج بسام، كما يناديه محبوه، بجهده المتواصل الذي لم ينقطع إلى فترة وجيزة قبيل وفاته، حيث ألزمه المرض الفراش. فقد عرف أنه حاضر أبداً في معارض الكتب، وموجود أبداً في «معرض الشارقة للكتاب»، كما تميز بلطفه، وعلاقاته الودية الدافئة، مع الناشرين والمثقفين العرب. فقد أسس مع شقيقه بشار، الأمين العام لـ«اتحاد الناشرين العرب»، «دار ثقافة للنشر والتوزيع»، وهي شركة نشر إماراتية لخدمة الكتاب. وفي عام 2013، افتتح فرعاً لـ«الدار العربية للعلوم» في الرياض بالمملكة العربية السعودية.

الشقيقان جهاد وبسام شبارو مع دان براون في معرض الشارقة للكتاب وعن دارهما صدرت الترجمة العربية لروايته شيفرة دافنشي (موقع الدار العربية للعلوم ناشرون)

ولد بسّام شبارو عام 1943 في بيروت، وتخرج في قسم إدارة الأعمال، بالجامعة الأمريكية. صاحب مبادرات عدة للنشر وطباعة الكتب في لبنان والدول العربية.

ولعل واحداً من أهم المشاريع الناجحة التي أطلقها بسّام شبارو، وكان ذلك عام 1998، هي مكتبة «نيل وفرات» الإلكترونية، التي أصبحت لها فروع في كثير من الدول العربية، وتبيع الكتب ورقية ورقمية عبر الإنترنت.

يعرض موقع «نيل وفرات» على رواده أكثر من 800 ألف كتاب ورقي و23 ألف كتاب إلكتروني من مختلف دور النشر العربيّة. قام بالجهد الرئيسي الابن صلاح الدين شبارو. بدأ المشروع بمكتب صغير في «الدار العربية للعلوم»، لكن نجاحه فاق التوقعات، وأصبحت له فروع في سوريا والأردن ومصر والسعودية والإمارات، مع مواكبة التطور التكنولوجي، ومراعاة ضرورة سرعة التوصيل.

حياة الكاتب والناشر بسّام شبارو، كما كل أبناء جيله، اخترقتها الحروب والأزمات، وهو من جانبه قرر أن يواجه بدلاً من أن يستسلم.

في فترة الوباء، يوم كان أهل بيروت كلٌّ يختبئ في منزله، كان الحاج بسام يمارس رياضة المشي، ويتوجه إلى مكتبه ليشرف على العمل. أخبرنا يومها أن «الدار العربية للعلوم» لم تتوقف عن إصدار كتاب كل يوم حتى في «عزّ» الأزمة.

وحين كنا نسأله عن أكثر ما يؤرقه، كان يقول: «القرصنة. لا شيء أخطر من القرصنة على الناشر. فقد انخفض المبيع في المكتبات بسبب الأزمات والسرقات، إلى ما يوازي 80 في المائة».

ومع ذلك كان بسام شبارو، رجل المشاريع المتواصلة، والرؤية الواسعة. وحين سئل ذات مرة، كيف بدأ الترجمة عن الصينية؟ وكيف كان يختار الكتاب المناسب في لغة لا يجيدها؟ أجاب: «بعد كل هذا العمر في المهنة، بات يكفيني أن أشتمّ الكتاب لأعرف إن كان مناسباً للنشر».


مقالات ذات صلة

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق من ندوة حوارية بعنوان «دور الجمعيات المهنية في تنمية الصناعة الثقافية» (جدة للكتاب)

الجمعيات المهنية ترسم ملامح صناعة ثقافية منظَّمة بالسعودية

كيف تتحوَّل الثقافة من نشاط قائم على الموهبة والاجتهاد الشخصي إلى صناعة منظَّمة؟

أسماء الغابري (جدة)

المخرج المصري أبو بكر شوقي: أبحث عن عوالم جديدة في أفلامي

المخرج المصري أبو بكر شوقي (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
المخرج المصري أبو بكر شوقي (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
TT

المخرج المصري أبو بكر شوقي: أبحث عن عوالم جديدة في أفلامي

المخرج المصري أبو بكر شوقي (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)
المخرج المصري أبو بكر شوقي (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

قال المخرج المصري، أبو بكر شوقي، إنه يبحث دوماً عن الأفلام التي تدخله عوالم جديدة، كما في فيلميه السابقين «يوم الدين» و«هجان»، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن عالم المراسلات قد استهواه في أحدث أفلامه «القصص» الذى انطلق من قصة لقاء والديه عبر الخطابات البريدية.

وأشار شوقي إلى أنه لا يهتم بالسياسة، ولا يتخذ موقفاً من أحداثها خلال الفيلم، لكنها جاءت ضمن السياق التاريخي للفترة الزمنية التي تدور بها أحداثه، معبراً عن سعادته بعرض الفيلم بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، وبردود الفعل التي تلقاها من الجمهور.

وشارك فيلم «القصص» بمسابقة الأفلام الطويلة بمهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الخامسة، ولاقى اهتماماً لافتاً؛ حيث نفدت تذاكره مبكراً في جميع عروضه، وهو من بطولة نيللي كريم، وأمير المصري، وأحمد كمال، والممثلة النمساوية فاليري باشنر، ويشارك الفيلم في مسابقة الأفلام الطويلة بمهرجان قرطاج السينمائي، يومي 18 و19 ديسمبر (كانون الأول) الحالي.

لقطة من فيلم «القصص» (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

وأبدى المخرج المصري سعادته بمشاركته بمهرجان البحر الأحمر للعام الثالث على التوالي، حسبما يقول: «في العام قبل الماضي كنت مشاركاً بالفيلم السعودي (هجان)، وفي الدورة الماضية كنت عضواً بلجنة التحكيم، وهذا العام شاركت بفيلم (القصص)، وسعدت برد فعل الجمهور، فشرف لأي مخرج أن يجد فرصة لعرض فيلمه أمام هذا الجمهور المحب للسينما بالمملكة، وشعرت من ردود الفعل أن الجمهور الذي حضر الفيلم أحبه لأنه ذكرهم بزمن مختلف».

وعن تأثره بقصة لقاء والده المصري ووالدته النمساوية يقول شوقي: «الموضوع بدأ برغبتي في كتابة قصتهما ولقائهما في أثناء فترة السبعينات، وقد انطلق من واقعة حقيقية ليصبح مزيجاً بين الواقع والخيال، فبطل الفيلم عازف بيانو وبطلته كاتبة، وهما ليستا وظيفتي أبي وأمي، لقد أضفت لهما وقائع من خيالي وأخرى حدثت بالفعل؛ لذا قمنا بتغيير عنوانه من (صيف 67) إلى (القصص) لأنه مزيج من القصص التي نِشأت عليها في طفولتي من خلال حكايات أسرتي وهم بارعون في حكي القصص، ومع تكرار الحكي تكبر القصص، ويدخل فيها الخيال بشكل أكبر».

وظهر والدا شوقي بأحد مشاهد الفيلم، ولم يلاحظهما أحد، فقد قدمهما في مشهد خاطف يقول عنه: «لقد ظهرا في مشهد صغير صُوِّر بفيينا، هو مشهد صغير وسريع، رأيته نوعاً من التحية لهما، فقد ألهماني القصة».

تبقى السياسة حاضرة في الفيلم عبر خطب الزعيم جمال عبد الناصر وهزيمة 1967، ثم فترة حكم السادات بما شهدتها من أحداث مهمة مثل نصر أكتوبر (تشرين الأول) والانفتاح الاقتصادي ومقتل الرئيس الأسبق، فهل أراد المخرج محاكمة رموز السياسة بالفيلم؟ ينفي شوقي ذلك الأمر قائلاً: «لست مهتماً بالسياسة مثلي في ذلك مثل أحد أبطال الفيلم الذي يقول (السياسة لا تخصنا)، أنا أيضاً لا أهتم بها، لكنني تناولتها ضمن السياق التاريخي للفيلم؛ إذ تُعد خلفية للقصص التي نرويها، من خلال العائلة التي تحاول التعايش مع الواقع بكل صخبه وأزماته وأفراحه وأحزانه».

المخرج أبو بكر شوقي تحدث عن فيلمه «القصص» (الشرق الأوسط)

واستعاد أبو بكر شوقي عبر فيلمه تفاصيل صغيرة لم تغب عنه رغم تنقله في إقامته بين مصر والنمسا، وقد اعتاد أن يكتب أفلامه بنفسه، ويقول عن هذه التفاصيل: «هي أشياء تربيت عليها، أتذكرها منذ طفولتي، فقد عشت معظم سنوات حياتي في مصر، وحين كبرت عشت بالنمسا بحكم أن جزءاً من عائلتي بها، وأتذكر جيداً أن جهاز التلفزيون كان مفتوحاً طوال الوقت، وأن أغنية (وطني حبيبي الوطن الأكبر) كانت تعرض به مرات عديدة على مدى 24 ساعة، لم أكن وُلدت حين ظهرت، لكنها كانت تُعرض كثيراً في سنوات طفولتي».

وشَكلت الموسيقى والأغاني عنصراً أساسياً بالفيلم لتعكس زمنه في كل مشهد، وعَد شوقي الفيلم «رسالة حب للميلودراما المصرية فترة الستينات، حيث كانت الموسيقى عالية والتمثيل كبير والتيمات مختلفة»، مؤكداً أن الأغاني التي شكلت جزءاً من حياة الناس في تلك الفترة كانت أساسية بالفيلم.

وكشف شوقي عن أنه بدأ العمل على كتابة الفيلم خلال جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت في تعطيل إنتاج الفيلم مدة طويلة، مشيراً إلى أنه كان قد بدأ الكتابة قبلها، وسعى للبحث عن تمويل للفيلمـ، ويوضح: «خلال تلك الفترة حصلنا على دعم مؤسسة البحر الأحمر، والفيلم إنتاج مشترك بين مصر والنمسا وفرنسا والسويد، وأشكر كل الجهات على مساندة الفيلم؛ لأنه فيلم كبير يتضمن شخصيات عديدة، ومقسم لخمسة فصول، وأحداثه تدور خلال فترة زمنية طويلة، لكن تصوير الفيلم استغرق 34 يوماً فقط بين مصر والنمسا».

قاد أبو بكر شوقي ممثليه من المصريين والنمساويين ببراعة، ووضعهم في أدوار مغايرة، فظهرت نيللي كريم في دور أم لثلاثة شبان، وقدم أمير المصري دوراً جديداً عبر مراحل سنية مختلفة، ويقول المخرج: «لقد كنت محظوظاً بهذا الفريق الكبير المتناغم من الممثلين وبقية فريق العمل، والفنانون النمساويون محترفون، ويتمتعون بشهرة في النمسا، وسعدت بالعمل مع أمير المصري، كما أن نيللي كريم أدت دورها ببراعة وهي ممثلة محترفة، وتعرف مدى التحدي الذي يواجهه الممثل في تقديم شخصيات متباينة».

مع كل فيلم يكتبه، يبحث شوقي عن تحدٍ جديد يطرق من خلاله أبواباً لم يألفها، مثلما يقول: «أبحث دائماً عن الدخول في عوالم جديدة، فأول أفلامي (يوم الدين) تناول مستعمرة مرضى الجذام، وكان ذلك أمراً جديداً وملهماً، وثاني أفلامي (هجان) تطرق لعالم سباق الهجن، ولم أكن أعرف عنه الكثير، وفي (القصص) استهوتني فكرة الخطابات بين المحبين التي لم يعد لها وجود، وشكل المراسلات في الستينات والسبعينات».


أشعة الليزر تعيد الحياة لعمود ماركوس أوريليوس في روما

النقوش البارزة التي تصور مشاهد من معركة على عمود ماركوس أوريليوس (أ.ب)
النقوش البارزة التي تصور مشاهد من معركة على عمود ماركوس أوريليوس (أ.ب)
TT

أشعة الليزر تعيد الحياة لعمود ماركوس أوريليوس في روما

النقوش البارزة التي تصور مشاهد من معركة على عمود ماركوس أوريليوس (أ.ب)
النقوش البارزة التي تصور مشاهد من معركة على عمود ماركوس أوريليوس (أ.ب)

ظل عمود ماركوس أوريليوس في وسط روما القديمة قائماً متحدياً الزمن منذ تشييده منذ 1840 عاماً، غير أن العمر الطويل كانت له آثار سلبية على العمود المصنوع من الرخام، حيث عانى من آثار التلوث والتغيرات الجوية ودخول المياه لأجزائه. لكن العمود الشهير بنقوشه الحلزونية الملتفة على كامل العمود دخل في مرحلة من الترميم الدقيق يستخدم فيها المرممون أشعة الليزر الدقيقة لتنظيفه تماماً كما يستخدم جراحو التجميل الليزر لإزالة التجاعيد.

وخلال عملية الترميم الجارية حالياً سُمح للصحافة بالتقاط تفاصيل العمل عن قرب، حيث يقوم المرممون بإزالة طبقاتٍ من الأوساخ المتراكمة على مدى عقود من الزمن عن أحد أهم معالم المدينة التاريخية.

منظر عام لموقع ترميم عمود ماركوس أوريليوس الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي في وسط روما (أ.ب)

تُركز أجهزة الليزر المحمولة أشعةً ضوئيةً متذبذبةً على الحجر، فتُزيل الحرارة الناتجة عنها رواسب التلوث السوداء لتكشف عن رخام كرارا الأبيض تحته. تقول مارتا بومغارتنر، كبيرة مهندسي المشروع لـ«رويترز»: «إنه نفس مبدأ الطبيب في إزالة الشعر أو الجلد الزائد. تُحقق تقنية الليزر نتائج ممتازة في الترميم، وقد اخترنا استخدامها على كامل الواجهة الخارجية للعمود».

نحتت هذه النقوش الحلزونية حوالي عام 180 ميلادي، وتلتف 23 مرة حول العمود، لتصل إلى ارتفاع يقارب 40 متراً (130 قدماً)، وتصور أكثر من 2000 شخصية، من بينها آلهة وجنود ووحوش. ويظهر أوريليوس نفسه في عدة مواضع، حيث تُقدم النقوش معلومات قيّمة للباحثين عن هذه الحقبة من التاريخ الروماني. وتظهر النقوش حرص الفنانين القدماء على تصوير تفاصيل الحرب المروعة. فبينما يلتف النقش البارز للأعلى، يصوّر جنوداً يسحبون نساءً مع أطفالهن من شعورهن. وتتناثر جثث الأعداء المقطوعة الرؤوس على الأرض، وتثور الخيول في لهيب المعركة، ويبدو أسرى الحرب مرعوبين وأعناقهم موثقة.

نقش بارز يُعرف باسم «معجزة المطر» على عمود ماركوس أوريليوس (أ.ب)

بدأت أعمال الترميم في مارس (آذار)، ومن المقرر أن تنتهي مطلع العام المقبل بتكلفة مليوني يورو (2.3 مليون دولار أميركي)، وهي الأموال التي جُمعت من قروض ومنح ميسرة قدمها الاتحاد الأوروبي لإيطاليا لمساعدتها على التعافي من جائحة «كوفيد - 19»، وقالت بومغارتنر: «لقد تلقينا هذا التمويل الكبير، لذا كانت فرصة لا تُفوَّت».

ونقلت «أسوشييتد برس» جانباً من عملية الترميم التي شملت لجانب استخدام أشعة الليزر النبضية القصيرة لأول مرة، استخدام فريق المرممين مواد كيميائية، وإسفنجاً، وراتنجاً لإزالة الأوساخ المتراكمة من الضباب الدخاني في العاصمة الإيطالية، وسدّ الثقوب التي خلّفها تجمد الماء في الطقس البارد وتمدده داخل النصب التذكاري. كما عانى النصب من التآكل الذي طمس بعض وجوه الشخصيات المنقوشة.

نقش بارز يصور مشهد معركة على عمود ماركوس أوريليوس الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي في وسط روما (أ.ب)

توفر السقالات المربعة العريضة المحيطة بالعمود المساحة اللازمة للمرممين للعمل براحة. إذ يمكنهم التراجع خطوةً إلى الوراء والتأمل في التماثيل التي تتزايد أحجامها تدريجياً كلما ارتفعنا على العمود، وهي تقنية تهدف إلى جعلها أكثر وضوحاً من الأرض. يقول فالنتين نيتو، أحد المرممين العاملين في المشروع: «كانت هذه طريقةً لجعل الناظر يقرأ القصة بنفسه. إنها تجذب المشاهد حقاً، فيرى المشهد تلو الآخر، بكل تفاصيله الرائعة».

أجرى البابا سيكستوس الخامس أول عملية ترميم في أواخر القرن السادس عشر، حيث استبدل تمثال أوريليوس الأصلي في الأعلى بتمثال القديس بولس، الذي لا يزال موجوداً هناك حتى اليوم. أُجريت آخر عملية تنظيف في ثمانينات القرن الماضي، لكن مع مرور الوقت وعوامل التعرية، يستمر التلف، حيث يجد المرممون مناطق بدأ الرخام فيها بالانفصال، مما يستدعي تثبيتاً سريعاً، وأضاف بومغارتنر: «نأمل ألا تحدث مفاجآت في المستقبل. سيتم الآن مراقبته باستمرار، وسنتمكن من التدخل عند الحاجة».


«شي تيك توك شي تيعا»... طارق سويد يُحرز المختلف

المجتمع الذكوري والتحدّيات بين المرأة والرجل (الشرق الأوسط)
المجتمع الذكوري والتحدّيات بين المرأة والرجل (الشرق الأوسط)
TT

«شي تيك توك شي تيعا»... طارق سويد يُحرز المختلف

المجتمع الذكوري والتحدّيات بين المرأة والرجل (الشرق الأوسط)
المجتمع الذكوري والتحدّيات بين المرأة والرجل (الشرق الأوسط)

مرّة جديدة، ينجح المخرج والممثل والكاتب اللبناني طارق سويد في إحراز المختلف بقلمه ورؤيته الفنّية الإبداعية، وذلك من خلال مسرحية «شي تيك توك شي تيعا» التي تُعرض على مسرح «أتينيه» في منطقة جونية، على أن تنتقل قريباً إلى أحد مسارح بيروت.

يُدرك سويد أبعاد القلم الفنّي الذي يملكه وأهدافه، فيكتب من باب الوجع الإنساني، ويغمس نصّه بحفنة من الكوميديا السوداء، مولِّداً حالة من الضحك والألم، مُغلِّفاً إياها بسخرية ذكية، تشغل حواس الجمهور بالفكرة والمشهد والأداء.

المشهد الأول من «شي تيك توك شي تيعا» يجمع أبطال قصص طفولية (الشرق الأوسط)

وقد اختار أبطال المسرحية من بين طلابه الموهوبين في أكاديمية «بيت الفنّ» التي تديرها زميلته الممثلة فيفيان أنطونيوس. وهو الفريق نفسه الذي سبق أن تعاون معه في «مش مسرحية»؛ العمل الذي لاقى يومها نجاحاً لافتاً. فكانت إعادة التجربة دليلاً على كمٍّ واضح من التطوّر والنضج في أداء هذه المواهب الشابة.

يتألّف العرض من 6 مسرحيات قصيرة وسريعة، يلتزم فيها سويد بالمقولة الشهيرة: «خير الكلام ما قلَّ ودلَّ». يزوّد كل واحدة بجرعات من الضحك والنقد، مستفيداً من قلمه الذي يضع الإصبع على الجرح، من دون مبالغة أو تكرار أو إطالة، ممّا يحافظ على إيقاع متماسك من البداية حتى النهاية.

يتناول العمل مجموعة من القضايا الإنسانية، تتقدّمها مكانة المرأة في المجتمع، فيُوجّه إليها رسالة مباشرة للخروج من القوقعة المفروضة عليها. كما يُهدي سويد العرض إلى والدته الحاضرة بين الجمهور؛ فهي مُلهمته والداعمة الأولى له في تجاوز محطات صعبة من حياته. ويعرّج النص أيضاً على فكرة الزواج وبداياته، وقصص الحبّ التي كثيراً ما تُختصر نهاياتها بدقائق قليلة. وفي إحدى المسرحيات، يطالب الرجل بأن يضع نفسه، ولو مرّة واحدة، في موقع المرأة، فيُعيد تقييم دورها بوضوح ومن دون أحكام مسبقة.

المشهد الأخير مع مواقع التواصل ووهم الشهرة (الشرق الأوسط)

كما يعتمد النص أسلوباً تفاعلياً ذكياً بين الممثلين والجمهور، يظهر بوضوح في مشهد يتداخل فيه عرضٌ داخل عرض. ويتناول علاقة الحماة بالكنّة والزوج، وكيف يمارس بعض الناس التنمّر على الآخرين بدافع المتعة الشخصية.

المسرحية الأولى أطول زمنياً؛ لأنها تُشكّل امتداداً لعرضه السابق «مش مسرحية». وفيها يستعيد قصصاً طفولية نشأت عليها أجيال، مثل «بياض الثلج»، و«ليلى والذئب»، و«سندريلا»، متّخذاً منها نماذج لمجتمع لا يزال الفساد متغلغلاً في مفاصله.

يبقى المُشاهد متيقّظاً لكلّ تفصيل بصري طيلة العرض، من الديكور إلى الأزياء؛ إذ لا يترك سويد مجالاً للتشتُّت، فيملأ الفواصل بين المسرحيات بلوحات فنّية معاصرة، وتحضر راقصة باليه تختزل كلّ عرض برقصة تعبيرية حالمة، جامعاً بذلك عناصر الفنون البصرية في قالب حديث وغني.

نهايات الحب ومشاكل الزواج في أحد المَشاهد (الشرق الأوسط)

في العرض الخامس، يفتح سويد باباً جريئاً على موضوع الأقنعة التي يرتديها الناس في كلّ زمان ومكان، فيهربون عبرها من مواجهة مشاعرهم الحقيقية. ويُقدّم ما يشبه محاكمة سريعة لشخصيات اعتادت التخفّي خلف أدوار الضحية أو المثالية أو التنمُّر، فنشهد صراعات داخلية بين حقيقة تناديهم وأقنعة تمنعهم من معرفة ذواتهم.

إخراجياً، يعتمد سويد أسلوباً مختلفاً، يدخل فيه إلى عمق المشكلة، فيفكّكها ويضعها تحت المجهر. يُحذّر ويُنبّه، من دون أن يفرض حلولاً جاهزة، فيفتح مساحة للنقاش ووقفة صادقة مع الذات.

لوحات فنية كلاسيكية تفصل بين عرض وآخر (الشرق الأوسط)

أما في القسم الأخير، فيوجّه أقسى ضربة إلى عالم مواقع التواصل والمؤثّرين فيه، حيث يُمنع الصدق ويُسمح بالزيف، ومن لا يُجاري الموجة يلفظه التيار. ينتقد سويد ثقافة التفاهة، والتسويق الفارغ، والضجّة بلا مضمون. ويستحضر شخصيات للدلالة عليها، مثل «دكتور تفاهة» و«صانع محتوى بلا محتوى». فالمتحكّمون بهذه اللعبة مجهولو الهوية، تماماً كما الذباب الإلكتروني. يوجدون في كلّ «ترند» وظاهرة، ينفخون في الناس وهْم النجومية والشهرة، والعكس صحيح.

ومع ذلك، يختار طارق سويد في الختام طريق النجاة، مُنطلقاً من قناعة راسخة بأنه «لا يصحّ إلا الصحيح»، وأنّ قيم العيب والأصالة لم تنقرض؛ فأهلها لا يزالون قادرين على نشر الفضيلة وسط عالم مُتغيّر.