كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عائلة الروائيّ اللبناني تتحدّث إلى «الشرق الأوسط» في ذكرى غيابه الثالثة

الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)
الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)
TT

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)
الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كانت جائحة كورونا تعصف بالكوكب يوم أغمض جبور الدويهي عينَيه قبل 3 أعوام. حالت ظروف الحَجر والمرض العضال الذي تمكّنَ من جسده، دون احتفاله بروايته الأخيرة «سمٌّ في الهواء». لم يوقّعها للأصدقاء كما جرت العادة ولم يُشرف على ترجمتها إلى الفرنسية.

لكنّ سنوات الغياب لم تتراكم غباراً فوق الكتاب، فهو يعود إلى أيادي المتابعين والأصدقاء ضمن احتفاليّة تعدّ لها عائلة الأديب اللبناني الراحل في المكان الأحبّ إلى قلبه، بلدة إهدن شمالي لبنان.

الدويهي موقّعاً روايته ما قبل الأخيرة «ملك الهند» الصادرة عام 2019 (فيسبوك)

«سمّ في الهواء»

يحلّ تاريخ 23 يوليو (تموز) ثقيلاً على الزوجة تيريز والابنة ماريا اللتَين تخصّان «الشرق الأوسط» بحديث عشيّة الذكرى. «رغم غصّة الرحيل التي لم تفارقنا بعد، سنحتفي بأدبه نهاية هذا الصيف من خلال قراءات وشهادات حول شخصه وأعماله، لا سيّما (سمّ في الهواء)»، تقول ماريا الدويهي.

تلك الرواية بدأ الدويهي بكتابتها خارج البيت، هو الذي وجد إلهامه في المقاهي وسط زحمة الناس الذين شكّلوا خميرة حكاياته. لكن عندما خارت قواه، نقل الحِبر إلى ما بين جدران غرفته، حيث لا رفيق سوى شعاع شمسٍ صغير ومشهد جبل إهدن يسمو قبالة النافذة. أمّا الطقوس فبقيت هي هي، على ما تروي تيريز الدويهي؛ «كان يتأنّق لملاقاة الحروف، يرتدي البدلة قبل البدء بالكتابة كما لو أنه يهمّ بالخروج من المنزل».

لفَرط ما روّض الموت في رواياته، لربّما تآلفَ جبور الدويهي معه. تسترجع زوجته أيامه الأخيرة مؤكّدة أنه «عاشها كأنه ليس مريضاً ولن يموت». طيلة فترة المرض، لم يتحدّث مرة عن الرحيل رغم معرفته بأنه كان على مقربة منه. «هو أصلاً لم يكن يفتح قلبه ويشاركنا الأفكار الدائرة في رأسه»، تقول تيريز.

غلاف رواية جبّور الدويهي الأخيرة الصادرة في 2021 (إكس)

اليوم الأخير

السنتان الأخيرتان في حياة جبور الدويهي، واللتان انقضتا بين سطور الرواية الأخيرة وعيادات الأطبّاء وأروقة المستشفيات، اختُتمتا صباح الجمعة 23 يوليو 2021.

عن اليوم الأخير تتحدّث تيريز قائلة إنه أُصيب بانحطاط كامل في الصباح، فاحتاج إلى المساعدة كي يجلس. لكنه كان مصرّاً على مراقبة كل ما يدور حوله. تتابع السرد: «تحلّقنا حوله نداعب شعره ونقبّل وجهه. ابنتاه تُدفئان يدَيه وابنُه يناديه من دون جواب. غادر كأنه نعس ونام في حضن أولاده».

هكذا مضى جبور الدويهي عن 72 عاماً، مستلهماً مشهده الأخير من عنوان روايته الأولى «الموت بين الأهل نعاس»، 1990. لم يكن خائفاً ولا متألّماً، بل كان محاطاً بالحب والرعاية. «وفي اللحظة الأخيرة، كان مبتسماً كي لا نحزن»، تروي الابنة ماريا.

لم يسلّم العائلة وصيّة ولا مخطوطات رواياتٍ جديدة، إنّما ترك خلفه قبّعته الشهيرة والكثير والكثير من الكتب. «كل ما في البيت يذكّرنا به. لكن عندما نقرأ كتبَه نشعر بحضوره قوياً حولنا، ونشعر بغيابه كذلك»، تقول ماريا والغصّة تملأ صوتها.

الكاتب جبّور الدويهي وزوجته تيريز الدحداح (فيسبوك)

دخول متأخّر إلى الرواية

كان جبور الدويهي زاهداً في الحياة. أحبّ منها أشياءها البسيطة، كالجلسات اليوميّة في المقهى مع الأصدقاء للعب الورق، وكزيارته الأسبوعية لبيروت للاطمئنان إلى أحوال العاصمة. أحبَّ كذلك طلّابه في «الجامعة اللبنانية» حيث درّسَ الأدب الفرنسيّ، وغداءَ يوم الأحد مع الأولاد والأحفاد. لكن أكثر ما أحبّ الدويهي، الحكايات... يسردها، يكتبها، يقرأها ولا يملّها.

تخبر تيريز بأنه «تعرّض خلال طفولته للتنمّر في المدرسة لأنه كان قارئاً نهماً، لا يفارق الكتاب حتى في الملعب». لكنّ سخرية الرفاق لم تغيّر شيئاً، فظلَّ الكتاب صديق الدرب. من بين مؤلّفاته، كانت رواية «شريد المنازل»، 2010، الأقرب إلى قلبه لأنها تعكس جزءاً أساسياً من مرحلة شبابه. أما من بين الكتّاب العالميين، فتأثّر الدويهي بأسلوب غابرييل غارسيا ماركيز، كما أحبَّ مارسيل بروست وإميل زولا. الفارق بينه وبين هؤلاء الأدباء أنه أتى إلى الرواية متأخّراً، وتحديداً في عامه الأربعين. والأغرب من ذلك أنه اختار الكتابة باللغة العربيّة وهو المتمرّس بالفرنسيّة ومدرّسُها في الجامعة.

أكثر ما أحبّ الدويهي كانت الجلسات مع الأصدقاء في مقاهي بلدته إهدن (فيسبوك)

تخبر تيريز الدويهي أن قصة حقيقية من القرن الـ19 عن امرأة من شمال لبنان رفضت إخراج جثة ابنها الوحيد من البيت مبقية عليه داخل صندوق معها، هي التي أوحت لجبور بدخول عالم الرواية، فكانت باكورته الأدبيّة «الموت بين الأهل نعاس».

ثم كرّت السبحة رواياتٍ تُرجمت إلى لغاتٍ عدّة وحصدت الجوائز، من أبرزها «اعتدال الخريف»، و«مطر حزيران»، و«عين وردة»، و«حي الأميركان». أما القاسم المشترك بينها فهو المكان، إذ ينطلق الدويهي دائماً من لبنان؛ وليس عبثاً أن أُطلق عليه لقب «روائي الحياة اللبنانية». لطالما كرّر أنّ «المطارح هي أساس الرواية»، ومطرحُه المفضّل كان وطنه الذي عالجه روائياً بأبعاده التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية والنفسيّة.

لُقّب الدويهي بـ«روائيّ الحياة اللبنانية» وقد انطلقت معظم قصصه من مجتمعه المحلّيّ (فيسبوك)

«رجُل من حبر وورق»

مع كل رواية أصدرَها، أثبتَ جبور الدويهي أنه ليس قلماً عابراً في عالم الأدب. ورغم دخوله المتأخّر إلى هذا العالم، فهو سرعان ما تحوّل إلى رائدٍ من روّاد الرواية اللبنانية المعاصرة وأحد أهمّ أعمدتها. غير أنّ كل ذلك المجد لم يُخرجه من دائرة الظلّ التي ارتضاها لنفسه. تختصر ماريا الدويهي حالة الخفر تلك لدى والدها بعبارة تصيب الهدف: «روايته أكبر من الصورة التي عكسَها عن نفسه».

لم يسمح الدويهي للروائي الذي يسكنه أن يسرق الضوء من الرواية. تتابع ماريا شارحة: «لم يكتب من أجل الحصول على تقدير أو شهرة أو إعجاب، فهذه كانت سخافات بالنسبة له». لكن وفق الابنة، فهو «ربّما كتب سعياً للخلود من خلال كتاباته». ولعلّ تلك العبارة التي قالها في أحد أحاديثه الصحافية القليلة تُثبت النظريّة: «كتُبي جعلتني رجلاً من حبرٍ وورق». وبهذا الحبر والورق، دخل جبور الدويهي الأبد فعلاً، رغم ذهابه إلى الأبديّة.


مقالات ذات صلة

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون "نصب الحرية" لجواد سليم

كلام الشموع

لأم كلثوم أغنية من تأليف أحمد رامي وتلحين محمد القصبجي عنوانها «سكت والدمع تكلّم على هواه»، تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي

حيدر المحسن

«شعاع الشمس»... دفقات فنية تحضّ على الإبداع

لوحة للفنان عمر عبد الظاهر في المعرض (إدارة الغاليري)
لوحة للفنان عمر عبد الظاهر في المعرض (إدارة الغاليري)
TT

«شعاع الشمس»... دفقات فنية تحضّ على الإبداع

لوحة للفنان عمر عبد الظاهر في المعرض (إدارة الغاليري)
لوحة للفنان عمر عبد الظاهر في المعرض (إدارة الغاليري)

بأفكار فنية تجمع بين الخيوط المشتركة التي تحرّك نسيج الثقافة المصرية والمجتمع والحياة، يقيم غاليري «سفر خان» في القاهرة معرضه الصيفي السنوي لعام 2024 بعنوان «شعاع الشمس»، وذلك بمشاركة 20 فناناً ينتمون لمدارس وأجيال مختلفة.

يتميّز المعرض بمفهوم «الالتقاء المزدوج»؛ حيث تلتقي الأفكار الغنية مع الأساليب والوسائط المتنوعة للفن المعاصر من جهة، ومن جهة أخرى يحتفي هذا الالتقاء الناجم عن تجارب وخبرات إبداعية مميزة، حسب منى سعيد مديرة الغاليري.

عفوية المعالجة الفنية وزخم الدّلالات النفسية في عمل لأحمد جعفري (إدارة الغاليري)

وتربط منى سعيد بين دفقة أشعة الشمس التي نستمتع بها بعد برد الشتاء، وبين الطاقات التي تولد داخل الفنانين والتي تحفّز بدورها على الإبداع والإنتاج الفنيين، انطلاقاً من أنه «إذا كانت الشمس وثيقة الارتباط بالإضاءة الطبيعية فإنها كذلك تكشف الحقائق المتشابكة واللامعة داخل النفس الإنسانية».

تقول لـ«الشرق الأوسط»: «يفسح هذا المعرض الذي يضمّ نحو 35 عملاً، المجال لمجموعة متنوعة من الفنانين البارزين لتقديم أعمالهم عبر الوسائط والموضوعات المختلفة، إضافة إلى مجموعة من الأسماء الشابة الطموحة الذين نهدف إلى منح أعمالهم فرصة لتواصل الجمهور وتفاعلهم معها».

لوحة الفنان إبراهيم خطاب (إدارة الغاليري)

تتجذّر إحدى اللوحتين اللتين يشارك بهما الفنان إبراهيم خطاب في المعرض بالتاريخ، وذلك استناداً إلى اعتزازه بعراقة الحضارات التي شهدتها بلاده، فحملت هذه اللوحة مشهداً درامياً متعدّد الشخوص والحيوانات والعناصر، حيث جمع فيها ما بين الواقع والخيال.

في حين يحتفي العمل الآخر لـ«خطاب» بالذاكرة الجماعية لسكان الأحياء القديمة، وفيه استعان بقصّاصات الصحف القديمة، فضلاً عن الملصقات الإعلانية والدعاية الانتخابية المتناثرة في شوارع المناطق الشعبية المصرية بعد أن أزالها من حوائط البنايات أو جمعها من الأرض، ليعبر من خلال هذه الأوراق متعددة الطبقات عن مشاعر السكان وثقافتهم.

ومن خلال تجريد هذه الطبقات الزمنية في لوحاته القماشية المعالجة كيميائياً يكشف عن الروايات الخفية والعلامات الزائلة التي خلّفها عدد لا يحصى من الأفراد، ويُعد هذا الاكتشاف انعكاساً عميقاً لمرور الوقت والتأثير العابر والدائم للوجود البشري، وفق إبراهيم خطاب.

وتعكس اللوحة التي تشارك بها الفنانة الشابة فاطمة عمران، ميلها للدمج بين الشخوص والحيوانات والنصوص الفارسية، مع استخدام تقنية التركيب والتشريح الدقيق للحيوانات؛ إذ يصور هذا العمل الفني، المستوحى من المنمنمات الإسلامية، حصانين متعارضين، يحمل كلٌ منهما عدداً من الأفراد المزينين بالعمامات، ويشير النص المكتوب بالفارسية إلى «إنما الإنسان أثر فانظر ما أنت تارك خلفَك».

لوحة للفنانة فاطمة عمران (إدارة الغاليري)

تقول الفنانة لـ«الشرق الأوسط»: «أرمز من خلال العمائم التي ترتفع في السماء إلى الأفكار والأحلام، التي تتجاوز العالم المادي؛ ذلك أن تجاور الشخصيات الثابتة والعمامات المحمولة جواً يجسد الطبيعة العابرة للوجود الإنساني، والإرث الدائم لمساهماتنا الفكرية والثقافية؛ ما يدعو إلى التأمل في اللحظة الزائلة التي نعيشها، والأثر الدائم لأعمالنا على الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة».

جانب من معرض «شعاع الشمس» في غاليري «سفر خان»

يلتقي المشاهد على مسطح لوحات الفنان أحمد فريد بمساحات من الجمال والسلام والتأملات التجريدية المقترنة بالخطوط القوية والظلال المتباعدة والألوان المتعددة المتدفقة بسخاء لا سيما اللونين الأحمر والأزرق، وهو أحد الفنانين الذين يحرص الغاليري على وجودهم في المعرض الصيفي سنوياً؛ ومن المعروف أنه سجّل حضوراً في ساحات عالمية؛ ومن ذلك بيع بعض لوحاته في «دار كريستيز للمزادات»، ومنها لوحة «متروبوليس» عام 2017، ولوحة «نهر الصمت» عام 2018، فضلاً عن «الفوضى الحضرية» عام 2019.

ويضمّ المعرض كذلك عملين من التماثيل النصفية البرونزية للنّحات الأرمني السكندري المولد، سركيس توسونيان، باللون الأخضر الفيروزي مع لمسات ذهبية لامعة، ولوحة من الرسم بالنسيج للفنانة نعمة السنهوري، في حين تطلّ الفنانتان كاثرين باخوم، وتسنيم المشد، بحضور مميّز عبر أعمالهما الزاخرة بالمنمنمات المتناقضة في الأسلوب والمضمون.

لوحة للفنان عمر عبد الظاهر في المعرض (إدارة الغاليري)

وفي حين ينقل عمر عبد الظاهر المتلقي إلى قلب الريف وتفاصيل الحياة الهادئة البسيطة من خلال لوحاته، فإن اللوحة التركيبية لمحمد حسين تُؤكّد تأثره بنشأته في الفيوم، حيث يتنقل ما بين المناظر الطبيعية ومظاهر البيئة المصرية التي صاغها بتكوينات لونية ترابية.

ويلتقي زائر المعرض ببناء تشكيلي محكم من خلال أعمال أحمد جعفري، وهو بناء يقوم على عفوية المعالجة الفنية وزخم الدّلالات النفسية والوجدانية وجرأة المساحات اللونية، فضلاً عن رصانة أسلوب كريم عبد الملك، واحتفاء ياسمين حسن بالصّبار، وأحمد يسري بدفء البيوت، وتجسيد رنا شلبي للدراويش، وصلاح بطرس للأسواق التاريخية.