يمتزج الحاضر مع الأسطورة في جناح لبنان ببينالي فينيسيا، هنا نرى تنويعات على أسطورة أوروبا الأميرة الفينيقية التي اختطفها زيوس، كبير آلهة الأولمب في الميثولوجيا الإغريقية، من شواطئ مدينة صور. لا نرى هنا الأسطورة التي كتبها اليونان، حيث يظهر «زيوس» على شكل ثور أبيض يختطف أوروبا ويحملها على ظهره نحو شواطئ جزيرة كريت. الأسطورة التي اختارتها الفنانة اللبنانية منيرة الصلح موضوعاً لعملها في البينالي، تكتسب أبعاداً جديداً ولمحات طريفة خطتها يدها على الورق، وعلى القماش وعبر الفيلم.
قارب فينيقي
تمتد تصورات منيرة الصلح على كامل مساحة الجناح، وترتكز على القطعة الأساسية المتمثلة في قارب خشبي بسيط على الطراز الفينيقي، احتفظ بهيكله التاريخي كما ورد في المراجع والرسوم القديمة، ولكن يد الفنانة أضافت له الكثير من القطع تخرج به من مساحة التاريخ لتدخله واقعاً خاصاً أرادت تصويره لزوار العرض.
الأجواء بحرية بامتياز انطلاقاً من اللون الأزرق على الجدران الذي يربط الجناح وموقعه في مدينة البندقية العائمة، مع البحر المتوسط الذي شهد حمل أوروبا لموطنها الجديد، وفي جانب من القاعة نرى ممراً خشبياً زينه الطلاء الأزرق ينساب متعرجاً، وكأنه مقام على الماء. لماذا الأسطورة القديمة وما علاقة أسطورة أوروبا وزيوس بالجناح اللبناني؟ سؤال مستحق إذ إن أسطورة أوروبا وزيوس هي من أهم الأساطير اليونانية التي ترتبط بوجهٍ عام بالقارة العجوز أوروبا أكثر منها بلبنان. تقول ندى غندور، المفوضة العامة والقيمة الفنية للجناح، إن منيرة الصلح اختارت العودة بأوروبا لأصولها الفينيقية، فهي اختطفت من شواطئ مدينة صور بلبنان، ومن هنا نرى أن الصلح قررت إعادة استملاك الأسطورة. إعادة القصة لأصولها المنسية قد يكون في حد ذاته كافياً للعمل الفني، ولكن لمنيرة الصلح هنا نظرة أخرى قلبت بها الأسطورة على رأسها لتصور من خلالها حركة احتجاج تعيد للمرأة السلطة على حكايتها، فأوروبا هنا ليست الأميرة المغلوبة على أمرها بحسب تصوير الفن الأوروبي لها في أعمال شهيرة، بل هي هنا المسيطرة، وهي من اختطفت زيوس. بحسب غندور، تقترح الفنانة قراءة بديلة معاكسة للرواية، وتضيف لمسة من الفكاهة تظهر في الرسوم المعروضة في أرجاء الجناح، وفي تفاصيل القارب وسط القاعة.
في حديث مع «الشرق الأوسط» تقول ندى غندور إن التحضير للجناح اللبناني أخذ في الاعتبار أن يكون العرض متعلقاً بلبنان وأن يكون له جانب عالمي أيضاً. ومن هنا جاء تصور الفنانة منيرة الصلح لعمل «رقصة من حكايتها»: «نحكي هنا عن فينيقيا بوصفها من حضارات البحر المتوسط وأيضاً عن حضارات اليونان والرومان». تشير إلى أن «أسطورة أوروبا عدّت جزءاً من التراث اليوناني، ولم يفكر أحد في القول إنها في الأصل من الميثولوجيا الفينيقية. من أجل ذلك كان يهمنا أن نعيد الحضارة الفينيقية لمكانها الحقيقي». بصرياً تطرح الصلح صلة الأميرة الفينيقية أوروبا بلبنان عبر تصويرها، وهي تحمل فرعاً من شجرة الأرز، وهو رمز للبنان، ونرى ذلك مكرراً في الرسومات المحيطة بنا. تضع الصلح رسوماتها لأوروبا الفينيقية في مواجهة لوحات أوروبية شهيرة للأسطورة اليونانية التي سجلها المؤرخ اليوناني هيرودوت والكاتب الروماني أوفيد وغيرهم، وخلدتها لوحات كبار الفنانين في العالم، ومن أشهرهم الفنان تيشيان والفنان الإيطالي فيرونيزي. تتحدث ندى غندور عن لوحة فيرونيزي قائلة: «تصور لوحة (اختطاف أوروبا) لفيرونيزي، الأميرة، وقد حملها زيوس متخفياً في هيئة ثور أبيض، تلقي ببصرها إلى الشاطئ الذي اختطفت منه، تلتفت هنا لبلدها، وهو ما تصوره منيرة الصلح أيضاً فأوروبا تركت بلدها في صور بجنوب لبنان مرغمة». عمل الفنانة هنا يدعو زوار الجناح للمشاركة في «رحلة البحث عن أوروبا... وفي صنع مصير أنثوي متحرر دون الخضوع للرجال والسعي إلى حالة تكافؤ بين الجنسين».
بحسب غندور، فالقصة القديمة التي نظمها رجال «تعبر عن الرغبة في السيطرة على المرأة وإخضاعها. تذكرنا رحلة أوروبا إلى جزيرة كريت، بداهة، بغنائم الحرب التي أخذها الكريتيون من الفينيقيين. على مر القرون، لا سيما في الرسم الغربي، تتطور تصورات الأسطورة من فعل الاختطاف إلى حالة من الموافقة والرضا»، وهو ما ترفضه الفنانة هنا عبر رؤيتها للأسطورة من وجهة نظرها فهي تختار إنشاء علاقة مساواة بين المرأة، وتمثلها أوروبا، وزيوس، ويمثل الرجال، ولكنها أيضاً تقدم بلمحة فكاهية أوروبا وهي تتلاعب بزيوس، وفي جانب آخر وهي تختطفه.
تنسيق الجناح
عند الحديث عن تأثير العمل لا يمكننا أن نغفل دور مصمم السینوغرافیا المھندس المعماري كریم بكداش وتقديم أجزاء العمل الفني لتصبح عملاً واحداً مركباً يربط بين أطرافه عبر اختيار اللون الأزرق للحوائط أو الممر الخشبي المتعرج الذي يربط بين عناصر فنية استخدمتها الفنانة، وهي الأقنعة الطينية. ترتبط كل هذه العناصر مع القارب الذي يتوسط مساحة العرض. تعلق ندى غندور قائلة: «كل العناصر هنا تتمحور حول الزورق»، حالة الزورق وهو في منتصف اكتماله تمكنه من أخذ المشاهد في رحلة رمزية لصلب موضوع الجناح، وهو التعادل بين المرأة والرجل، وهي أيضاً رحلة لم تكتمل بعد. هنا نرى نحن المشاهدين الرموز المستخدمة تمسك بيد بعضها على طريق واحد ونحو غاية محددة.
تشير منسقة الجناح إلى أن القارب ورمز الرحلة المستمرة تسانده مجموعة من الرسومات واللوحات المعروضة، إضافة إلى الأقنعة الموزعة بشكل نصف دائري. معاً، تقدم اللوحات والأقنعة أكثر من إجابة عن السؤال «لماذا لم نصل للغاية المنشودة؟». اللوحات المعروضة على يسار الداخل للقاعة تمثل تصور الفنانة للانعتاق، أما الأقنعة على اليمين والمنتظمة على الممشى الخشبي فترمز للمجتمع المحافظ الممانع لهذا التقدم.
تستخدم الصلح مفردات بصرية جديدة لتقدم رؤية للمرأة على أنها صاحبة شخصية قوية وليست الأسيرة المغلوبة على أمرها كما تحكي الأسطورة. تحكي المنسقة أن إحدى زائرات العرض سألتها «إن كانت أوروبا مختطفة فالتصوير لم يظهرها وهي تقاوم أو تدفع زيوس بعيداً عنها؟» وكان رد غندور: «الفكرة من خلف عمل منيرة هو الحلم بالتعادل والمساواة وليس المعركة».
منيرة الصلح: غيرت الأسطورة
تختار الفنانة أن تبدأ حديثها معي حول سبب اختيارها أسطورة أوروبا: «عند القراءة أو البحث عن الفينيقيين، نرى أشياء متفرقة عن تاريخهم ولكن لا نجد ذكراً لأسطورة أوروبا، وربما يعود ذلك لأنها اختطفت وكأن الأمر فيه وصمة عار ولا يدعو للفخر مثل أساطير أليسا أو أدونيس. لهذا أخذت هذه الأسطورة وغيّرتها، فجعلت أوروبا هي من تختطف زيوس وتحمله معها، وتقرر مصيره».
تقول: «أريد أن يرى الزائر أنني أعيد كتابة أسطورة أوروبا التي نقلها لنا كتاب رجال من اليونان، أعدت كتابة الأسطورة اليونانية من وجهة نظري من الجانب الآخر من البحر المتوسط. قمت باستعادة قصة الأميرة الفينيقية أوروبا، نحن أحق بالقصة لأن معظم اللوحات الشهيرة عنها تصورها كضحية، أريد أن أغير هذا الأمر».
حرصت الفنانة على إظهار العنصر الفينيقي في الرموز والصور وأيضاً في المواد المستخدمة مثل ورق البردي، مشيرة إلى أن استخدامه في لبنان كان نتيجة للتجارة مع مصر الفرعونية، وهو تعاون امتد لتصميم القوارب الخشبية. تظهر في رسوماتها هنا أيضاً إشارات إلى الزهور والمثلثات والحيوانات المأخوذة من الأساطير الفينيقية، كما استوحت في عملها الألوان التي استخدمها الفينيقيون مثل اللون الذي تنتجه صدفة الموريكس.
وبالنظر إلى القارب الخشبي المعروض هنا، فنلحظ أن الفنانة أضافت له الكثير من لمساتها الخاصة التي تعبر عن موضوعات وهواجس تهمها، مثل استخدام قوارير الماء البلاستيكية على جوانب القارب في إشارة إلى أزمة المناخ.
تمد الفنانة حبل السرد من الماضي السحيق المتمثل في الأساطير، للحاضر الذي تنشد تغييره لتصل للمستقبل، حيث التعادل بين الجنسين والعناية بكوكب الأرض.