قصص نجاح سعودية في الأولويات الوطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار

رصدها تقرير حديث ضمن نقلات تقنية حديثة في القطاع

تتطلع مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار والابتكار للانخراط في حقبة جديدة سيشهدها القطاع (هيئة الابتكار)
تتطلع مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار والابتكار للانخراط في حقبة جديدة سيشهدها القطاع (هيئة الابتكار)
TT

قصص نجاح سعودية في الأولويات الوطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار

تتطلع مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار والابتكار للانخراط في حقبة جديدة سيشهدها القطاع (هيئة الابتكار)
تتطلع مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار والابتكار للانخراط في حقبة جديدة سيشهدها القطاع (هيئة الابتكار)

من نجاح باهر لباحثة سعودية في مجال اكتشاف مؤشرات الأمراض المزمنة، إلى تمكن شركة في إعادة تعريف إحدى عمليات تحليل المياه المالحة، مروراً بتسجيل فريق «كاوست» رقماً قياسياً عالمياً في كفاءة الخلايا الشمسية المزدوجة، وانتهاءً بتألق شركة سعودية في بناء رؤية وتجربة فنية تتخطى حدود المألوف، قصص نجاح تحققت على مستوى الأولويات الوطنية التي أعلنتها السعودية إطاراً لمساعيها في قطاع البحث والابتكار منذ عام 2022.

ورصد تقرير حديث صادر عن المرصد الوطني للبحث والتطوير والابتكار نقلات تقنية حديثة بناءً على إشارات وأحداث شهدها قطاع البحث والابتكار، وأورد قصص نجاح سعودية ملهمة في كل واحد من الأولويات الوطنية التي تتمثل في صحة الإنسان، واستدامة البيئة والاحتياجات الأساسية، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصاديات المستقبل.

وضعت الأولويات الوطنية في القطاع للعقدين المُقبلين كبوصلة للمبتكرين في خلق الحلول وتحليل التوجهات وبناء المستقبل (هيئة الابتكار)

عالم يزداد فيه التنافس

قال الدكتور محمد عويض العتيبي، المشرف العام على هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، إن الإنجازات العلمية والابتكارات والتطورات التقنية التي رصدها التقرير وفقاً لمنهجية علمية، ستؤدي إلى إحداث تغييرات مستقبلية، في حين يوفر التقرير الفرصة والأساس للتخطيط للمستقبل والإمساك بزمام المبادرة للاستثمار في هذه التقنيات، أو الاستعداد لها ودرء المخاطر المحتملة.

وأكد العتيبي أن استشراف المستقبل التقني، يعدّ أحد المجالات المهمة للتخطيط الاستراتيجي الفعال الذي يتيح للسعودية التعامل مع عالم يزداد فيه التنافس بين الأمم، وتعزيز التشاركية في عملية الاستشراف التقني، ودمج الجامعات والمعاهد البحثية ومراكز الابتكار في السعودية، للمساهمة في رسم السياسات واتخاذ القرارات الاستراتيجية المناسبة فيما يتعلق بأولويات البحث والتطوير والابتكار في السعودية.

نجاح باهر لباحثة سعودية في القطاع الصحي

تبدأ أولى قصص النجاح مع الباحثة السعودية دانة السليمان التي تعدّ أصغر باحثة في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وقادت أبحاثاً شملت علوم المواد والهندسة الحيوية والتقنيات الدقيقة، للمساهمة في تحسين حياة المرضى المصابين بالأمراض المزمنة من خلال استخدام منصات الاستشعار الحيوي لتحديد المؤشرات الحيوية، واكتشاف وتوصيف الأمراض المزمنة والمتعلقة بالعمر. ونجحت الباحثة مؤخراً في تطوير طريقة بسيطة ومنخفضة التكلفة لتشخيص السرطان، باستخدام مواد النانو المتقدمة والمواد الحيوية الاصطناعية؛ وهو الأمر الذي قد يمهد الطريق لإجراء اختبارات على نطاق أوسع، تصبح معها مراقبة المرض واستجابة المريض للعلاج ممكنة.

السعودية دانة السليمان المتخصصة في الهندسة الطبية الحيوية (موقع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا)

رقم قياسي عالمي في كفاءة الخلايا الشمسية

وفي ظل استهداف السعودية، توليد نحو 50 في المائة من الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة بحلول عام 2030، نجح الباحثون في مختبر الخلايا الكهروضوئية بمركز الطاقة الشمسية في جامعة الملك عبد الله للعوم والتقنية، من تحقيق رقم قياسي عالمي وتجاوز مركز نظير لها في برلين، وإنتاج خلية شمسية مزدوجة بكفاءة تحويل طاقة تبلغ 33.2 في المائة. وتم اعتماد المنتج من قِبل منشأة الطاقة الشمسية الأوروبية (ESTI)، وإدراجه في صدارة مخطط كفاءة الخلية البحثية الأفضل من المختبر الوطني للطاقة المتجددة (NREL)، ومثّل الابتكار اختراقاً كبيراً في مجال الطاقة الشمسية، وقد عمل عليه الفريق بإصرار منذ عام 2016 من خلال تطوير المواد والهياكل ومواجهة التحديات الأساسية.

رحلة من الأكاديميات إلى الريادة

تمكنت شركة (Thya Technology) من تطوير نموذج متقدم للكشف البصري، يعالج مجموعات كبيرة من الصور بكفاءة عالية، ويوفر حلولاً مبتكرة لتحديات تحليل البيانات الضخمة، وبدأت وزارة الثقافة السعودية استخدام التقنية في تحليل الصور الفوتوغرافية عبر الأقمار الاصطناعية للهياكل الحجرية القديمة والمواقع الأثرية، مع قدرة النموذج على معالجة مليوني صورة في نحو 5 ساعات. النموذج الذي أطلقته الشركة الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، يستخدم خوارزميات تعلم آلي متقدمة لتحليل الصور، ويستخدم في مجالات الزراعة وعلوم الأعصاب والتخطيط الحضري، كما أطلقت الشركة منصة سحابية سهلة الاستخدام تتيح التحليل الآلي بدقة عالية. وعكست هذه التجربة واحدة من رحلات النجاح من الأكاديميات إلى الريادة في دمج العلم بالمهارات الريادية لتحقيق أقصى استفادة من البحث العلمي.

بدأت وزارة الثقافة السعودية استخدام التقنية في تحليل الصور الفوتوغرافية عبر الأقمار الاصطناعية للهياكل الحجرية القديمة والمواقع الأثرية (واس)

نقلة في مجال تحلية المياه

تمكنت شراكة ناجحة بين المخترع باسل أبو شرخ ورجل الأعمال السعودي سامي البكري، المؤسس لعدد من الشركات الابتكارية في مجالات المياه والتعدين والطاقة المتجددة، في ابتكار تقنية حديثة تساهم في خفض تكلفة رأسمال محطات تحلية المياه المالحة بنسبة 40 في المائة وتكاليف التشغيل بنسبة 60 في المائة مقارنة بالطرق الحرارية وطرق الضغط الميكانيكي. وتم تسجيل براءة الاختراع لتقنية (Hyrec) عام 2016 وتم تطوير النموذج الصناعي الخاص بها في العام التالي، وفي عام 2018 جرى التشغيل الناجح للمصنع التجريبي في موقع المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة في مدينة أملج غرب السعودية، وفي عام 2020 أقيمت المشروعات التجارية الأولى لهذه التقنية في إندونيسيا والكويت، كما تم تعميدها تقنياً في نيوم، ويتم التوسع إلى أسواق اليابان والصين والكويت وأميركا الجنوبية.

وتتطلع مراكز الأبحاث وصناعة الأفكار والابتكار للانخراط في حقبة جديدة سيشهدها القطاع، بعد أن رسم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في يونيو (حزيران) من عام 2022، ملامح المرحلة، ووضع الأولويات الوطنية لقطاع البحث والتطوير والابتكار للعقدين المُقبلين، كبوصلة للمبتكرين في خلق الحلول وتحليل التوجهات وبناء المستقبل. ومنذ ذلك الحين، يقطع فريق تأسيس هيئة الابتكار في السعودية أشواطاً لصنع نواة القطاع، وتلتئم تحت سقفها الاجتماعات، وتبنى الشراكات، وتتبلور الأفكار، لإطلاق مرحلة جديدة لقطاع الابتكار والبحث، تركز على خلق بيئة موائمة للابتكار، واستقطاب أفضل العقول من داخل البلاد وخارجها، لتنويع الاقتصاد الوطني، وخدمة الأغراض العلمية والتقنية، ومجالات المستقبل، ونفع البشرية.


مقالات ذات صلة

الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي (الشرق الأوسط)

وزير الخارجية السعودي يبحث مع نظيرته الكندية مستجدات المنطقة

بحث الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مع نظيرته الكندية أنيتا أناند، الأحد، المستجدات في المنطقة وتداعياتها على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
تحليل إخباري مضادات جوية في سماء طهران (رويترز) play-circle

تحليل إخباري تحذير خليجي من تصاعد المواجهات ودعوة إلى تفعيل الوساطة

تجد دول الخليج نفسها في قلب العاصفة الناجمة عن المواجهة الإسرائيلية - الإيرانية؛ إذ يفرض قربُها الجغرافي من بؤرة التوتر تهديداتٍ أمنيةً واقتصادية جدية.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
الخليج ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان (واس)

ولي العهد السعودي يُعزِّي الرئيس الإيراني في ضحايا اعتداءات إسرائيل

جدَّد الأمير محمد بن سلمان إدانة السعودية واستنكارها للاعتداءات الإسرائيلية التي تمس سيادة إيران وأمنها، وتُمثِّل انتهاكاً للقوانين والأعراف الدولية.

«الشرق الأوسط» (جدة)
الخليج شبكة الرصد الاشعاعي تغطي 400 موقع في السعودية (هيئة الرقابة النووية)

الرصد الإشعاعي في السعودية... 400 محطة ومركز طوارئ بـ4 أنظمة

تغطي شبكة الرصد الإشعاعي البيئي المستمر والإنذار المبكر في مركز عمليات الطوارئ بهيئة الرقابة النووية والإشعاعية في السعودية، مناطق واسعة من البلاد.

«الشرق الأوسط» (جدة)

مصر: «الباعة الجائلون» يستخدمون «حناجرهم» ببراعة رغم هيمنة التكنولوجيا

أحد الأهالي يحصل على بعض المثلجات من بائع متجول في منطقة العمرانية بالجيزة (الشرق الأوسط)
أحد الأهالي يحصل على بعض المثلجات من بائع متجول في منطقة العمرانية بالجيزة (الشرق الأوسط)
TT

مصر: «الباعة الجائلون» يستخدمون «حناجرهم» ببراعة رغم هيمنة التكنولوجيا

أحد الأهالي يحصل على بعض المثلجات من بائع متجول في منطقة العمرانية بالجيزة (الشرق الأوسط)
أحد الأهالي يحصل على بعض المثلجات من بائع متجول في منطقة العمرانية بالجيزة (الشرق الأوسط)

من شرفة منزل متواضع بمنطقة شعبية في ضاحية الهرم (محافظة الجيزة)، خرجت سيدة ثلاثينية بمجرد أن سمعت النداء: «اللبن... يلاااا اللبن»، بينما ينزل أولادها الثلاثة إلى الشارع بسعادة، يستقبلون البائع المتجول، ليختاروا ما يشتهون، في مشهد يوحي بـ«المكافأة اليومية».

الأول اختار حلوى «الأرز باللبن»، والأخرى «الجُبن»، وثالثهم «اللبن»، والأم تدير حواراً مع البائع وأولادها من شرفتها. كان ذلك في الفترة بين صلاتي المغرب والعشاء، حين يكون الأربعيني هاني محمد، في منتصف رحلته اليومية لبيع منتجاته، وهو يقطع طريقه ببطء، متفحصاً النوافذ؛ لعل أحداً يطلّ.

يتجول هاني، بدراجة هوائية، يحمل على جانبيها قِدر الألبان وفي وسطها صندوق لحمل الجُبن والأرز باللبن، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إنه يعمل بائعاً متجولاً منذ 25 عاماً، ومن دخل هذا العمل ربّى أولاده.

بائع الألبان المتجول واحد ضمن عشرات الباعة ممن يجوبون المنطقة ليل نهار، بعضهم يبيع الخضروات والفاكهة، مطلقين نداءات مثل «مجنونة يا أوطة (طماطم)»، أو يتغزلون في فاكهتهم: «يا بلح ولا تين ولا عنب زيك». وآخرون يبيعون المثلجات و«غزل البنات»، بخلاف «البليلة»، وهي وجبة تُعدّ من القمح، سجل أحد الباعة أغنية للدعاية لها، ونسخها الباقون.

@shroukagag

شاب مصري عامل اغنية للبليلة #بليلة #kenzysala @Shroukagag

♬ الصوت الأصلي - Shroukagag

نوع آخر من المتجولين، هم المنادون على «الروبابيكيا» و«الزيوت المستعملة»، ممن يشترونها مقابل بيعها فيما بعد لآخرين.

اللافت استمرار ظاهرة الباعة المتجولين الذين يعتمدون على النداء المباشر بأصواتهم الجهورية، رغم التطور التكنولوجي وما أحدثه من تغيرات في حركة البيع والشراء، حتى جاوز حجم التجارة عبر الإنترنت في مصر عام 2022 نحو 121 مليار جنيه (الدولار يساوي 49.5 جنيه)، بزيادة 30 في المائة عن عام 2021، وفق مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.

ويرجع الباحث في الإنثروبولوجيا، وليد محمود، استمرار هذه الظاهرة إلى «طبيعة زبائنهم»، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»: «زبائنهم لا يتحملون دفع 50 جنيهاً (نحو دولار) لتوصيل السلع».

ربما حمل ذلك مبرراً لوجودهم بكثرة في المناطق «الشعبية» و«الريفية» أو بعض «المدن الجديدة»، لكنهم يتمددون أيضاً إلى مناطق مرفهة. ففي منطقة المهندسين (تبعد نحو 5 كيلو مترات عن وسط القاهرة)، يتجول باعة باستمرار، معلنين عن بضاعتهم بحناجرهم القوية، مزاحمين كبار المحال التجارية صاحبة «البرندات».

تداخل إنساني

فسر الباحث في علم الاجتماع والإنثروبولوجي، عصام فوزي، أسباب توغل الباعة الجائلين بـ«العلاقة الإنسانية التي تنشأ بينهم وبين أهالي المناطق التي يتجولون فيها»، ووصفها بـ«العلاقة الملتبسة، أحياناً ينزعجون منهم ومن أصواتهم العالية، وأخرى يمازحونهم ويشترون منهم وينتظرونهم».

بعدما اختار أبناء سيدة الشرفة ما يشتهونه، تفاجأت الأم بأن طلبات أبنائها جاوزت الـ100 جنيه التي أعطتها لهم، فطلبت من البائع أن تدفع الباقي في اليوم التالي عند مروره، ووافق دون تردد.

ويرجع البائع موقفه إلى «العلاقة الإنسانية» بينه وبين زبائنه، قائلاً: «لا بد أن أشعر بالناس، فأنا أبيع اللبن منذ كان سعره 180 قرشاً للكيلو، والآن أصبح بـ40 جنيهاً».

باعة في منطقة العتبة لا يتجولون لكن لا يستقرون في محال تجارية أيضاً (الشرق الأوسط)

اللحن المميز

يسود الصمت عادةً في منطقة حدائق أكتوبر (تبعد نحو 36 كيلومتراً عن وسط القاهرة) إلا من أصوات الباعة الجائلين، مرة يبيعون أسطوانات الغاز، وأداتهم النقر على الأسطوانة، أو الفواكه مستخدمين عبارات مبتكرة.

والأكثر وجوداً من بينهم في هذه المنطقة هم جامعو «الروبابيكيا»؛ يطلق أحدهم الكلمة «بيكيااااااا»، والآخر «روبابيكيا بيكياااا» ثم يزيد «أيّ كراكيب قديمة... أيّ كتب مدارس... أيّ تلاجات أيّ غسلات»، مستخدمين مكبرات صوت، لينفذ نداؤهم إلى الأدوار المرتفعة، وبعضهم يستخدم تسجيلاً.

ويرى فوزي أن «دخول هذه الأدوات على عمل الباعة انعكاس لتغليب الجوانب النفعية على الفنية»، موضحاً: «في الماضي كانت الجوانب الفنية أكثر وضوحاً حتى أن سيد درويش استلهم بعض ألحانه وأغنياته منهم».

جامع روبابيكيا يستخدم عجلة بصندوق فيما آخرون يستخدمون سيارات نصف نقل (الشرق الأوسط)

يسرح الباحث الاجتماعي الذي جاوز الستين عاماً بذاكرته في زمن طفولته، في مدينة الزقازيق، حين كان يمر بائع «العرقسوس» (مشروب مُثلج) مردداً مقطعاً غنائياً للترويج لمشروبه، والأطفال من حوله يرقصون على نغم الأغنية، مع الصاجات التي يستخدمها هؤلاء أداة إضافية للتنبيه، فضلاً عن ملابس خاصة تميزهم.

حسين الصياد، بائع المثلجات واحد ممن استبدل النداءات المسجلة بصوته، فقبل سنوات كان يتجول في شوارع منطقة العمرانية (جنوب العاصمة) منغماً كلمة «الطبيييييعي»، ويقصد أنه يصنع مثلجاته من فواكه طبيعية. الآن يتجول مع جهاز تسجيل ومكبر صوت يردد «بولة بولة» (وحدة تعبئته). يقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «أكثر راحة له، يحافظ على جذب الانتباه وفي الوقت نفسه لا يكلف حنجرته عبء النداء».

ذاكرة للمدن وسلوكها

لا يحمل الباعة الجائلون فقط بضائعهم، لكنهم يحملون معها «ذاكرة المدن وسلوكيات قاطنيها»، وفق فوزي، قائلاً: «كل منهم قادر على رصد تفاصيلها بدقة، ويتغيرون فيعكسون تغير تلك المدن».

كان بائع الألبان هاني محمد يتجول حاملاً «زُمارة» لتنبيه زبائنه بقدومه، لكن «بسبب الأطفال الذين يتندرون عليّ، لم أعد أستخدمها، وأضطر للنداء الذي يرهق حنجرتي، خصوصاً أنني لا أستخدم مكبر صوت، حتى لا أزعج السكان». ويضيف بأسى: «الأخلاق لم تعد متوفرة مثلما كانت قديماً».

تغيُّر آخر يتمثل في حالة «الركود» التي يرصدها هاني، وكذلك بائع الخضروات شعبان رجب (30 عاماً) الذي يقول لـ«الشرق الأوسط»، إنه «يبدأ عمله في الصباح بالتمركز في نقطة معينة، لكن مع تقدم اليوم، وركود البيع يتجول بحثاً عن الرزق».

وتواجه مصر أزمة اقتصادية منذ عام 2016، دفعت الحكومة إلى تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار أكثر من مرة، وكذلك اللجوء للاقتراض من صندوق النقد الدولي. وانعكس ذلك على مستوى معيشة الكثيرين وسط ارتفاع لنسبة التضخم، التي سجلت في مايو (أيار) الماضي، على مستوى سنوي 13.1 في المائة.

بائع الألبان هاني محمد خلال جولته بإحدى ضواحي الهرم (الشرق الأوسط)

ويقول بائع الألبان: «كنت أتجول ببضاعة 3 أضعاف الحالية، وتُباع في وقت أقل، الآن أحتاج إلى 6 ساعات حتى أتمكن من بيع بضاعتي رغم قلتها».

ويعدُّ فوزي أن «الباعة الجائلين ظاهرة تتجاوز الزمن»، إذ إنهم «موجودون منذ قرون، منذ كانوا ينادون (شكوكو بإزازة) فهؤلاء من أوائل الباعة الجائلين، كانوا يعدون لعبة بلاستيكية بسيطة على شكل الفنان الكوميدي محمود شكوكو (1912-1985)، حتى يشجعوا الأطفال على تقديم ما لديهم من زجاجات فارغة، تستخدم في عمليات إعادة التدوير».

ولا يبدي الباحث في الإنثروبولوجي وليد محمود التقدير ذاته لهم، إذ يذهب ذهنه إلى «باعة المترو ووسائل النقل» الذين وفق قوله «يبيعون بضائع غير مطابقة للمواصفات»، ويضيف: «بعضهم يمارس الشحاتة (التسول) تحت ستار البيع».

أما المتجولون في الأحياء الشعبية فيرى أنهم «يتهربون من الضرائب، ويزعجون السكان بنداءاتهم المتكررة»، على حد تعبيره.