على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

سهى نعيمة لـ«الشرق الأوسط»: حوّلت البيت إلى متحف لالتصقَ بروح ميخائيل ومَي

TT

على آخر خُطى ميخائيل نعيمة... «حارسة الذاكرة» تكشف خبايا السنوات الأخيرة

على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط)
على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط)

ليست حكاية عاديّة تلك التي ترويها سهى نعَيمة، التي أمضت إلى جانب الأديب والمفكّر اللبناني ميخائيل نعيمة السنوات الـ20 الأخيرة من حياته. وهي في الأصل سهى حدّاد، لكنّ القلب اختار اسم «جدّو ميشا»، الذي ربّى الفتاة في غياب الأب بعد طلاق الوالدَين عندما كانت بعدُ في أحشاء والدتها.

«باستثناء الأبوّة البيولوجيّة، كان ميخائيل نعيمة أبي بكلّ معاني الكلمة. رغم سنّه المتقدّمة يوم وُلدت –80 عاماً– فهو ربّاني بتَعبِه وأطعمني وكَساني وأرسلني إلى المدرسة والجامعة»، هذا بعضٌ قليل مما تقوله سهى عن عمّ والدتها في لقائها مع «الشرق الأوسط».

تنادي سهى الأديب ميخائيل نعيمة «جدّو ميشا» وهو في الواقع عمّ والدتها لكنها تعده والدها الحقيقي (الشرق الأوسط)

«ميماسونا»

بعد أن غادر عمّها الأكبر ووالدتها هذه الدنيا، حلّ الفراق ثقيلاً عليها وآلمتها الوحدة، فقرّرت ملء الفراغ بما يُحيي ذكراهما ويؤنسها في آنٍ معاً. «للتعويض عن الغياب وللتخفيف من الألم، عملتُ على تحويل البيت الذي جمعنا 20 عاماً إلى ما يشبه المتحف». سمّت المكان MiMaSuNa (ميماسونا) جامعةً الحروف الأولى من أسمائهم واسم العائلة.

تعيش سهى اليوم في متحف ميخائيل ومَي، كما لو أنها قرّرت الالتصاق بروحَيهما. هي حارسة الذاكرة وهذا يُسعدُها. «لم أشعر بالتعب خلال تحويلي البيت إلى متحف عام 2015. ساقَني حبّي وشَوقي لهما. عملت بشغف على المشروع، وموّلته من راتبي المتواضع كأستاذة جامعيّة. هذا المكان بمثابة طفلي ولا أستطيع الابتعاد عنه».

على هذه الكنبة كان يجلس نعيمة وقد حوّلت سهى كل زاوية إلى ذكرى (الشرق الأوسط)

مخطوطاتُه، وكتبُه، وأقلامُه، وتفاصيلُ وجهه، وقبّعتُه وعصاه، وعلبة سجائره، والأواني التي تناول الطعام فيها، ونظّاراتُه، وسريره والعباءة... كلُّ تفصيلٍ هنا يُشعر الزائر كأنّه في معبد نعَيمة، الذي عُرف بـ«ناسك الشخروب» نسبةً إلى عشقه لقريته بسكنتا ولعزلته وسط طبيعتها. لكن كيف نزل نعيمة إلى المدينة وانغمسَ في صخبها بعد 37 عاماً أمضاها في أعالي لبنان، متخلياً بذلك عن النُّسك والهدوء؟

ميخائيل ومَي

تشرح سهى أنّ صلابة العلاقة التي جمعت نعيمة بابنة شقيقه و«ابنته الروحيّة» مي، عوّضته عن تلك الغربة. «صارت مي هي الشخروب وبسكنتا والطبيعة والوطن. أينما حلّت حلّ البيت». وما الصور التي تزيّن أرجاء المنزل كافّة سوى دليل على خصوصية تلك العلاقة. هنا احتفلا معاً بعيد ميلاد الصغيرة، وهناك احتسيا قهوة العصر على كنبة الزاوية، وفي الشخروب إجازة صيفيّة في أحضان الطبيعة، أما قرب غرفة نومه فلقطاتٌ لمَي وهي تساعده في الحلاقة بعد أن خانته يداه مع تقدّمه في السنّ.

صورة لميخائيل ومي وسهى نعيمة خلال إحدى إجازات الصيف قرب صخرة الأديب في الشخروب (الشرق الأوسط)

يوم عاد ميخائيل نعيمة من غربته الأميركية إلى لبنان في الـ43 من عمره، أقام مع شقيقه في بسكنتا وشارك في تربية أبنائه الثلاثة. تعلّق الأولاد به، خصوصاً الكبرى مَي التي تأثّرت بثقافته واتّساع فكره. تذكر سهى أنّ «العمّ ميخائيل وسّع آفاق ابنة أخيه، ومنحها الثقافة من خلال القراءات، كما أنه غذّى روحها وفكرَها وهي ابنة القرية النائية». ولاحقاً خلال سنوات المراهقة، كان يصطحبها إلى بيروت لشراء الملابس والحليّ؛ «أيقظها إلى قيمتها شكلاً ومضموناً».

استوعب نعيمة مَي في مراحل حياتها كافّة، وحتى عندما انفصلت عن زوجها في زمنٍ كان الطلاق فيه أمراً نافراً، احتضنها وفتح لها بيتاً وانتقل للإقامة معها ومع مولودتها.

أمضى ميخائيل نعيمة السنوات الـ20 الأخيرة من حياته إلى جانب ابنة شقيقه وابنتها (الشرق الأوسط)

بعد كل ما تُبصره العين وتسمعه الأذن عن حكاية ميخائيل ومَي، يجوز التساؤل إن كانت تلك العلاقة قد تطوّرت إلى ما هو أعمق من بنوّة روحيّة. هل كان كل ذلك الاهتمام حباً بين رجل وامرأة؟ تنفي سهى نعيمة الأمر، وتحفظ العلاقة في خانة المحبّة الصافية بين عمّ تعامل مع ابنة شقيقه كأنها ابنته، وهي بادلته الاهتمام تفانياً فكرّست حياتها لخدمته، تحديداً في آخر 20 سنة من عمره. وتضيف سهى أنّ تلك العلاقة أوحت لنعيمة بأكثر من كتاب، من بينها «عدوّ النساء» و«نجوى الغروب».

صورة لميخائيل نعيمة في زاويته المفضّلة وإلى جانبه ابنة شقيقه مَي (الشرق الأوسط)

خبز وزبدة وعسل

في سنواته الأخيرة، غالباً ما لجأ نعيمة إلى كتبه فأعاد قراءتها. أحبُّها إلى قلبه، وفق ما تنقل عنه سهى، «كتاب مرداد» الذي خطّ جزأه الأكبر خلال جلوسه داخل صخرته في الشخروب. وقد رافقته الكتابة حتى الرمق الأخير؛ «آخر ما كتبه كانت أمنية لي بمستقبل باهر. حصل ذلك قبل 5 أيام من رحيله»، تُخبر سهى.

إلى جانب الذكريات الملموسة، تحتفظ سهى نعيمة بمشاهد في البال عن «جدّو ميشا». «أراه جالساً في زاوية هذه الكنبة وهو يلعب الورق. كنت آتي إليه وأضع رأسي على كتفه ويحضنني قائلاً: (يا روحات جدّك إنتِ)، ثم نصمت طويلاً». في أرشيف ذاكرتها كذلك، عاداته اليوميّة الصغيرة التي كانت تبدأ بحركاتٍ رياضيّة، يليها استحمامٌ ووجبة فطور لم تتبدّل يوماً، وهي مؤلّفة من الجريب فروت وخبزٌ محمّص مع الزبدة والعسل. لاحقاً كان يجلس إلى طاولة المائدة ويكتب، أو يستقبل كتّاباً وصحافيين، بانتظار عودة سهى من المدرسة وتناول طعام الغداء معاً.

تحتفظ سهى بأغراض نعيمة كلّها... وهنا عدّة الحلاقة وصورٌ لمَي وهي تساعده (الشرق الأوسط)

أغمضَ عينَي جبران

من بين الوجوه التي توافدت إلى منزل نعيمة، تذكر سهى توفيق يوسف عوّاد، وشارل مالك، وكمال جنبلاط، وإميلي نصر الله، ومتري بولس، وغيرهم من كبار الأدباء والمفكّرين. غير أنّ الصديق الذي تربّع على عرش الذاكرة، رغم أنّ الموت فرّقهما باكراً، كان جبران خليل جبران.

تصف العلاقة التي جمعت جبران ونعيمة بالعميقة فكرياً وروحياً، رغم طباعهما المختلفة. «لم يكتب جبران شيئاً إلّا وأخذ رأي نعيمة فيه. أسّسا معاً الرابطة القلميّة بهدف النهوض بالأدب العربيّ. وكان نعيمة معجباً بثورة جبران على التقاليد البالية».

جمعت صداقة الروح والفكر بين جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة (الشرق الأوسط)

تُوّجت تلك العلاقة بين الأديبَين الفيلسوفَين، بأنْ رافقَ نعيمة جبران على سرير الموت عام 1931، «كان الوحيد إلى جانبه»، وفق ما تخبر سهى، «وهو واكب الصراع الأخير الذي دام 6 ساعات، قبل أن يغمض له عينَيه».

أما وفاة نعيمة عام 1988، ورغم أنها كانت متوقّعة بسبب سنّه المتقدّمة، فقد خلّفت فجوة هائلة في حياة مَي وقلب سهى. هي التي اعتادت منذ الطفولة أن تصلّي يومياً كي يحفظ الله «جدّو ميشا»، وكانت توقظه أحياناً قبل الذهاب إلى المدرسة خوفاً من أن يرحل في غيابها، صارت تبحث عنه في كل الأماكن. حتى إنها قررت دراسة الفلسفة علّها تعثر عليه فيها.

غرفة نوم ميخائيل نعيمة وجزء صغير من مكتبته التي بقي القسم الأكبر منها في قريته بسكنتا (الشرق الأوسط)

اليوم وهي تتوسّط أغراض ميخائيل نعيمة وأفكاره، تسترجع سهى مطمئنّةً أنفاسه وطاقتَه. لا تحتفظ بالذكرى لنفسها، بل تفتح بيتها المتحف 3 مرات سنوياً أمام العامّة ومحبّي نعيمة، احتفاءً بذكرى ولادته (17 أكتوبر - تشرين الأول)، وإحياءً لذكرى رحيله (28 فبراير - شباط) ورحيل مَي (15 يناير - كانون الثاني).


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

رمال المريخ تصلح لبناء مستعمرات فضائية

فكرة بناء مستعمرات في الفضاء تظل حلماً طموحاً يسعى العلماء لتحقيقه (جامعة نورث وسترن)
فكرة بناء مستعمرات في الفضاء تظل حلماً طموحاً يسعى العلماء لتحقيقه (جامعة نورث وسترن)
TT

رمال المريخ تصلح لبناء مستعمرات فضائية

فكرة بناء مستعمرات في الفضاء تظل حلماً طموحاً يسعى العلماء لتحقيقه (جامعة نورث وسترن)
فكرة بناء مستعمرات في الفضاء تظل حلماً طموحاً يسعى العلماء لتحقيقه (جامعة نورث وسترن)

تَوَصَّلَ باحثون بجامعة ترينيتي في دبلن إلى طريقة لتحويل الرمال الموجودة على سطح المريخ والقمر إلى طوب صلب يمكن استخدامه في بناء مستعمرات مستقبلية في الفضاء.

واكتشف الباحثون طريقة لربط الصخور السطحية والرمال والغبار، والمعروفة باسم «الريغوليث»، باستخدام درجات حرارة منخفضة وكمية قليلة من الطاقة، وفق «بي بي سي».

وتعد فكرة بناء مستعمرات في الفضاء حلماً طموحاً يسعى العلماء والمهندسون لتحقيقه في السنوات المقبلة، حيث يمكن أن توفر هذه المستعمرات بيئة للعيش والعمل خارج كوكب الأرض، مثل القمر أو المريخ.

وتعتمد هذه الرؤية على استخدام الموارد المحلية، مثل الرمال والصخور الموجودة على السطح، لتقليل الاعتماد على النقل من الأرض؛ ما يقلل من التكاليف والانبعاثات البيئية.

وتمثل الابتكارات في تكنولوجيا البناء، مثل استخدام أنابيب الكربون النانوية والغرافين، خطوات مهمة نحو تحقيق هذا الحلم، حيث تسهم في إنشاء هياكل قوية وصديقة للبيئة قادرة على دعم الحياة البشرية.

وتمكّن الباحثون من ربط الجسيمات السطحية، مثل الصخور والرمال والغبار، معاً باستخدام درجات حرارة منخفضة وطاقة قليلة. وتتميز الكتل المبنية باستخدام أنابيب الكربون النانوية بكثافة منخفضة نسبياً، ولكنها تظهر قوة تقترب من قوة الغرانيت؛ ما يجعلها مناسبة لإنشاء هياكل خارج كوكب الأرض،.

وقال البروفيسور جوناثان كولمان، الذي يقود المشروع البحثي جامعة ترينيتي، إن هذا الاكتشاف قد يساعد على تقليل كمية مواد البناء التي تحتاج إلى النقل من الأرض لبناء قاعدة على القمر.

وأكد كولمان أن بناء قاعدة شبه دائمة على القمر أو المريخ سيتطلب استخداماً كافياً من المواد الموجودة في الموقع، وتقليل المواد والمعدات المنقولة من الأرض.

وعند بناء الهياكل في الفضاء، ستسهم الكتل المصنوعة من الجسيمات السطحية وأنابيب الكربون النانوية في تقليل الحاجة إلى نقل مواد البناء إلى الفضاء.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الكتل قادرة على توصيل الكهرباء؛ ما يمكن استخدامها كأجهزة استشعار داخلية لمراقبة الصحة الهيكلية للمباني خارج كوكب الأرض.

وتُبنى هذه الهياكل لتحتفظ بالهواء؛ لذا فإن القدرة على اكتشاف ومراقبة علامات التحذير المبكر لفشل الكتل أمر بالغ الأهمية.

ويعتقد الباحثون أن هذا الاكتشاف يمكن أن تكون له أيضاً تطبيقات عملية في صناعة البناء على الأرض، وذلك بسبب مادة نانوية مشابهة تسمى الغرافين، التي يمكن خلط كميات كبيرة منها مع الأسمنت في الخرسانة، ما يزيد من قوة الخرسانة بنسبة 40 في المائة.

كما يسهم تعزيز قوة الخرسانة في تقليل الكمية المطلوبة لبناء الهياكل. وتُعد الخرسانة حالياً أكثر المواد المستخدمة من صُنع الإنسان في العالم، حيث تشكل عملية تصنيع الخرسانة العالمية نحو 8 في المائة من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم.