تزدهر الذكريات، وتلتئم الاجتماعات، وتتزين الشوارع، وتفوح المباخر من داخل أحياء وحارات مكة العتيقة، في صورة تُعبر عن مدى التلاحم الذي يسود المجتمع المكي خلال ليالي الشهر الكريم، ومع تدفق ملايين المسلمين من ضيوف الرحمن لأداء العمرة في رمضان، وقضاء الوقت في رحاب البيت العتيق، يقضي أهالي مكة تجربة اجتماعية فريدة مع الأجواء الرمضانية الثرية بالقرب من الحرم المكي الشريف خلال الشهر الفضيل.
الذكريات عامرة لأجيال من ساكني الأحياء المكية العتيقة، إذ تجمع بين الألعاب الشعبية التي كانت وسيلة فرح يتيمة ووحيدة، وسُفر إفطار رمضانية محفوفة بالمودة والكرم والجود والعطاء، بعضها لم ينقطع منذ أعوام عن استقبال المحتاجين وغيرهم على الموائد التي أصبحت علامة بارزة في تاريخ المكان، وسمر الدكّات التي تولد فيها الحكايات، وعادات مكية تبدأ مع تزيين الشوارع احتفالاً بحلول الشهر الكريم وسروراً بلياليه التي تعمرها الصلوات والدعوات، إلى تبخير الموائد بالبخور التي تعبق في فضاء الحارات وتعطر الحياة.
سفر رمضانية عمرها عقود
وتحتفظ بعض الحارات العتيقة والأحياء المكية التي اختلطت ذاكرتها الاجتماعية بعبق رمضان، ببعض تقاليدها في كل موسم رمضاني، يحكي هادي العمري صاحب الثلاثين ربيعاً، والذي يسكن حياً يبعد كيلومترات قليلة عن الحرم المكي، أنه تعوّد في كل عام أن يشارك في هذه التظاهرة التطوعية والاجتماعية الأثيرة لكل أبناء جيله، ويضيف: «وفق ما أذكر، لم تنقطع هذه السفرة عن أي رمضان سوى عامين تقريباً بسبب (جائحة كورونا) التي أطبق صمتها في كل مكان، لكنها عادت بعد الجائحة، وأصبح الأحبة يجتمعون من كل الأجيال لاستعادة شريط الذكريات، فهناك أحباب انقطعوا عن الحي بسبب العمل في مناطق أخرى، ولا تتيسر رؤيتهم إلا على سفرة رمضان في كل عام».
تقاليد مكّية وأجواء رمضانية
وفي مطلع الشهر، تتزين حارات وأحياء مكة المكرمة، بالإضاءات المعلقة والأعمدة التي تشع بالألوان لاستقبال شهر رمضان، استشعاراً لروحانياته، ويبدأ ضجيج الشوارع المحبب إلى النفس، لا سيما في أوقات الذروة، وتحظى الأحياء القريبة من الحرم المكي بصدى صوت الصلوات والأذان الذي يصدح في الفضاء، ويبث الطمأنينة في النفوس والأحياء. وفي ليالي الشهر الكريم، ترتدي حارات وأحياء مكة حلة جديدة، حيث تنتشر بسطات بيع المأكولات التقليدية والحلويات الشعبية والمشروبات التي أضحت معروفة ومألوفة ومرتبطة بقضاء أوقات السمر، مثل مشروب «السوبيا» بنوعيها الأحمر والأبيض المصنوعة من منقوع الشعير، وبعضها من كسر الخبز الجاف، واشتهرت بذلك محلات «عم سعيد خضري» منذ أكثر من 50 عاماً في مكة المكرمة.
ويحكي أحمد حويان، الذي شهد سبعين موسماً لشهر رمضان في أحياء مكة وحاراتها، عن البعد الاجتماعي لرمضان، حيث يقول إن كثيراً من ملامح الحياة التقليدية تغيرت، وبقي رمضان ببهائه وروحه التي يبثها في النفوس حاضراً لا يتزعزع، مضيفاً: «مكة هي قبلة المسلمين، ومهجة قلوب أهلها، تنثر عبيرها في كل مكان، ونحن لنا امتياز رمضاني خاص، حيث نعيشه بالقرب من أطهر البقاع وأطيبها فوق الأرض، وفي رمضان لنا ذكريات لا تُمحى، لقد تربّت كل الأجيال في مدرسة هذا الشهر، تعلمنا المودة والتراحم، وصلة الرحم والعطف على المساكين، والجود والبشاشة في ظل هذا الشهر الفضيل، وفوق ثرى هذه الأرض الطيبة المباركة». وعن ضيوف الرحمن، ممن ينزلون في فنادق داخل أحياء مكة العتيقة، يقول حوبان: «عندما نشاهد وصولهم خلال هذه الأيام الفضيلة نشعر تلقائياً بأنهم جيران وأهل، ونفرح حين نشاهدهم يسيرون في الشوارع والحارات إلى المساجد، تضج قلوبنا فرحاً ونحن نرى اجتماعهم في أمن وأمان وضمان في السعودية قِبلة المسلمين».