من بين الأفلام التي تقترحها منصّتا «أبل تي في» و«أمازون برايم» العالميّتان على متابعيهما، يبرز فيلم مختلف عن السائد بحكايته ولغته. إنه «أوركا»، العمل السينمائي الذي يروي القصة الحقيقية للسبّاحة الإيرانية إلهام أصغري (1982)، وصراعها من أجل تحقيق حلمها وتحطيم أرقام قياسية في رياضة السباحة، رغم الأشواك الكثيرة المزروعة في دربها.
الفيلم الذي أُنتج عام 2021 بالتعاون بين «استوديوهات كاتارا» وشركة «أنديشه بارديس جام» بدعمٍ من مؤسسة الدوحة للأفلام، كتبته تالا معتضدي وأخرجته سحر مصيبي، أمّا البطولة فيه فلترانه عليدوستي. هو تعاضدٌ نسائيٌّ إيرانيّ ثلاثيّ الأبعاد، يتجاوز سرد قصة أصغري ليضيء على معاناة الرياضيّات الإيرانيات، في ظلّ ظروفٍ لا تسهّل عليهنّ تحقيق الأماني وتحطيم الأرقام.
توضح المخرجة مصيبي في أحاديث صحافية أن «الفيلم هو سرد واقعيّ للأحداث والمعاناة التي مرّت إلهام أصغري بها، من دون أن يوجّه انتقاداتٍ أو إهانات لأحد».
تدخل إلهام في غيبوبة بعد أن يضربها زوجها حتى الموت. تقبع في المستشفى شهرَين لتخرج منه مع ندوبٍ على وجهها وجسدها، وجراحٍ عميقة في روحها. هي التي تعلّمت السباحة في الخامسة من عمرها، وتفرّغت لتدريسها منذ سنّ الـ17، لا تجد سوى البحر أمامها. لكن، لا المدى الأزرق يشفيها، ولا حرّيّتها المكتسبة بعد الطلاق، ولا دخول طليقها السجن.
في الخلفيّة، هديرُ موجٍ وغناءُ حيتان... تنتظر إلهام هبوط الليل لتدخل المياه الواسعة، وتسبح تحت جنح الظلام لأن السباحة في المساحات المفتوحة ممنوعة على الإناث في بلدها. تعود إلى الذاكرة دماؤها التي سالت أرضاً عندما عنّفها زوجها، وتمتزج بالمياه الدامسة الممتدّة أمامها.
تطول مشاهد السباحة الليليّة في بحر قزوين، وتترافق مع صمتٍ ثقيل. لا تسبح إلهام لتنسى ولا لتهرب، بل لإغراق نفسها. على مدى ليالٍ متتالية، تغوص وتذهب بعيداً وعميقاً لعلّ المياه تسحبها إلى القعر، لتعود بعد ذلك إلى الشاطئ مع استنتاجٍ وحيد: لا يريدها البحر أن تغرق فيه، بل أن تسبح فيه.
وسط مجتمعٍ ذكوريّ وبعد تجربة زواجٍ دامية، وحدَه والد إلهام يقف سداً منيعاً في وجه الأمواج العاتية التي تضرب حياة ابنته. يقدّم الممثل الإيراني مسعود كرامتي أداءً مؤثّراً بشخصية «سعيد»، الأب السنَد الحنون، الذي يقدّر قيمة الرياضة هو الآتي من مسيرة حافلة في مجال الملاكمة.
ينتشل إلهام من غرقها ويشجّعها على الرجوع إلى شغفها الأوّل؛ السباحة. ليست العودة هذه المرة من باب التعليم، إنما من بوّابة الحلم بتحطيم أرقامٍ قياسيّة. غير أنّ الأمواج تبدو عالية وصعبة الركوب؛ من القوانين الصارمة التي تمنع المرأة الإيرانية من السباحة في الهواء الطلق، إلى إشكاليّة الملابس الشرعيّة، وليس انتهاءً برئيسة اتّحاد الألعاب الرياضية النسائية، التي تحارب إلهام بكلّ ما أوتيت من شراسةٍ ولؤم.
ما عاد من السهل إحباط عزيمة إلهام بعد كل ما مرّت فيه. غير آبهةٍ بالموانع، تسجّل رقمها القياسيّ الأول عام 2008 بعد اجتيازها 12 كيلومتراً في بحر قزوين خلال 4 ساعات و45 دقيقة. يحدث ذلك تحت عدسات الصحافة، وفوق إرادة السلطات الرسمية. يشرف الوالد على تمارينها ويواكبها عن قرب من داخل القارب المرافق لها في البحر.
تندر إلهام أصغري ما تبقّى لها من عُمر للأرقام القياسية. صحيحٌ أن الإنجازات تذهب أدراج الرياح، وسط امتناع السلطات الرسمية واتّحاد الرياضات النسائية عن الاعتراف بها، لكنّ السبّاحة تحترف الإصرار وهي تدرك أنّ الأزرقَ الواسع قدرُها.
تكرّر رئيسة الاتّحاد أنه «لا أرقام قياسيّة تُسجَّل لنساءٍ يسبحن في الهواء الطلق»، كما أنها تعترض على ملابس إلهام مع أنه لا شيء ينقصها من الحشمة. لكن في مقابل مَن يزرعون الدرب عتمة، ثمّة شخصياتٌ في الفيلم على هيئة شعاعٍ صغير. فيومَ تهرب إلهام من ضيق الأفق بحثاً عن روحها في بلدة بحريّة بعيدة عن طهران، تلتقي هناك بصاحبة فندق وابنها يفرشان الأرض أمامها حباً ودعماً.
تؤمن «ماهال» بقضية إلهام وتستثمر فيها كما لو كانت قضيّتها. تُطلق عليها لقب «أوركا»، وهو حوتٌ ضخم معروف بلونَيه الأسود والأبيض. ترافقها إلى التمارين اليوميّة، تنتظرها على الشاطئ كي لا تبقى وحيدة، توظّف معارفها من أجل الحصول لها على إذنٍ للسباحة نهاراً، كما أنها تخيط لها ثوباً للسباحة شبيهاً بجلد الأوركا، وليس من المفترض أن يواجَه باعتراض رئيسة الاتّحاد.
يتميّز أداء الممثلة مهتاب نصيربور (ماهال) من بين زملائها في الفيلم. تنضح ملامحها بالشغف والقوّة كلّما نظرت إلى إلهام وتذكّرت أنّ أحلامها هي أحلام كل امرأةٍ إيرانية.
بين عامَي 2013 و2014، تحطّم إلهام 4 أرقام قياسيّة في السباحة ببحر قزوين، من بينها اثنان وسط عواصف ودرجات حرارة متدنّية. رغم ذلك، فإنّ وزارة الرياضة تصرّ على رفض الاعتراف، إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تتعرّض فيه لعمليّة صدم بَحريّة خلال السباحة، تنفّذها مجموعة من الرجال على متن قارب. ويتميّز تصوير المشاهد البَحريّة بواقعيّته واحترافه، فتبدو مزيجاً من عناصر التوثيق والتشويق والدراما.
تنقضي 3 سنوات تعود بعدها إلهام أصغري مرةً جديدة أقوى من ندوبها، وعينها هذه المرة على العالميّة. أمام موفد موسوعة «غينيس» والجماهير المحتشدة لتشجيعها، تقطع 4 كيلومترات من خليج العرب خلال 3 ساعات وتحطّم الرقم القياسيّ.
في إشارةٍ رمزيّة إلى واقع الرياضيّات الإيرانيات، وضعت أصغري الأصفاد حول يدَيها من أجل عبور تلك المسافة.