الجموم... حاضرة في العصر الحجري ومحطة التقاء قبل الإسلام

مكث فيها النبي محمد قبل فتح مكة

«سوق مجنة»... إحدى أهم الأسواق قبل الإسلام (بلدية الجموم)
«سوق مجنة»... إحدى أهم الأسواق قبل الإسلام (بلدية الجموم)
TT

الجموم... حاضرة في العصر الحجري ومحطة التقاء قبل الإسلام

«سوق مجنة»... إحدى أهم الأسواق قبل الإسلام (بلدية الجموم)
«سوق مجنة»... إحدى أهم الأسواق قبل الإسلام (بلدية الجموم)

في مُحيط الجموم وعلى تلك الأرض كتب التاريخ سطره الأول، ولم يجف من العصر الحجري حتى يومنا هذا، سائل المحبرة، فظل القلم يرسم على القرطاس ملامح أقوام وحقب، تلتها حقب وأقوام، فعشقها الحالمون وتغنى بها الجهابذة والفرسان ليسطروا صولات وجولات شعراً هنا، وفي «المجنة» خطابة، لا يبحثون عن الزعامة، فالمجد في كل الزوايا، أينما تقف فإن النقوش والخربشات تحاكيك، وما في بطون الكتب وإن كانت جاثمة على الرفوف يقول لك بشموخ هنا الجموم.

هذه المدينة العتيقة القابعة في الجهة الغربية من منطقة مكة المكرمة، احتضنت كل ما هو ممكن وغير ممكن. الصبا ووجهها الفتان يبهر المارين بها والماكثين بين جنباتها، ففيها سر الوجود «المياه» المشتق من اسمها «جم»، وفيها حكاية هنا وتاريخ هناك وما بينهما ثقافة وتجارة، تلك هي الجموم التي عاشت الماضي بكل تفاصيله فتذكرها الحاضر، بعد أن توجت سيرتها الأولى بمكوث الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو متجه لفتح مكة، وأيضاً خلال سيره لأداء حجة الوداع.

وعلى مدى التاريخ، زاحمت الجموم قريناتها وأخذت زينتها من كل عصر حتى في زماننا هذا، لتكون حاضرة في المشهد، لم تغب عن كتب التاريخ وحكاياته، ولم تنسَ أنها منذ البدايات كانت طريق الحالمين، فهي ما زالت متمسكة بتاريخها حاضرة بوديانها وموقعها الحيوي بين مكة المكرمة وجدة، فكانت بحق المدينة المتجددة لكل عصر وزمان، والرابط المهم بين شقيقاتها تجارياً.

وتبدأ الحكاية عندما سجل المؤرخون بعض المنقوشات والآثار المنثورة في الجموم لوجود بشري في المدينة منذ آلاف السنين، أو ما يعرف بالعصر الحجري قبل التاريخ، نزلوا عندها بعد أن استوقفهم جمال المدينة وما فيها من عيون ووديان، فأقاموا بها، وتركوا للتاريخ بعضاً من آثارهم التي أظهرتها الاكتشافات الحديثة لأنواع مختلفة من الأدوات الحجرية التي تشير بوضوح لتلك الحقبة.

واستمر الحال على ما هو عليه، أقوام تتبعها أقوام، ففي الزمن الماضي، وتحديداً قبل الإسلام، سطرت المحافظة اسمها؛ إذ كان للعرب أسواق مهمة في الجزيرة العربية، ومنها «سوق مجنة» التي تقع في الجموم على طريق الحج الشامي، وانتزعت المركز الثاني في الأهمية بعد «سوق عكاظ»، وفقاً لكثير من الروايات التي تشير إلى أن السوق تعد من أهم الظواهر الحضارية والاجتماعية في تلك الحقبة والتي قدمت كثيراً من الخدمات، وأسهمت في نماء الأنشطة الحضارية والاجتماعية، ووفرت الكثير من المواد التجارية ومستلزمات الحجاج والمسافرين، إضافة إلى تأثير السوق في اللغة والأدب، ودورها في تقريب لهجات القبائل.

ووفقاً لعدد من الروايات، فإن العرب كانت تقضي العشرين يوماً الأولى من شهر ذي القعدة في «سوق عكاظ»، ثم تسير نحو «سوق مجنة»، وتبقى هناك العشرة المتبقية، قبل أن ينطلقوا إلى حجهم، حيث كانت السوق تعد مركزاً تجارياً عملاقاً في تلك الحقبة، لتنوع البضائع مع ما يطرح من شعر، ويرى البعض أنها كانت تضاهي «سوق عكاظ» إلا أنها لم تحظَ بذاك الزخم في كتب المؤرخين.

وللحديث عن أهمية المدينة، يوضح عبد الخالق بدر الزراقي، مدير العلاقات العامة والإعلام في بلدية الجموم في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن اسم الجموم اشتُق من «الجم»، وهو الماء الغزير، وكانت الجموم فعلاً كذلك؛ إذ قُدر إنتاج عين الجموم بمليوني غالون في اليوم، وهو عامل مهم في وضعها على خريطة الاقتصاد من قديم الأزل.

ولفت الزراقي إلى أن الجموم سجلت حضورها منذ القدم، وشهدت استيطاناً بشرياً يعود للعصر الحجري أو ما قبل التاريخ، فظهرت بعض المواقع عند أطراف وادي فاطمة بمحاذاة السلاسل الجبلية، وعند مصبات الأودية، كما انتشرت بعض الأدوات الحجرية التي تشير بوضوح لتلك الحقبة في مواقع متعددة من المحافظة.

وتابع أن اتصال الجموم المباشر بالنشاط الاقتصادي القائم بمكة، ووقوعها بمحاذاة الطرف الشمالي والطرف الغربي لمكة، مع بروز خط التجارة الرابط بين مكة والشام قبل الإسلام وبعده، جعل من الجموم ركيزة مهمة في تشكيل هذا الخط، فاكتسبت أهمية تجارية لا بأس بها، خاصة مع بروز «سوق مجنة» المحاذية للجموم من الجهة الشمالية الشرقية.

وأضاف مدير العلاقات العامة، أنه بعد هجرة النبي الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) للمدينة المنورة، أصبحت الجموم مكاناً لإقامته، وهذا ما سجله التاريخ في أوقات مختلفة، منها السنة الثامنة للهجرة عندما أقام بها، وتحديداً في موقع مسجد الفتح، قبيل دخول مكة بليلة واحدة، كما مر بها الرسول الكريم إبان حجة الوداع ذهاباً وإياباً، موضحاً أن مسجد الفتح يعد أهم مَعلم إسلامي اليوم تتمتع به الجموم.

وتحدث الزراقي عن نظم الري القديمة المنتشرة حول الجموم والعائدة لعدة قرون مضت بعضها يرجع للعصر العباسي، ومن أهم معالمها التراثية جبل سدر الملاصق لطرفها الجنوبي، ويعرف بذي سدر في المراجع القديمة، إضافة إلى مسجد الروضة، ومبرة الملك عبد العزيز طيّب الله ثراه.

ومن المعالم البارزة في المحافظة، سد وادي فاطمة الذي يقع على وادٍ كبير من أودية تهامة، أو ما يعرف بوادي «أبو حصاني»، في حين كان يسمى قديماً «بطن مر»، ويبلغ طوله 210 كم، ويجري من الشرق للغرب بدءاً من أعالي السراة حتى يصب في جنوب مدينة جدة. وفي عام 1405 أقيم في الوادي سد لتغذية المصادر الجوفية لمياه الآبار، وتأمين مياه الشرب لمحافظة جدة، من خلال تغذية الآبار التي تم حفرها في منطقة خلف السد، وتغذية محطة القشاشية، ما زاد من أهمية الجموم في الماضي والحاضر لتوفر المياه بشكل مستمر على مدار العام. وتعد مبرة الملك عبد العزيز، طيّب الله ثراه، التي أنشئت في عام 1355، أحد أبرز المشاريع التي أنشئت من أجل توفير الغذاء، ومنه الخبز، والدقيق، وغير ذلك من الخدمات لسكان المدينة والقرى المجاورة، إضافة إلى خدماتها التي تقدمها إلى الحجاج والمعتمرين القادمين من جهة الجموم.


مقالات ذات صلة

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق مهرجانات بعلبك حدثٌ فني عمرُه 7 عقود احترف النهوض بعد كل كبوة (صفحة المهرجانات على «إنستغرام»)

من ليالي أم كلثوم إلى شموع فيروز... ذكريات مواسم المجد تضيء ظلمة بعلبك

عشيّة جلسة الأونيسكو الخاصة بحماية المواقع الأثرية اللبنانية من النيران الإسرائيلية، تتحدث رئيسة مهرجانات بعلبك عن السنوات الذهبية لحدثٍ يضيء القلعة منذ 7 عقود.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق د. جعفر الجوثري يحمل صور الأقمار الاصطناعية ويستكشف موقع معركة القادسية (أ.ب)

في العراق... صور الأقمار الاصطناعية تقود علماء الآثار إلى موقع معركة تاريخية

قادت صور الأقمار الاصطناعية التي تم رفع السرية عنها والتي تعود إلى سبعينات القرن العشرين فريقاً أثرياً بريطانياً - عراقياً إلى ما يعتقدون أنه موقع معركة قديمة.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
يوميات الشرق ريكاردو خلال مناقشة كتابه «نص صعيدي ونص خواجة» (الشرق الأوسط)

«نص صعيدي ونص خواجة» يوثّق صورة مصر في عيون الجاليات الأجنبية

بفهرس عناوين غير تقليدي يتضمن «قائمة طعام»، يدخل كتاب «نص صعيدي ونص خواجة» إلى عالم من المكونات والمقادير والوصفات الإيطالية التقليدية التي يستعرضها المؤلف.

منى أبو النصر (القاهرة )
يوميات الشرق حمل المخرج هادي زكاك كاميرته وذهب يبحث عمّا تبقّى من سينما طرابلس (صوَر زكّاك)

«سيلَما»... روحٌ تائهة في صالات طرابلس المَنسيّة وبين ركامها

لم يبقَ من صالات السينما في طرابلس، والتي كانت 42 في الماضي، سوى واحدة. المخرج هادي زكّاك يقف على أطلال «سيلَما» من دون أن يحوّل فيلمه الوثائقي إلى مَرثيّة.

كريستين حبيب (بيروت)

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».