بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

سيرة مليئة بالمغامرات والإثارة في كتاب يستعيد الذكريات

بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
TT

بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)

لا يزال اسم بديعة مصابني جذاباً لكثيرين ممن عرفوا شيئاً عن مسيرتها المثيرة. فنانة شاملة؛ تغنّي على المسرح، ترقص وتمثّل، حتى حار النقاد في وصفها. الآن، تعود السيدة التي تربّعت على عرش مسرح «الفودفيل» في مصر قرابة 40 عاماً، إلى الواجهة، مع صدور مذكراتها بعناية الباحث مروان فليفل في طبعةٍ ثانية عن دارَي «نلسن» اللبنانية و«ريشة» المصرية، بعد نصف قرن من صدورها للمرة الأولى.

تأتي أهمية سيرة مصابني المولودة عام 1892 في دمشق لأم سوريا وأب لبناني، من أحداث حياتها المليئة بالمغامرات، وتتمفصل مع أحداث سياسية وفنية مهمّة مرّت بها المنطقة. فقد عاصرت الدولة العثمانية أيام السلطان عبد الحميد الثاني، وشهدت الحرب العالمية الأولى، ثم سقوط الدولة العثمانية وحلول الانتدابين البريطاني والفرنسي، وتقسيمات «سايكس بيكو». كما عاشت الحرب العالمية الثانية، والاستقلالات العربية، وسقوط الملكية في مصر. وهي، خلال كل هذه السنوات، كانت تتنقل من بلد إلى آخر، وتعاني وتجاهد من أجل أن تجد أماناً، قبل أن تتمكن بالفن من نيل شهرة كبيرة في مصر، وإدارة أحد أهم الكازينوهات التي عرفتها القاهرة في تاريخها.

كتاب يروي سيرة بديعة مصابني المثيرة (الجهة الناشرة)

عائلتها متوسطة، من 7 أولاد، أصغرهم بديعة، يعيشون من مصبنة. يفارق الوالد الحياة وتحترق المصبنة ليبدأ طريق الآلام. فجأة، تصبح الصغيرة وديعة ابنة السنوات السبع، قبل أن تُسمّى بديعة، عاراً على العائلة بعد تعرّضها للاغتصاب، وتقرّر والدتها التشهير بالمغتصب وسوقه إلى المحكمة. لكنه لا ينال سوى حكم عابر، بينما صارت بديعة مَثارَ شفقةِ أهل الحي وثرثراتهم، وعبئاً على عائلتها، وسبب الغضب والعنف الدائمين لوالدتها. أمام هذا الوضع البائس لا ترى الأم حلاً مع ابنتها سوى الهجرة.

غادرت بديعة مع والدتها دمشق إلى بيروت، حيث انتظرهما باقي أفراد العائلة. «ركبنا أول باخرة صادفناها درجة رابعة، أي على (ظهر البابور)، وذلك من دون جوازات سفر. كانت السفرة سلسلة عذاب لا تنتهي. وجدني جميع أفراد أسرتي سبب ذُلّهم وفقرهم وتشرّدهم. كانوا يجاهرون بهذا الشعور أمام الجميع، فوالدتي تنتهرني باستمرار أمام الناس بلهجتها الشامية (الله لا يكبّرك، الله يقصف عمرك، حمَّى تسلقك...)، وتنهال عليّ ضرباً بقسوة. وكلما تذكّر أحد أشقائي بلاده وصعُبت عليه حالته، شتمني وضربني على مرأى من الركاب ومسمعهم، حتى أصبحتُ لخوفي من الضرب، أحتمي بالبحارة الذين كانوا ينقذونني من أهلي».

في الأرجنتين، تعلّمتْ ابنة الثامنة الإسبانية والرقص والغناء في المدرسة، وأُعجب بها أساتذتها، فاهتموا بموهبتها. لكنَّ الأم لم يهنأ لها البقاء، فعادت بابنتها طامعةً في إرث والدها الذي تُوفي، ولم تعثر على ما يستحق التضحية. من جديد، توجّهت ببديعة إلى لبنان هرباً من سوء المُقام في حيّهما، لكنَّ الرحلة كانت على الأقدام. تروي بديعة الألم والتشرد اللذين ذاقتاهما بينما وصلتا إلى بيت شقيقتها قرب مدينة جبيل. وهي لم تكن السفرة الأخيرة مشياً. فالمواصلات قليلة، والوالدة الحريصة تكره الإنفاق، فكانت النتيجة السير مع ابنتها من دمشق إلى جبل لبنان.

بديعة مصابني فنانة متعدّدة المواهب (مواقع التواصل)

لكن المُقام لم يَطِبْ للأم، فقررتا السفر إلى مصر. حلمُ الفن لم يفارق الصبية. في القاهرة، وبينما كانت بديعة في حديقة الأزبكية تمارس هوايتها في التزحلق، تعرّفت إلى شخص قادها إلى المسرح المجاور. «دخلنا مسرح الأزبكية، وكانت أول مرة تطأ فيها قدمي مسرحاً. وجدتُ نفسي في دنيا ثانية، جميلة، تختلف عن غرفتنا، وأمي وأخي توفيق... بسرعة البرق تصورتُ نفسي على المسرح أرقص وأُغنّي وأنا ألبس الحرير، وتُزيّن عنقي المجوهرات لتنعكس عليها الأضواء الساطعة. غبتُ في حلم لذيذ، كأنني أسمع تصفيق الجمهور وهتافه. لم أفق منه إلا عند انتهاء حفلة (الماتينيه)، فخرجتُ من أنوار المسرح إلى ظلمة الشارع».

هناك تعرّفت إلى جورج أبيض، وبدأت الرحلة. لم تُجِد بديعة العربية لاعتمادها الإسبانية في المدرسة بالأرجنتين، لكن جورج أبيض عهد بها إلى جورج سليم الذي علّمها لغتها الأم، وباتت قادرة على أن تقرأ النصوص وتحفظها، وتؤدي أدوارها.

حين بدأت التمثيل، كانت في الثالثة عشرة، وأخفت عن والدتها ما كانت تفعله. إلا أنّ تضييق الأم عليها، جعلها تسعى إلى التخلّص منها. تمكنت «العفريتة» من إقناع والدتها بأنّ العودة إلى دمشق أفضل. اشترت تذكرة قطار واحدة: «ذهبنا إلى المحطة وصعدنا القطار وأنا أتظاهر باللهفة عليها وعلى أمتعتها. وما إن شعرت بأنّ القطار بدأ يتململ ليُسرع في المسير، حتى نهضت وقلتُ لها ببساطة: (أنا ذاهبة أبحث لنا عن طعام... ونزلتُ منه)».

هكذا انطلقت بديعة وبدأت رحلتها الفنية بكامل الحرية. من بعدها، تعرفت إلى فرقة الشيخ أحمد الشامي التي تجول في الأرياف، وأدّت أدواراً متنوّعة، فيها التمثيل والغناء. تعرّفت مصادفة إلى نجيب الريحاني وتزوّجته عام 1943، وانطلقت معه في شراكة فنية ناجحة، دشّنتها بجولة في أميركا الجنوبية، وكانت أنجح أعمالها معه «الليالي الملاح». استمر الزواج 25 عاماً، لم تكن سهلة بين شخصين مختلفَي المزاج. لكنها تقول إنه كان لها عوناً فنياً كبيراً جداً.

بديعة مصابني ونجيب الريحاني يوم زفافهما (ويكيبيديا)

بعد انفصالها عن الريحاني، أنشأت شركة إنتاج سينمائي، وخسرت بعد تراكم الضرائب عليها. أما مشروع العمر فهو «كازينو بديعة» الذي كان عالماً يضجّ بعشرات الموسيقيين والمغنّين والراقصين والموظّفين. كازينو، ومطعم ومقهى، و«روف غاردن». طبقات ثلاث تعجّ بالرواد طوال النهار. من هذا الكازينو، تخرّج فنانون كثرٌ. من هنا مرّت تحية كاريوكا وسامية جمال، وغنّى فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب، وعُقدت الجلسات الثقافية التي كان من بين جلسائها نجيب محفوظ.

لكنّ الحياة تبدّلت. سرق بريق السينما الفنانين، وبدأ «كازينو بديعة» يفقد وهجه ونجومه، وتراكمت الضرائب على صاحبته. يقال إن ثمة مَن دبّر لها مكيدة للتخلّص منها، فهربت إلى لبنان، لكنها أضاعت ثروتها، ولم يبقَ منها إلا القليل. وعملت في مدينة شتورة البقاعية ببيع الأجبان والألبان طوال 24 عاماً. عانت انطفاء الضوء، والوحدة، والعزلة طوال هذه الأعوام، إلى أن توفيت في يوليو (تموز) عام 1974 عن 86 عاماً.


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
TT

اختبار «اللهجة الفلاحي»... تندُّر افتراضي يتطوّر إلى «وصم اجتماعي»

لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)
لقطة من فيلم «الأرض» (أرشيفية)

مع انتشار اختبار «اللهجة الفلاحي» عبر مواقع التواصل في مصر بشكل لافت خلال الساعات الماضية، وتندُّر كثيرين على مفردات الاختبار التي عدَّها البعض «غير مألوفة» وتحمل معاني متعدّدة؛ تطوّر هذا الاختبار إلى «وصم اجتماعي» بتحوّل ناجحين فيه إلى مادة للسخرية، بينما تباهى خاسرون بالنتيجة، وعدّوا أنفسهم من أبناء «الطبقة الراقية».

وكتبت صاحبة حساب باسم بسمة هاني بعد نشر نتيجة اختبارها «اللهجة الفلاحي»، 5/ 20، عبر «فيسبوك»: «يعني أنا طلعت من EGYPT»، مع تعبير «زغرودة» للدلالة إلى الفرح.

ونشر حساب باسم المهندس رامي صورة لرجل يركب حماراً ويجري بسرعة وفرح، معلّقاً أنه هكذا يرى مَن نجحوا في اختبار «اللهجة الفلاحي».

وكتب حساب باسم سعيد عوض البرقوقي عبر «فيسبوك»: «هذا اختبار اللهجة الفلاحي... هيا لنرى الفلاحين الموجودين هنا وأقصد فلاحي المكان وليس الفكر».

ورداً على موجة السخرية والتندُّر من هذا الاختبار، كتب صاحب حساب باسم محمد في «إكس»: «هناك فلاحون يرتدون جلباباً ثمنه ألف جنيه (الدولار يساوي 48.62 جنيه مصري) ويمتلك بيتاً من هذا الطراز – نشر صورة لبيت بتصميم فاخر – ويعرف الصح من الخطأ، ويعلم بالأصول وهو أهل للكرم، تحية لأهالينا في الأرياف».

وأمام التحذير من تعرّض المتفاعلين مع الاختبار إلى حملات اختراق، كتب الإعلامي الدكتور محمد ثروت على صفحته في «فيسبوك»: «اختبار اللهجة الفلاحي مجرّد (ترند) كوميدي وليس هاكرز، ويعبّر عن جهل شديد في أصولنا وعاداتنا المصرية القديمة». فيما كتب حساب باسم إبراهيم عبر «إكس»: «أخاف المشاركة في الاختبار والحصول على 10/ 20. أهلي في البلد سيغضبون مني».

وتضمّ مصر عدداً من اللهجات المحلّية، وهو ما يردُّه بعض الباحثين إلى اللغة المصرية القديمة التي تفاعلت مع اللغة العربية؛ منها اللهجة القاهرية، واللهجة الصعيدية (جنوب مصر)، واللهجة الفلاحي (دلتا مصر)، واللهجة الإسكندراني (شمال مصر)، واللهجة الساحلية واللهجة البدوية. ولمعظم هذه اللهجات اختبارات أيضاً عبر «فيسبوك».

اختبار «اللهجة الفلاحي» يغزو وسائل التواصل (فيسبوك)

في هذا السياق، يرى أستاذ الأدب والتراث الشعبي في جامعة القاهرة الدكتور خالد أبو الليل أنّ «هذا (الترند) دليل أصالة وليس وصمة اجتماعية»، ويؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنّ «إقبال البعض في وسائل التواصل على هذا الاختبار محاولة للعودة إلى الجذور».

ويُضيف: «صوَّر بعض الأعمال الدرامية أو السينمائية الفلاح في صورة متدنّية، فترسَّخت اجتماعياً بشكل مغاير للحقيقة، حتى إنّ أي شخص يمتهن سلوكاً غير مناسب في المدينة، يجد، حتى اليوم، مَن يقول له (أنت فلاح) بوصفها وصمة تحمل معاني سلبية، على عكس طبيعة الفلاح التي تعني الأصالة والعمل والفَلاح. محاولة تحميل الكلمة معاني سلبية لعلَّها رغبةُ البعض في التقليل من قيمة المجتمعات الزراعية لأغراض طبقية».

ويتابع: «مَن يخوض الاختبار يشاء استعادة المعاني التي تعبّر عن أصالته وجذوره، أما من يتندّرون ويسخرون من الفلاحين فهُم قاصرو التفكير. ومن يخسرون ويرون أنّ خسارتهم تضعهم في مرتبة اجتماعية أعلى، فهذا تبرير للفشل».

ويشير أبو الليل إلى دور إيجابي تؤدّيه أحياناً وسائل التواصل رغم الانتقادات الموجَّهة إليها، موضحاً: «أرى ذلك في هذا الاختبار الذي لا يخلو من طرافة، لكنه يحمل دلالة عميقة تردُّ الحسبان للفلاح رمزاً للأصالة والانتماء».

لقطة من فيلم «المواطن مصري» الذي تدور أحداثه في الريف (يوتيوب)

ويعيش في الريف نحو 57.8 في المائة من سكان مصر بعدد 45 مليوناً و558 ألف نسمة، وفق آخر إحصائية نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2022، بينما يبلغ سكان المدن نحو 40 مليوناً و240 ألف نسمة.

من جهتها، ترى أستاذة علم الاجتماع في جامعة بنها، الدكتورة هالة منصور، أنّ «الثقافة الشعبية المصرية لا تعدُّ وصف (الفلاح) أمراً سلبياً، بل تشير إليه على أنه (ابن أصول) وجذوره راسخة»، مضيفة لـ«الشرق الأوسط»: «يُسأل الوافدون إلى القاهرة أو المدن الكبرى عن أصولهم، فمَن لا ينتمي إلى قرية يُعدُّ غير أصيل».

وتُرجِع الوصم الاجتماعي الخاص بالفلاحين إلى «الهجرة الريفية الحضرية التي اتّسع نطاقها بدرجة كبيرة نظراً إلى ثورة الإعلام ومواقع التواصل التي رسَّخت سلوكيات كانت بعيدة عن أهل الريف».

وتشير إلى أنّ «السينما والدراما والأغنيات ترسّخ لهذا المنظور»، لافتة إلى أنه «من سلبيات ثورة 1952 التقليل من قيمة المهن الزراعية، والاعتماد على الصناعة بوصفها قاطرة الاقتصاد. وقد أصبحت تلك المهن في مرتبة متدنّية ليُشاع أنَّ مَن يعمل في الزراعة هو الفاشل في التعليم، وهذا لغط يتطلّب درجة من الوعي والانتباه لتصحيحه، فتعود القرية إلى دورها المركزي في الإنتاج، ومكانها الطبيعي في قمة الهرم الاجتماعي».

وعمَّن فشلوا في اختبار «اللهجة الفلاحي» وتفاخرهم بذلك بوصفهم ينتمون إلى طبقة اجتماعية راقية، تختم أستاذة علم الاجتماع: «هذه وصمة عار عليهم، وليست وسيلة للتباهي».