من شبه المستحيل أن يحافظَ مسلسلٌ امتدّ 7 سنوات و6 مواسم، على المستوى ذاته من الإقناع مع مرور الفصول. نقلةٌ نَوعيّة لا تخلو من التحدّيّات السرديّة، يشهدها الموسم السادس من «ذا كراون» (The Crown) مع طيّه صفحة الماضي البعيد، ودخوله التاريخ المعاصر الذي ما زال محفوراً في ذاكرة معظم المشاهدين.
في الحلقات الـ4 الأولى من الموسم الجديد، والتي أرادتها «نتفليكس» منفصلةً شهراً عن الدفعة الثانية من الحلقات الستّ الآتية منتصف ديسمبر (كانون الأول)، يجد المُشاهد نفسَه أمام روزنامة الشهرَين الأخيرَين من حياة الأميرة ديانا.
يعرف الجمهور النهاية الدراماتيكيّة مسبقاً؛ ما دفع بمؤلّف العمل بيتر مورغن إلى ابتداع إضافاتٍ تلوّن الوقائع التاريخيّة. غير أنّ بعض تلك الألوان تحوّلت «شطحات» من الخيال، وهي لم تَرُق للمشاهدين ولا للنقّاد. خرج كثيرون ليستنكروا مشاهدَ أعادت ديانا بعد وفاتها، طيفاً يحادث طليقها الأمير تشارلز وحماتَها الملكة إليزابيث. وكذلك فعلوا حيال المشاهد التي ظهر فيها «شبح» دودي الفايد على والده محمّد، ليتناقشا في موضوعٍ غريبٍ عن السياق، وهو «نَبذ الغرب للعرب»، حيث يصل الأمر بشبح دودي إلى تهدئة أبيه بالقول: «في القاهرة، في بيروت، وفي بغداد، شايفينّي بطل»!
حرصَ مورغان على دقّة كبيرة في نقله الأحداث الواقعيّة، لكن عندما زارَه الخيال، انغمس الكاتب البريطاني في سيناريوهات لا تُشبه في شيءٍ وفاء المواسم السابقة للواقع. وإلى جانب صدمته بـ«الأشباح»، قد يكون السؤال الأكثر مراودةً للمُشاهد أمام الموسم الجديد من «ذا كراون»: «هل حصل ذلك فعلاً؟».
هل تعرّضت ديانا لهذا الكمّ من التجريح والتنمّر خلال مؤتمرها الصحافي في بوسنيا، بعد مهمّتها الإنسانية المتعلّقة بنزع الألغام؟ هل كان محمد الفايد (الممثل سليم ضوّ) على هذا القدر من القسوة والوصوليّة، فأرغم ابنَه على الارتباط بديانا؟ هل كان دودي الفايد (خالد عبد الله) ضعيف الشخصية ومنصاعاً إلى هذا الحدّ لأوامر والده؟ هل حاربَ تشارلز (دومينيك وست) بتلك الشراسة من أجل تنظيم جنازة رسميّة حاشدة لديانا؟ هل نَهى الأمير فيليب (جوناثان برايس) حفيده وليام عن الالتفات إلى الجماهير المحتشدة في جنازة والدته، آمراً إياه بالنظر أرضاً ومتابعة السير؟
هذه الأسئلة وغيرها ستبقى إجاباتها عالقة، أمّا المؤكّد فهو أنّ الموسم السادس والأخير من المسلسل البريطاني الأشهر على الإطلاق، يبدو الأقلّ تماسُكاً في الحبكة من بين سائر المواسم.
التناقض بين حياة ديانا الجديدة والصاخبة بعد الطلاق، والبرودة التي تلفّ قصر باكينغهام وسائر قصور العائلة المالكة، زاويةٌ أساسية ومتكرّرة يعتمدها المسلسل في معالجة القصة. تحت شمس سان تروبيه، تقف الأميرة الأشهر عبر التاريخ، بملابس السباحة ذات الألوان الفاقعة، متحدّيةً عدسات المصوّرين اللاهثين خلف لقطة لها ولولدَيها وليام وهاري. وفي ما يشبه سيناريو مسلسل رومانسي من فئة الـ«soap opera»، تلوح بينها وبين دودي ملامح علاقة عاطفيّة؛ ما يدفع بالشاب إلى الانفصال عن خطيبته الأميركية.
في المقابل، وتحت سماءٍ إنجليزيةٍ ملبّدة، يحتفل تشارلز بالعيد الخمسين لحبيبته كاميلا باركر بولز. تغيب الملكة عن العشاء من باب عدم الرضا عن تلك العلاقة. وهذا ليس الغياب الوحيد لإليزابيث عبر الحلقات الأربع؛ فبالمقارنة مع حضور الممثلة إميلدا ستونتون المحوَريّ خلال المواسم السابقة، تقف شخصيّة الملكة في الخلفيّة هذه المرّة. تتوارى مُفسحةً المجال أمام «أميرة القلوب».
على غرار ديانا التي أسرت قلوب الناس وسرقت الوهج من العائلة البريطانية المالكة، تسطو الممثلة الأسترالية إليزابيث ديبيكي على المسلسل لتأسر عيون المشاهدين وتسلب الأضواء من زملائها. وحدَها من بين الممثلين، تحاول إنقاذ العمل من بطءٍ جليّ وبناءٍ دراميّ متصدّع أحياناً.
إلى جانب الشبه الملفت بينها وبين ديانا، واستنساخِها المحترف للغة جسد الأميرة، تمنح ديبيكي لكلّ مشهدٍ قيمته. من علاقتها الدافئة بولدَيها واللحظات المسروقة معهما قبل الافتراق الأبديّ، إلى حربها الصامتة مع الصحافة والعدسات التي اجتاحت بضراوة خصوصيّتها ونهشت حياتها، مروراً بتَعاطيها الراقي مع دودي، وليس انتهاءً بالبُعد الإنساني الذي برعت في تجسيده، لا سيّما خلال مهمّتها الدقيقة في بوسنيا وسيرها بين الألغام.
يفتقد المسلسل إلى مزيدٍ من التفاصيل عن تلك الناحية الإنسانية من شخصية ديانا. ما الذي جعلها «أميرة القلوب»؟ وكيف تحوّلت ظاهرةً عشقَها الملايين حول العالم من دون أن يعرفوها؟ كان بالإمكان الاستفاضة قليلاً في هذا الموضوع من خلال جنازتها، التي مرّ عليها المسلسل مرور الكرام. فقد اكتفت الحلقة الرابعة بلقطاتٍ سريعة لشوارع باريس التي استقبلتها بفلاشات الكاميرات القاتلة، ثمّ ودّعتها بنثر الورود. أما في لندن، فلم تنل الجماهير المحتشدة لبكاء ديانا، ما تستحقّ من مساحة دراميّة.
عوضاً عن ذلك، يستهلك بيتر مورغن فائضاً من الوقت في السجالات التي سبقت الجنازة داخل العائلة المالكة. يطول الأخذ والردّ بين تشارلز ووالدَيه حول حقّ ديانا في الحصول على وداعٍ يليق بأميرة، فيما يتمسّك إليزابيث وفيليب بالقواعد الصارمة وبالمشاعر الإنسانية الباردة، بل الغائبة. ومع أنه لا يطلّ سوى في مشاهد قليلة، إلا أنّ قسوة الأمير فيليب في هذا الموسم تفوق المعتاد، وهي مستغربة بعض الشيء، مقارنةً مع شخصيته خلال المواسم السابقة.
لعلّ أكثر اقتضابٍ جاء في مكانه ولم يبتر الأحداث، هو اقتصار مشهد حادث السيارة تحت جسر ألما في باريس ووفاة ديانا ودودي، على لقطاتٍ سريعة إنّما رمزيّة ومعبّرة. لا يصوّر المسلسل هذه التراجيديا بحذافيرها، بل يكتفي بعبور خاطف للسيّارة في شوارع العاصمة الفرنسية، وخلفها درّاجات المصوّرين، قبل أن يُسمع صوت الاصطدام.
وفق المشاهد الترويجيّة للقسم الثاني من الموسم السادس، فإنّه سيُفتتح على أحداث أكثر إيجابيّةً كارتباط وليام بكيت ميدلتون، على أن يُختَتم بزواج تشارلز من كاميلا.